الإثنين 20 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«تاريخ سرى للعنقاء».. ثلاث شخصيات تبحث عن حقيقتها

تاريخ سرى للعنقاء
تاريخ سرى للعنقاء

تبدو الرواية منذ أولى صفحاتها مفعمة بحالة إنسانية شديدة الرهافة على الرغم من أنها لا تنحاز لشخصياتها، بل تحاول الوقوف معهم على نقاط ضعفهم لتجعلها أساسًا لبناء عالم مكشوف يعتمد على فضح الشخصيات لنفسها ومواجهتها بحقيقتها.

هكذا تبدأ رواية «تاريخ سرى للعنقاء»، وهى الرواية الثانية للشاعروالناقد أيمن بكر، والتى نُشرت مؤخرًا فى دار دون، بمواجهة الشخصية الرئيسية لنفسها ومحاولتها التخلص من عبء ماضيها، فعلى الرغم من كونه صحفيًا ناجحًا وصل إلى منصب رئيس تحرير إحدى المجلات، وهو فى الوقت ذاته أحد نجوم المجتمع، فإنه يقف لوهلة أمام نفسه مقررًا كتابة مذكراته بكل صراحة حسبما عبّر هو عن نفسه، وهى مذكرات قرر أنها ليست للنشر، وبالتالى فإنه يحاول بها كشف نفسه أمام نفسه بغرض التخلص من صوت ضميره الضاغط عليه فى صورة صديقه وزميل الجامعة مراد.

وتبدأ الرواية بصفحاتها الأولى مكتوبة بخط اليد، فى محاولة لوضع القارئ مباشرة أمام فكرة المذكرات المكتوبة، غير أنها تحتوى كذلك على بعض الكلمات المشطوبة التى يمكن قراءتها بسهولة، لتُحدث لدى القارئ تلك المقارنة التى يمكن هو بنفسه أن يعقدها ليصل إلى نسبة الصراحة الفعلية داخل المذكرات، وكأن الرواية تضع القارئ موضع الحكم الذى يمكنه أن يقرر بنفسه مدى مصداقية تلك الفضائح التى يكشفها البطل عن نفسه.

وعلى الرغم من تعدد علاقاته وتعدد الشخصيات داخل مجال حركته فإن البطل- الذى يظل بلا اسم ويمتلك صوت السرد معظم الوقت- يظل وحيدًا طول الوقت بإرادته، وعلى الأقل يحافظ على مسافة واضحة مع كل من يدخل إلى حياته، لدرجة تخفيه بصورة بوليسية عند الدخول إلى منزله الذى لا يعرفه أحد على الرغم من تعدد علاقاته، التى لم يصل أى منها لدرجة الصداقة.

هذه الرواية إذن رواية شخصية غير أنها لا تقف عند حد الشخصية بل تتعداها إلى الكشف عن آليات حركة مجتمع كامل فى فترة من فترات تحولاته، ولهذا يبدو استخدام نموذج الصحفى دالًا على المجالين اللذين تتحرك فيهما دلالات الرواية تلك، بين الشخصى والعام، بين الفردى والمجتمعى، ليكشف بنفسه ليس فقط عن علاقاته بالصحفيين من زملائه ولكن برجال الأعمال ودعاة الدين الجدد والمثقفين وطلاب الجامعة وغيرهم، فى تنوع لا يشعر به القارئ زحامًا بقدر ما يجد لكل عنصر فيه دورًا يظهر داخل الصفحات المكتوبة بخط اليد.

نحن إذن أمام شخصية تحاول أن تتطهر، وفى طريقها لهذا التطهر لا تتورع عن كشف زيفها الشخصى، وإن خففت من حدة الكشف أحيانًا بالمناقشة مرة والتبرير مرات، لكن هذا الكشف الذى يصل لحد الفضح يصل به إلى الأزمة المرضية التى تجبر نائبه على الدخول إلى منزله ورؤية هذه المذكرات واستغلالها لكى يقتنص منه منصبه بتهديد مبطن، سيرًا على طريق رئيسه.

تستغل الرواية كل التقنيات السردية الممكنة لتقف على حالتها بوضوح، غير أن أهم ما يظهر فى الرواية هو ظهور ثلاثة أصوات سردية تتناوب السرد على مدار صفحاتها، فبين السارد العليم الذى يعد شخصية افتراضية تعرف كل شىء عن عالمها وتتحكم فى حركة الشخصيات وتكون قادرة على النفاذ إلى وعى الشخصيات وكشف ما بداخلها، وهى التقنية التقليدية التى تبدو هنا ضرورية لاكتمال فعل الفضح، غير أن هناك ساردًا آخر يمثل البطل يظهر متحدثًا عن نفسه من خلال حواراته الداخلية ومذكراته، وهو من يقوم بالكشف الأساسى داخل مجال حركة السرد، مسلمًا دفة الحديث فى بعض الأحيان، خاصة فى نهايات الفصول، إلى صوت النائب الذى يسير فى ظله معلنًا ولاءه التام وفى أول منحنى يستغل كل ما لديه فى ما يشبه الانتقام منه، ولعل وجود هذا الصوت تحديدًا فى نهايات الفصول له ما يبرره فنيًا من الإشارة إلى أنه سوف يتسلم دفة الحكاية من البطل، ليستكملها هو بالطريقة ذاتها على أقرب تصور.

وبين هذه الأصوات الثلاثة يبدو صوت مراد، الصديق الذى يمثل صوت الضمير، قائمًا بفعل التوازن بين داخل البطل وخارجه، لتظهر الرواية، على الرغم من ما بها من تعقيد ظاهرى، رواية حالة تقترب من الحقيقة وتحاول كشفها فى نسق جمالى يهتم بحركة الأحداث كما يهتم بالشخصية وصراعاتها، فى صدق سردى تستطيع مسايرته لتكتشف فى النهاية حقائقها الخاصة بعالمها.