الخميس 10 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ونس العاجزين.. فنون وجنون تصنيع الأولياء

حرف

للتصوف الفلسفى مساهمات عظيمة فى تطور المفاهيم الدينية والعقائدية

كل ذى عقل رشيد عليه أن يدرك الخطر الكامن فى أى جماعة تستغل الدين على المستوى الشعبى

أوقفنى وقال لى:

«أثناء مرض أمى الأخير، دخلت، رحمها الله، فى غيبوبة، تلك الأيام كانت الأشد إيلامًا ووجعًا، أراها ولا ترانى، أحدثها فلا ترد حديثى، رغم يقينى أنها تسمعنى، أو هكذا خُيّل لى، وأمام عجز الطب، وصمتها، قررت أن أطوف على أصحاب المقامات، علّى أجد عندهم الملاذ، رغم عدم إيمانى التام بما يسمونه كرامات الأولياء، ولكن للعجز قوة تتجاوز حدود الثقافة والعلم، فقررت أن أتوسلهم، وأصلى فى حضرتهم، وأُطعم مريديهم وخدامهم، كنت أنتظر صلاة الفجر، فى ليالٍ شتوية باردة، لأتبارك بحضرة السيدة زينب وسيدنا الحسين، ذهبت أكثر من مرة إلى السيدة نفيسة، وجلست باكيًا أمام الضريح، فكرت أن أترك خطابًا بخط يدى للإمام الشافعى.

هناك رأيت العالم، شعرت بونس العاجزين أمثالى، وسمعت همسات رجائهم وتوسلهم، لفك الكرب، وقضاء الحوائج، الجميع مثلى، خائف من شىء ما، المرض أو الفقر أو فقدان المال أو انقطاع الذرية.. لفت نظرى شاب غريب الأطوار والملامح، يتكرر ظهوره فى كل الأضرحة التى أزورها، وفى نفس التوقيت، بجلبابه الأبيض وخاتمه الفضى الضخم، وملامحه الحادة رغم ابتسامته التى لا تكاد تفارقه، كان يرفع يده بالتحية، كأننا صرنا معارف أو أصدقاء، وفى مقام السيدة زينب، اقترب منى، وهمس باقتضاب، أن أذهب إلى (الشيخ فلان) وذكر لى اسم أحد المشايخ، هناك فى زاويته سوف تجد ضالتك. ولتعلقى بقشة الرجاء والرحمة، قررت الذهاب إلى أطراف القاهرة، لمقابلة الشيخ فى زاويته، وهناك رأيت أضعاف البشر الذين رأيتهم فى الأضرحة الكبرى، والجميع فى انتظار مقابلته بعد صلاة الفجر، الأمر بالنسبة لى أشبه بالمعجزة، فكيف سأتمكن من مقابلته فى كل هذا الزحام، ولكن وفى مشهد مهيب، يظهر نفس هذا الشاب، ليأخذنى من يدى وسط دهشة الحضور، ويدخل بى إلى الشيخ، الذى نظر فى صمت، وابتسم فى هدوء، قائلًا: (ما تقلقش، كل حاجة هتبقى كويسة).. وذهبت وأنا فى حيرة من أمرى. ورغم أن أمى قد توفاها الله فى نهاية المطاف، ولم تفق من الغيبوبة قبل وفاتها، إلا أن أحد الأطباء فى الرعاية المركزة، أخبرنى أن مؤشراتها الحيوية كانت قد تحسنت قبل الوفاة بشكل ملحوظ، واستطاعت أن تفتح عينيها لدقيقة واحدة، وابتسمت، قبل عودتها إلى الغيبوبة، وإلى الأبد، الغريب أن تلك الصحوة الأخيرة قد تزامنت مع الليلة التى زرت فيها الشيخ. ومن يومها وأنا لا أنقطع عن زيارة الأضرحة، أو الصلاة خلف الشيخ فى زاويته، كلما استطعت إليه سبيلًا».

هكذا أجاب أحد الأصدقاء، حينما عاتبته بشدة على رغبته الملحة فى إقناعنا بزيارة الأضرحة واليقين فى قيمة الأولياء. استوقفتنى رحلته من العجز إلى الرجاء، وبدأت بإدراك فكرة غاية فى الخطورة، وهى هل نحن من نصنع الولى، بعجزنا وقلة حيلتنا، أم هو من يستغل مخاوفنا، ليضع نفسه فى منتصف الطريق بيننا وبين المجهول، ويتحول من فرد عادى لا يملك من أمر نفسه شيئًا، إلى بوابة للحياة وما بعدها؟. فللأولياء سلطان عظيم على رءوس العباد، ولكنه سلطان مصنوع بعناية، أسهم فيه الولى والتابع. فالحقيقة أن عدد الأضرحة والمقامات فى مصر، يتجاوز الثمانية آلاف ضريح ومقام، حسب بعض الإحصائيات غير الرسمية، فلا توجد حارة فى مصر تخلو من مقام.

الفتوة صاحب الكرامات

بوصفى متخصصًا فى الدراسات الشعبية والفلكلور، شغل ذهنى لسنوات طوال، كيفية صناعة البطل فى العقل الإنسانى بشكل عام، والمصرى خاصة، فحين يفتقد المجتمع إلى بطل دائم الحضور، يعمد إلى خلقه مباشرة، ويظل الولى بطلًا من نوع فريد، قادرًا على تجاوز حدود الغيب ومحدودية العالم، إلى آفاق لا تنتهى. فيرد العديد من الحكايات عن كرامات الأولياء وقدرتهم البطولية الخارقة، فمثلًا فى كتاب «تحت القبة شيخ» تأليف د.إبراهيم عبدالعليم، يورد المؤلف حكاية عن أحد مشايخ الفيوم، يُطلق عليه «الشيخ على الروبى»، الذى تمكن من تحويل مسار قنبلة كادت تسقط على الفيوم أثناء الحرب العالمية الثانية، لتسقط فى بحيرة قارون. كما تمكن هذا الشيخ من إعادة إحياء الموتى ولو على المستوى الروحى، فيُحكى عن أم فقدت ابنها الوحيد، كافأها الشيخ لكثرة حضورها وتوسلها بضريحه، بأن يسمح لها برؤية ابنها كل ليلة ومحادثته بجانب الضريح، فهو قادر على هزيمة الموت ذاته. كما روى لى أحد الأصدقاء من الفيوم، عن الشيخ «الحابس»، «القادر على حبس الجن ومحاربتهم، وليس للشيطان عليه سلطان». وفى كتاب «مظاهر الاعتقاد فى الأولياء» لمؤلفه «عبدالحكيم خليل سيد»، يورد لنا مجموعة من الحكايات الشفاهية عن لسان مريدى الشيخ «سليم أبومسلم» فى الشرقية، أنه كان يُسخر الطير والوحش. وغيره من الشيوخ القادرين على تسخير الرياح، والسير فوق الماء، وتجاوز الزمان والمكان.

صناعة البطل الولى، أو الولى البطل، جزء أصيل من الذهنية المصرية، الأمر لا يقتصر على محافظة بعينها أو بيئة فى جنوب أو شمال مصر، بل يتجاوز كل البيئات والثقافات. فبطولة الملاحم والسير والأساطير لا تُشفى النهم الإنسانى إلى وجود البطل، فكان لا بد من أن تخلق كل قرية أو حارة فتوتها الدينى الخاص بها، تلجأ إليه حين يسيطر عليها الضعف أو الاحتياج. بل إن العقل المصرى قد وحد فى كثير من الأحيان بين الفتوة كمفهوم عن القوة الجسدية أو الحكمة، والولى صاحب الكرامة، مثلما حدث مع تاريخ «الشيخ الذوق» (اللى مخرجش من مصر)على سبيل المثال فقد رُويت العديد من الحكايات الشعبية عن قوته البدنية وقدراته الملحمية فى الحروب، وكذلك كراماته التى لا تنتهى، وغيره الكثير من أولياء فتوات، أو فتوات حاذوا مقام الولاية. المشكلة أن تلك الفكرة تنسحب لدى المريدين، دفاعًا عن أوليائهم حال تعرضهم لأى أزمة تاريخية أو مجتمعية، ويضعونهم مباشرة فى إطار البطل المظلوم، أو غير المُقَدر من الجهلاء والمضلين المنكرين كرامات مولانا. فالفتونة والأولياء أصحاب الكرامات يتداخلون فى كثير من الجوانب، ما يجعل منهم رموزًا مهمة فى الثقافة الشعبية والدينية، تعكس احتياجات المجتمع ورغباته فى القوة، والحكمة، والإلهام الروحى.

الولى إعادة صياغة للأساطير القدمية

نحن هنا لا نتحدث عن التصوف كقيمة فكرية أو طريقة خاصة فى الاعتقاد، فللتصوف الفلسفى مساهمات عظيمة فى تطور المفاهيم الدينية والعقائدية. ولكنى أقصد وبشكل مباشر الممارسات الشعبية التى تخلق من الوهم أولياء وأصحاب كرامات، تلك الممارسات المعتمدة فى الأساس على العديد من الأفكار والمعتقدات القديمة الساكنة فى العقل المصرى. ولنا فى ضريح «أبوالحجاج الأقصرى» خير مثال، فبعيدًا عن كرامات الشيخ التى يتحاكى بها الركبان فى الأقصر وما حولها، فإن بناء الضريح على أنقاض معبد آمون المشيد فى عهد رمسيس الثانى، وعلى أنقاض كنيسة قديمة كانت مقامة هى الأخرى بجوار المعبد، يمنح للضريح رمزًا دينيًا معقدًا ومتراكمًا منذ آلاف السنين.

بل إن العديد من الطقوس المرتبطة بالأولياء مرتبطة بأعياد مصرية قديمة، مثل شم النسيم على سبيل المثال، فيُحكى عن شيخ يُسمى «سيدى أبوخلف أبوقرعة» أن مولده كان يوم شم النسيم، وأن من طقوس أتباعه شرب الخمر فى نفس يوم مولده، وكما ورد فى كتاب «تحت القبة شيخ»، فإن النساء اللائى لا ينجبن كن يذهبن إلى المقام فى المولد، ليشربن الخمر علّ الشيخ يباركهن ويبشرهن بالإنجاب. والغريب فى الأمر أن كل طقوس شم النسيم تُقام بنفس الخطوات فى يوم المولد. وهو أمر متكرر فى العديد من المحافظات ومع الكثير من أصحاب الكرامات.فالارتباط بين الطقوس المصرية القديمة والحفاظ على فكرة الأولياء ارتباط أساسى، فقد حافظ المصريون على تراثهم الأصيل، ولكن ألبسوه ملابس الأولياء.

أولياء الخصوبة والجنس

لصناعة الولى أهداف شعبية مباشرة وواضحة، وتعتبر قضية الخصوبة والجنس من القضايا التأسيسية فى العلاقة بين الأولياء وأتباعهم. فقد حُكى عن الشيخ «أبوقرعة» أنه كان لا يمر على بيت فيه امرأة عاقر إلا وأنجبت، وكان يزور البيوت ليبارك نساءها. وكان صاحب قدرة على أن يُعيد الشيخ إلى صباه، ويمنحه ببركته القدرة الجنسية الفائقة. ويُحكى فى جنوب مصر عن مقام لـ«وليّة» من أولياء الله اسمها «مريم»، وضريحها من الأضرحة الشهيرة فى الصعيد، وكان مشتهرًا عنها أنها فتاة جميلة، مريدة للشيوخ الكبار منذ طفولتها، فبدأت رحلتها فى عمر التاسعة إلى أن بلغت شبابها، وورثت العلوم الباطنية من العديد من الأولياء السابقين، وصارت من أصحاب الكرامات، خاصة النساء اللائى يرغبن فى الزواج أو الإنجاب، ولها ظهورات بعد وفاتها فى الرؤى والأحلام والواقع أحيانًا لدى النساء والرجال من التابعين المخلصين، والتبرك بضريحها يشمل المسلمات والمسيحيات.

وكذلك من أدوات العقوبة التى يمارسها الأولياء ضد المنكرين لكراماتهم ومكانتهم، أن يحرموهم من قدراتهم الجنسية، فيروى عن «الشيخ الحفنى» فى الشرقية أن أحد الشباب سخر منه فارتدى ملابس النساء وطلب من الشيخ أنه يجعله «حامل»، وحينما فطن الشيخ إلى الخديعة بفطرته جعله يحمل كالنساء، ولم تزل اللعنة عنه إلا بعد اتباع الشاب للشيخ الحفنى. تلك الفكرة متكررة ثانية لدى امرأة من أصحاب الكرامات اسمها «الحاجة آمنة» التى حولت رجلًا إلى امرأة لمجرد أن طلب يدها للزواج بعنف، وقلل من هيبتها.

فالجنس بمفهومه المرادف للمتعة والخصوبة والحياة أعتبر ركيزة أساسية فى العهد المسكوت عنه بين التابع والشيخ، بل يعتبر الهدف الجنسى بكل أشكاله عنصرًا أساسيًا فى العديد من موالد الأولياء، سواء النساء العاقرات، أو غير المتزوجات، أو الرجال الذى يعانون من ضعف ما يمس ذكورتهم أو وجودهم من الأساس.

ولاية السحر والسيطرة على المريدين

النفوذ والهمينة على النفوس، من الأهداف الأكيدة لكل مدعى الولاية أو الكرامة، أو من أتى بعدهم من خُدام، فالأمر لا يتوقف عند الشيخ أو ضريحه، ولكن هناك عالمًا أكثر تعقيدًا من خدم ومريدين ومدعين. تلك الهيمنة أحيانًا تتم بواسطة ما يسمونه الحب بين الشيخ والمريد، ومحاولة التداخل النفسى والاجتماعى فى كل تفاصيل حياة الأتباع والميريدين، لدرجة أن يدعى بعضهم أن حب الشيخ أعلى مكانة من حب النفس. ومن شروط الحب الكامل، أن يُسلم المريد نفسه إلى الشيخ، لدرجة قد تصل إلى الاستلاب النفسى.

يتداخل الأمر كذلك، بعلوم السحر والشعوذة أحيانًا، فعلاقة الأولياء بالعوالم اللا مرئية، متداخلة وبشدة، خاصة فى نفوس مريديهم، الذى يؤمنون بقدرات الشيخ، واتصاله بالعالمين السماوى والأرضى، وأمام عجز المريد وتغييب العقل، يستخدم مدعو الولاية وخدامهم الطقوس والتعاويذ السحرية، تأكيدًا على القدرات غير العادية على يتمتع بها الولى، ففى جنوب مصر وفى العديد من الأضرحة فى الوجه البحرى، تُقام طقوس تسمى «التدحرج» وهى أن يسلم المصاب جسده إلى الشيخ أو خادمه عن طريق تعاويذ معينة، ليخرج الجن من جسده، بعد أن يتدحرج جسده أمام الشيخ، ويمرغ وجهه فى تراب أقدامه. ومن ضمن ما يقال من عبارات حال طلب التابع أن يشفيه الشيخ من مرض أو داء، عن طريق حلول الشيخ فى جسد التابع أو المصاب ليشفيه:

«الجلد جلدك والجسم جسمك.. كل ما فنى لك أنت.. اتصرف فيه ومحدش عارف إلا أنت»

فالمريد أو التابع عليه أن يُسلم جسده وفكره وروحه لشيخه، حتى يتلبسه ويقضى له ما يريد.إلى غير ذلك من أحجبة وأدعية وغيرها يوهم الولى أو خادمه اتباعها، أنها قادرة على الشفاء وتغيير القدر إلى الأفضل، وبسلطة العجز أو الإيحاء، يصدق كل صاحب حاجة فى كرامة الشيخ.

مشاهير وأولياء

كل ذى عقل رشيد عليه أن يدرك الخطر الكامن فى أى جماعة تستغل الدين على المستوى الشعبى، على اختلاف التوجهات أو الأفكار، فتلك الجماعات تشكل قنابل موقوتة قد تنفجر فى وجه المجتمع فى وقت لا يحمد عقباه، فجماعات التصوف الشعبى التى تمارس تغييبًا متعمدًا للعقل أمام سحر كلمات الحب، أو خرافة الكرامات، قد تكون من معاول هدم تطور المجتمع بشكل عام. خاصة إذا تحول الولى أو شيخ الطريقة إلى نجم اجتماعى، فمن البديهى أن يتجاوز تأثيره عالمه المحدود بأتباعه إلى عالم أوسع وأكثر خطورة، وفى هذه اللحظة تتساوى الثقافات، فالشهرة تمنح صاحبها شرعية مخيفة. وقد سعى العديد من الأولياء أو مدعى مشيخة الطرق إلى تحقيق شهرة واسعة، سواء عن طريق الارتباط بالمشاهير فى وسط اجتماعى ما، أو باستخدام وسائل التواصل الحديثة، فشيوخ وخدام الأضرحة أصبحوا الآن أولياء مواقع التواصل الاجتماعى.

ومنذ العهود القديمة، وأصحاب المناصب والنفوذ ومشاهير القرى والنجوع والمجتمع بشكله الأكبر، وهم فى سعى دائم لربط أسمائهم ووجودهم بالأولياء وأصحاب المقامات قديمًا وحديثًا، على اختلاف درجات الوعى أو التعليم والثقافة. وقد يعود ذلك فى جانب منه إلى إيمان هؤلاء المشاهير بعالم الأولياء، أو محاولة الحصول على الأمان الدائم فى مقابل تغيرات وتقلبات الحياة التى قد تهدم صروحهم فى غمضة عين. أو سعى بعضهم إلى التقرب من الجمهور العريض لهذا الشيخ أو ذاك الولى، ما يضمن نيل مزيد من الشهرة والتحقق، ما قد ينعكس على الجانب الاقتصادى على سبيل المثال. ولكن على اختلاف المشارب والأهواء، يظل ارتباط المشاهير بالأولياء ظاهرة منفصلة تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتحقيق، لما يمثلة من خطورة حقيقية.

صناعة الولى تحتاج إلى متابعة مجتمعية جادة، خاصة فى هذه المرحلة، فبعد اعتمادها على الثقافة الشعبية، التى تتكون على مدار سنوات وعلى مهل، أصبحت الآن أشد اشتعالًا وسرعة فى الحضور، وأصبح تأثير الأولياء بإصداراتهم الجديدة أكثر وضوحًا على المستويين الفكرى والاجتماعى.