الجمعة 22 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

هيثم الحاج على يكتب: ابن الأصول

حرف

كانت تلك الابتسامة، تُلازمنى كظلٍّ خفيٍّ فى أروقة الجامعة الشاحبة. الأساتذة، أصحاب الكراسى الوثيرة، هم تلك السلالم التى لا تُصعدُ إلا باللينِ. أسمعُ همساتهم، أرى وميضَ الرضا فى عيونهم، كلما انحنيتُ قليلًا، أو زدتُ منسوبَ الإجلال فى كلماتى. إنه إدراكٌ لفنِّ العبورِ. 

هذا العالمُ لا يُصادَقُ إلا بمرايا العشقِ، ولا يُغزَى إلا بقناعِ الوداعةِ. هكذا علّمتنى الشقوقُ التى تركتْها الأيامُ فى روحى. شقوقٌ لا تطلبُ سوى الضوءِ، ذاك الضوءُ الذى يُنسى قتامةَ الحرمانِ. وذلك، عينُ العقلِ ومنتهى الأصولِ فى زمنٍ تاهت فيه البوصلةُ.

أُحللُهم، أرصدُ إيماءاتِهم، تلك اللحظاتُ التى تتكشفُ فيها مسامُ ضعفِهم. أُغذّى فيهم تلك الهشاشةَ المُترفةَ بمديحٍ شفّافٍ، يُعلى من شأنِ أفكارهم، ويُضىءُ إنجازاتِهم التى لم تكنْ لتُرى لولا عدستى. هى ضرورةٌ، حتميةٌ لا مفرَّ منها! هذا المسرحُ لا يُعبرُهُ إلا مَن أجادَ العزفَ على أوتارِ القلوبِ الواهنةِ. 

روحى المُثقلةُ لا ترنو سوى لمقعدٍ هناك، حيثُ لا تُميزُ العتمةُ وجوهَ الفقراءِ. ومن ليسَ له أصولٌ فى هذه الدنيا الفانيةِ، فليخلقْ لنفسه أصولًا من حيثُ يُدركُ هو الفلاحَ.

الدكتور حسن، تحديدًا، كانَ من النوعِ الذى تُثقلُهُ الطيبةُ. فتحَ لى النوافذَ، ألقى لى حبالَ النجاةِ فى كلِّ ممرٍّ ضيّقٍ. كانَ يُبصرُ فىّ فجرًا مُنيرًا، سيُبعثرُ ركودَ الأرضِ. يا لها من رؤيا! الفجرُ الذى أريدُهُ هو ذلكَ الذى يُطيلُ ظلّى ويُقصرُ ظلالَ الآخرينَ. 

كانَ حديثُهُ عن «الوفاء» و«المبادئ» يُخلقُ فى داخلى تململًا صامتًا. كلماتٌ جوفاءُ، كزخرفةٍ قديمةٍ على جدرانٍ تتهالكُ، تُرضى الواعظينَ لِيُبقى الرعيّةَ فى مراعيهم بينما تنفردُ الذئابُ بالوليمة، قلت له إننى لن أستطيع العمل إلا تحت قيادته الحكيمة، وقلت له إنه أخى الأكبر أو فى مقام أبي، واستمعت لكل حكاياه السخيفة التى كان يبرر لنفسه ولى بها أنه يعلمنى كل خبراته، لكننى أعرف أنه ليسَ من الأصولِ البقاءُ فى حقلٍ يقطفُ غيركَ ثمارَهُ.

وها أنا الآن، حيثُ تضعُنى الأضواءُ، مكتبى يشعُ ببريقٍ جديدٍ، والوجوهُ حولى تتشربُ كلَّ كلمةٍ منى. السلطةُ تتسعُ كدائرةِ الزيتِ على الماءِ، اكتملَ كلُّ شىءٍ، إلا تلكَ الوخزةُ الباقيةُ، شظيةٌ صغيرةٌ من ماضٍ لا أُريدُهُ، وجهُ حسن الذى ما زالَ يحملُ بصماتِ تلكَ الثقةِ العمياءِ، يجبُ أنْ يُغادرَ المشهدَ، يجبُ أنْ تُطوَى تلكَ الصفحةُ التى تُحدّثُ عن بداياتٍ أُلغيتْ، وجودُهُ يُشيّعُ ظلالَ ماضٍ كادَ أنْ يبتلعنى. فمن الأصولِ، بل من أعلى درجاتِ الأصولِ، أنْ يُسدلَ المرءُ الستارَ على الفصولِ الباليةِ من حياتِهِ، لِيفتحَ فصولًا أشدّ إشراقًا.

همستُ فى الهاتفِ ببعضِ الكلماتِ المُحكمةِ، عن «بعضِ الملابساتِ» و«ما يمسُّ استقرارَ المكانِ»، كلماتٌ ذكيةٌ، كفيلةٌ بأنْ تُلقى حسن بعيدًا، حيثُ لا تصلُ الأصواتُ، لا أثرَ لثقلٍ، بل خفةٌ غريبةٌ، آخرُ عقدةٍ تُقيّدُنى بالماضى قد انحلّتْ، الآنَ، لا شىءَ، لا أحدَ، يُبرّرُنى سوى حجمِ إنجازاتي، أنا، وحدى، مَن أزاحَ الستائرَ عنْ روحى، هكذا هو ابنُ الأصولِ الحقيقى، لا يُتركُ لِماضٍ رثٍّ أنْ يُعيقَ مستقبلَهُ المشرقَ.

حين دخل علىّ شاب تم تعيينه حديثًا ليحدثنى عن أهم إنجازاتى وأنه يحب أن يعمل تحت قيادتى، وأننى أمثل مثله الأعلى، تصنّعت الاهتمام والجدية وحرصت أن يكون مع حسن فى المكان نفسه، مبتسمًا فى داخلى وموقنًا أنه لا يوجد ابن أصول غيرى.