السبت 12 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

الحديث الصادم.. عندما دافع نصر حامد أبو زيد عن المثلية الجنسية

حرف

- كتاب «صوت من المنفى.. تأملات فى الإسلام» الذى صدرت ترجمته العربية عام 2015 بتوقيع إستر نيلسون ونصر حامد أبوز يد

- الكتاب كانت نتاجًا لحوار مطول أجرته إستر نيلسون مع نصر بداية من عام 2002 عندما قابلته للمرة الأولى

- من السهل الانضمام إلى الجوقة وإصدار أحكام صارمة بحق المختلفين عنى

- كونت صداقات مع عدد من المثليين جنسيًا القاطنين بالولايات المتحدة الأمريكية أذكر بعضهم من الموهوبين بشدة

اعتقد- مجرد اعتقاد- أن نصر حامد أبوزيد لو لم يخرج من مصر مطاردًا ومضطهدًا ما قال هذا الكلام، لا أقول إنه قال شيئًا يخالف قناعاته، لكنه كان على الأقل كان سيتحفظ ولو قليلًا قبل أن يتحدث بهذه الصراحة- كانت مطلقة فى الحقيقة- عن المثلية الجنسية. 

لا أعتبر ما سأقوله هنا سبقًا ولا انفرادًا، ولكنه يدخل فى باب الكشف الصحفى. 

فما قاله «نصر» عن المثلية الجنسية منشور لكنه ليس منتشرًا، ومتاح لكن لم ينتبه إليه أحد، ومعروف لكن لدى دائرة ضيقة، هى الدائرة التى قرأت كتاب «صوت من المنفى.. تأملات فى الإسلام» الذى صدرت ترجمته العربية عام 2015 بتوقيع إستر نيلسون ونصر حامد أبوزيد، وترجمة نهى هندى. 

إستر كما جاء تعريفها فى نهاية الكتاب هى أستاذة الدراسات الدينية بجامعة فيرجينيا كومنولث، وكاتبة حرة تنشر أعمالها فى العديد من الصحف والمجلات حول العالم. 

تعرفت إستر على نصر وتجربته على مراحل. 

المرحلة الأولى عندما قرأت عام ١٩٩٨ مقالًا لـ«مارى آنى ويفر» فى جريدة «النيويوركر» بعنوان «ثورة متسللة»، فانجذبت إلى قصة الباحث الذى أجبره الإسلاميون على ترك جامعة القاهرة متهمينه بالهرطقة. 

بحثت عن جريمته، فوجدت أن كل ما فعله هو أنه طرح تفسيرًا مجازيًا للقرآن عوضًا عن التفسير الحرفى الجامد لهذا النص المقدس، ففى يونيو من عام ١٩٩٥ أعلنت محكمة الاستئناف أن كتابات أبوزيد فى حد ذاتها أثبتت أنه مرتد. 

اكتشفت «إستر» نصر فى المرة الثانية فى فبراير من عام ٢٠٠٢ عندما قرأت مقابلة أجراها معه «دانييل دى كاستيلو» فى دورية التعليم العالى بعنوان «باحث إسلامى فى المنفى»، ووقفت أمام قوله: إننا نعانى فى العالم العربى من عدم قدرة المفكرين على إدارة حوار بين بعضهم البعض، فى حين أن السبب الرئيسى وراء ظاهرة الإرهاب هو غياب أى مجال عام لتبادل الأفكار. 

عرضت «إستر» على رئيس قسمها بالجامعة الدكتور كليف إدواردز أن تقابل نصر. 

قال لها: أنت مسافرة للشرق الأوسط عبر أمستردام، فلتتوقفى لإجراء مقابلة مع نصر. 

كانت «إستر» تتنقل بين الولايات المتحدة الأمريكية حيث تعمل، والمملكة العربية السعودية حيث يعمل زوجها مهندسًا للبترول. 

قالت لرئيس القسم: هذا ما أريد أن أفعله بالضبط. 

بدأت إستر تطرح على نفسها أسئلة رأت أنها منطقية:

فهل سيوافق نصر على إجراء المقابلة من الأساس؟ 

وإن وافق.. ماذا ستخبره؟

وكيف ستشرح له ما هو الشىء الذى جذبها ولا يزال يجذبها إلى قصته؟ 

أسئلة «إستر» كانت منطلقة من مساحة خاصة بها، فقد نشأت فى «بوينس آيرس» بالأرجنتين، لوالدين من التبشيريين البروتستانتيين الأصوليين، وأمضيا عمرهما فى محاربة الهرطقة، وفى غمرة اقتناعهما بأنهما مرسلان من قِبل الله، كرسا حياتهما لخدمته، فقد كان ملخص وظيفتهما «امض فى أنحاء العالم، وقم بإلقاء مواعظ الإنجيل على كل مخلوق»، وكانا واثقين أنه من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن. 

تقول «إستر»: لم يكن والداى على القدر الكافى من القوة لتهديد الآخرين بالموت، كما يبدو صعبًا تصورهما يفعلان شيئًا كهذا، على الرغم من ذلك، كان قد وضعا الله بأريحية فى صفهما، أدركا الحقيقة من خلال تفسير معين للنص المقدس، ولم يكونا مهتمين بإدانة هؤلاء الذين يفهمونه بشكل مختلف باعتبارهم ذاهبين للجحيم، كما يبدو لى غريبًا باستمرار أن مفهوم الهرطقة فى أيامنا هذه مع مرور الوقت، يمكن- بل وعادة- يصبح هو الحقيقة غدًا، فى هذه الأثناء، هؤلاء من يعلنون كمرتدين ويوصمون كمهرطقين، يفقدون كرامتهم، يتم التمييز ضدهم واضطهادهم، بل وغالبًا يخشون على حياتهم، لم أقتنع يومًا بالخطاب الأصولى الذى دافع عنه والداى، لكن الأصولية كنظام لا تملك حدودًا أيديولوجية، لا عجب إذن أننى شعرت بهذا الانجذاب لقصة نصر. 

الكتاب كانت نتاجًا لحوار مطول أجرته إستر نيلسون مع نصر بداية من عام ٢٠٠٢ عندما قابلته للمرة الأولى فى هولندا، ويومها اقترحت عليه أن يكتب كتابًا عن نفسه، لا يركز فيه فقط على الأحداث التى أدت إلى نفيه- بعد الحكم بالتفريق بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس عام ١٩٩٥- لكن يوضح مسار حياته الذى صاحبه فى رحلته البحثية. 

يومها قال لها «نصر»: أود لو أكتب كتابًا كهذا باللغة الإنجليزية، لكننى أتحدثها أفضل مما أكتب بها. 

على الفور وكأنها كانت تنتظر التلميح الذى قصده «نصر»، قالت: سأساعدك على رواية حكايتك، إن تخصصى فى اللغة الإنجليزية كان فى الكتابة والبلاغة. 

تصف إستر ما جرى: ما نتج عن ذلك كان ثمرة تعاوننا معًا، وفوق كل شىء أردنا أن نوضح لقارئنا أن الإسلام مثل كل الديانات المنتشرة، يعبر عن نفسه فى عدة أشكال وأنماط، فلا يوجد إسلام واحد، كما نؤمن بأن الحوار بين المسلمين كما هو بين غير المسلمين حول أنماط التعبير المختلفة للإسلام هو عامل أساسى فى تشجيع التفاهم داخل وخارج الإسلام، ولو ساعد هذا العمل فى بلوغ تلك الغاية سنعتبر أنفسنا نجحنا بالفعل. 

فى الحوار الطويل والممتد بين إستر ونصر، والتى صاغته بعد ذلك على لسانه وكأنه سيرته الذاتية، تحدث نصر عن كل وأى شىء، عن حياته وأفكاره، عن أسرته وأصدقائه، عن العمل والجامعة والمعاناة والقضية، عن زوجته وحياته الخاصة وأسرار شقيقاته وعلاقاته بوالدته، عن مصر والإخوان وعبدالناصر والسادات، عن محنته الفكرية وما تعلمه فى سفرياته إلى الخارج، عن توقعاته التى خابت وأحلامه التى تبددت، وعن حياته الجديدة التى لم يكن يتمناها بعيدًا عن مصر، شرح أكثر مجمل أفكاره التى كانت سببًا فى تغريبته الطويلة بعيدًا عن مصر. 

وتسجل «إستر» انطباعها الأول عن نصر، تقول: كانت مقابلتى الأولى معه فى كافيه أسفل محطة قطار لايدن، وبينما كنا نتحدث مع تناول الشاى والقهوة لاحظت أن كُمّى نصر تحت سترته الزرقاء ترتفعان ست إنشات كاملة، وأكسبنى هذا إحساسًا أننى أمام رجل على أهبة الاستعداد أن يبدأ العمل من فوره، وكان هذا ما حدث، لكن ما لفت انتباهى وأصواتنا تختلط مع أصوات القطارات حولنا، هى شخصية نصر الدافئة والمتعاطفة والكريمة التى تعكس طبيعة رجل وُلد ليكون معلمًا. 

كان «نصر» حرًا تمامًا وهو يحكى قصته، ويسرب بين سطورها أفكاره وانطباعاته ومواقفه، تحدث عن حياته الخاصة بصراحة، لم يخجل من شىء، ولم يخف شيئًا.

جرب ذلك وهو يتحدث عن طلته الأولى على عالم الجنس. 

يصفه حاله مع أصدقاء والده الذين كانوا يتحدثون عن كل شىء، ومِن بين ما لفت انتباهه كان حديثهم عن الأمور الخاصة. 

يقول: كان هؤلاء الرجال يتحدثون بكود سرى لدى مناقشة الأمور الجنسية، كان الواحد منهم يقول عن علاقته مع زوجته: «كنت مسافرًا البارحة، وإذا نشر رجل بعض العطر على نفسه فهو دون شك استحم قبلها، وإذا استحم شخص فهو قطعًا تمتع بعلاقة جنسية مع زوجته، وبما أن قريتنا لم يكن بها مياه جارية، فكان الناس يستحمون فى أطشات نحاسية، وعرفت أيضًا لو أن امرأة تخلصت من مياه لها رائحة جميلة من طشتها النحاسى فى الشارع، فهى علامة على أن علاقة جنسية وقعت». 

ويستكمل «نصر» حكايته: صباح يوم ما فى محل أبى مرت زوجة أحد أصدقائه، والتى كنت رأيتها باكرًا تُلقى بماء الاستحمام فى الشارع، فقلت لها: أعتقد أن عمى محمد- زوجها- كان مسافرًا البارحة، وجهت المرأة تجاهى نظرة متسائلة: سافر؟ وقالت: لا أعرف.. لست متأكدة. 

لاحقًا عرف «نصر» أن زوجها وصل إلى منزله بعد العمل، فسألته زوجته: هل كنت مسافرًا؟ ولما عرف أن ابن حامد أبوزيد هو من أخبرها بذلك عرف ماذا جرى، فشكاه لوالده. 

يقول «نصر»: عاقبنى والدى بالعقاب المعتاد لأى أب فى مجتمع عربى، ضربنى، فى نفس الوقت شعرت أنه كان فخورًا بتطور معرفتى للأمور الجنسية، كنت أسترق السمع خلف باب غرفة والدى لاحقًا فى هذا اليوم، حتى سمعته يُخبر والدتى: هل تتصورين ماذا فعل هذا الولد الغبى؟ ومع سرده لقصة السفر، لم ينم صوته عن نبرة غاضبة، بل عن فخر، ورأيته فى مخيلتى مبتسمًا.

 

وجرب ذلك أيضًا وهو يتحدث عن كريمة شقيقته الكبرى التى عرف أنها مرتبطة عاطفيًا. 

يقول: وجدت الخطابات المتبادلة بينهما، شعرت بالقلق، هذه مسألة شرف فى المجتمع المصرى، إن الفتاة التى تشترك فى علاقة جنسية تُلحق بنفسها وبعائلتها العار، فهل كانت كريمة إحدى هؤلاء الفتيات؟ 

ولأنه كان فى الغالب يوجه حديثه للغرب، قال: لطالما أرعبتنى فكرة تحمل مسئولية فتيات مراهقات، لقد كان لى حظى ونصيبى من الأخطاء، وقد تعلمت منها بالفعل دروسًا قيمة، لماذا إذن لا تتاح لأخواتى الصغيرات نفس الفرصة، ارتكاب الأخطاء واستكمال حياتهن؟ لم يكن هذا معترفًا به فى العالم العربى. 

وجربه مرة ثالثة، عندما جاءه أحد أصدقائه، وقال له فى صوت غاضب إن آيات شقيقته الصغرى تقابل أحدهم، ليدور بينهما هذا الحوار: 

نصر: لا أعرف شيئًا عن هذا.. لكن لماذا أنت غاضب هكذا؟ 

الصديق: ألست خائفًا مما قد يحدث؟ 

نصر: لا.. ولو كنت خائفًا، لما سمحت لها من البداية أن تذهب إلى الجامعة، حيث يختلط الأولاد والبنات بصورة حرة، ماذا فيها إذا كانت تقابل أحدهم؟ 

الصديق: هى ترى أحد تلاميذك، فهل ستخبرنى أنك ستتغاضى عن الأمر وتنظر إلى الجهة الأخرى؟ 

نصر: أنا أخبرك أننى أحاول تربية أختى بطريقة مناسبة. 

الصديق: هل لو أنها ارتكبت خطأ، وسمحت لهذا الشاب أن يمارس معها علاقة جنسية، ماذا ستفعل حينها؟ هذا له علاقة بالشرف. 

نصر: لن أكون سعيدًا بقرارها، لكن هل تعتقد أن شرف الفتاة يتلخص فى تلك القطعة من الجلد.. غشاء البكارة؟ قطعًا أرى أنها ستكون قد ارتكبت خطأً كبيرًا لو أقامت معه علاقة ما، لكننى لا أعتقد أنها إن فعلت- وهى لن تفعل- أننى سأقتلها. 

يختم «نصر» قصة آيات بقوله: جاءنى يومًا الشاب الذى تقابله لرؤيتى، وكان من تلاميذى المفضلين، طلب منى التحدث على انفراد، بادرنى قائلًا: أنا أحب أختك، قلت: ثم؟ كان هذا رد فعلى المباشر، وقد فاجأه ما قلت، سألنى: أليس لديك ما تسألنى عنه؟ قلت: لا.. إذا أردت أن تتزوج آيات حينها سيكون عندى ما أقوله، لكنك تخبرنى أنك تحبها، أنا لا أعرف إذا كانت تبادلك نفس الشعور، هذه معلومة ليس مطلوبًا منى أن أتخذ قرارًا بشأنها، أنت فى حاجة لأن تخبر آيات بهذا.. وليس أنا. 

يمكن أن يكون كل هذا مقبولًا من نصر وهو يتحدث عن حياته مع الاختلاف معه أو حوله. 

لكنه خطا خطوة أكبر عندما تحدث بصراحة مطلقة عن قضية لا يزال يرى الكثيرون أنها شائكة. 

تلك القضية هى المثلية الجنسية. 

ما بين عامى ١٩٧٨- ١٩٨٠ سافر نصر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليعمل على دراسته للدكتوراه، وسعى للحصول على منحة تتيح له الحياة والدراسة من خلال برنامج تبادل وقع بين جامعة القاهرة وجامعة بنسلفانيا بولاية فيلادلفيا. 

خلال فترة الدراسة تجول نصر فى جميع الولايات الأمريكية، وزار مختلف الجامعات، كما زار العديد من المكتبات وأماكن أخرى مثيرة للاهتمام فى الغرب، نيفادا، كاليفورنيا، أوريجون. 

كان وقتها لا يزال شابًا، اشترى تذاكر ذهاب وعودة، واستخدم الأتوبيسات والطائرات والقطارات، وأنفق مبلغًا لا بأس به فى المواصلات، كان يريد أن يتعلم قدر استطاعته. 

فى إحدى رحلاته وكانت فى بورتلاند بأوريجون صادف أحد نوادى السود التى كان يرتاد مثلها فى فيلادلفيا، كان جائعًا ودخل ليحصل على ما يأكله، مرت دقيقة أو أكثر حتى تمكن من رؤية المشهد كاملًا، وإذ بامراة تقترب منه وتجلس بجواره. 

قالت له: هل تمانع أن أجلس معك؟ 

أشار إليها بالإيجاب، فجلست، وبدأ بينهما الحديث. 

يقول «نصر»: بعد قليل بدأنا نتحدث بشكل شخصى، واكتسبت انطباعًا أنها تريد ما يطلق عليه الأمريكان قضاء وقت لطيف وممتع، ممارسة علاقة جنسية معى، سألتنى: أين تسكن؟ قلت: أسكن بفندق آخر الشارع، واستنتجت أننى سأكون مهتمًا بإقامة تلك العلاقة، استكملت الحديث بناء على هذا الاستنتاج: لا بد أن أخبرك بشىء قبل أن نرحل. 

أخبرت المرأة التى جلست مع نصر أنها رجل، فى انتظار الخضوع لعملية تحول جنسى. 

يقول: عواطفه أو عواطفها هى أو هو أكد لى أنها لامرأة، إذا قبلت فتستطيع أو يستطيع أن يشعرنى بالرضا، كنت مصدومًا بشكل ما، لكننى لم أرد أن أكون فظًا، لم يقترب منى رجل من قبل - فى زى سيدة- من أجل ممارسة الجنس، لا بد أننى كنت مرتبكًا، فسألنى: هل تكرهنى الآن؟ 

ويضيف «نصر»: قلت له لا.. لا بالطبع، كان ممكنًا أن أخبره بأننى لست مهتمًا، لكننى تصورت كم أن هذا الموقف صعب بالنسبة له، سألنى: هل لنا أن نكمل الحديث؟ أجبت: لم لا؟ فقال: هل تحب أن أريك المدينة؟ لقد وصلت اليوم وسترحل غدًا وأنا لدى سيارة، أمضينا اليوم معًا، هذا ما فعلناه فقط، وقد كان بالفعل وقتًا ممتعًا. 

ليس هذا كل ما جرى، فلو توقف نصر عند هذه الواقعة، لقلنا إنه حدث عابر تعامل معه بشكل إنسانى، لكن ما توقفت أمامه هو ما قاله «نصر». 

يقول: ثقافتى لا تتسامح مع ما يعرفه الإسلام بالسلوك الجنسى الشاذ، وتنطوى المثلية الجنسية والتشبه بالجنس الآخر تحت هذا البند، ويعلق عليها الناس بالعديد من الألفاظ مثل «خطيئة، شذوذ، خروج على إرادة الله»، فهل على أيضًا كمسلم أن أقف وراء ثقافتى وأصدر أحكامى وأدين أفرادًا موجودين خارج حدودى الأصولية؟ 

ويجيب: إنه من السهل الانضمام إلى الجوقة وإصدار أحكام صارمة بحق المختلفين عنى، من خلال تجربتى ببار للمتحولين جنسيًا فى فيلادلفيا عندما التقيت أحدهم، اكتشفت أننى على استعداد لتفهم السلوك الذى نظريًا لا يمكننى قبوله، كونت صداقات مع عدد من المثليين جنسيًا القاطنين بالولايات المتحدة الأمريكية، أذكر بعضهم من الموهوبين بشدة يعملون كفنانين أو موسيقيين، أعجبت بعدد منهم، لكننى أبدًا لم أستطع الكتابة عن هذه التجربة بمصر، إن أصدقائى من المثقفين لم يتفهموا ذلك، واعتبروه غريبًا، وبالتالى كان لى أن أتصور كيف يكون رد فعل الصحافة. 

بعد فترة طويلة من وجود نصر فى منفاه الإجبارى فى هولندا، تلقى مكالمة من د. رودولف شتاتنبرجر، وهو طبيب نفسى طالبًا مقابلته. 

كان تخصص «رودولف» هو المثلية الجنسية فى العالم الإسلامى. 

فى الاتصال التليفونى الذى جرى بينهما أخبر نصر أن هناك العديد من المثليين يأتون لهولندا من أفغانستان وباكستان وإيران ودول شرق أوسطية مسلمة أخرى، حيث تعتبر المثلية الجنسية سلوكًا إجراميًا، وطلب منه أن يساعده فى فهم ذلك العالم. 

يقول «نصر»: كنت أعرف أنه لا توجد آية قرآنية محددة تدين المثلية الجنسية، إلا فى موضع قصة قوم سدوم وعمورة، حيث قضى الله فيها بإحراق المدن التى تدين الرجال الذين يمارسون الجنس معًا، ولم أكن واثقًا أننى يمكن أن أساعد د. شتاتنبرجر فأخبره بأكثر من هذا. 

قال رودولف لـ«نصر»: أنا على ثقة أن مناقشتنا سوف تفيد عملى إيجابيًا، لو أعطيتنى قليلًا من وقتك. 

تمت المقابلة بالفعل. 

يقول «نصر»: جاء لمكتبى وتحدثنا لأكثر من ثلاث ساعات، تطرقنا فيها لعدد كبير من الموضوعات، ما هى العلاقة بين الثقافة الإسلامية والعربية؟ ما هى الثقافة الجاهلية؟ ماذا تعنى الرجولة فى الثقافة العربية؟ الصداقة؟ ما هى العلاقة بين الرجال والنساء فى المجتمعات الإسلامية؟ لقد كان الرجل يبحث بحق. 

ويعترف «نصر»: كان د. شتاتنبرجر عاملًا مساعدًا فى اتساع معرفتى عن المثلية الجنسية، عرفت منه أنها ليست مرضًا، كانت تلك معلومة جديدة بالنسبة لى، كما أنهم من الناحية البيولوجية، كما قال مختلفون جينيًا، تناقشنا فى تاريخ المثلية الجنسية، شىء ما انحرف فى مجتمع، لم يعد يرى أو يتعرف أو يتقبل الأشكال المختلفة بين أفراده، أصبحت واعيًا أكثر بالمثلية الجنسية كظاهرة طبيعية، وأقمت صداقات مع المجتمع المثلى بهولندا، كما شعروا بالحرية أن يناقشوا معى بعض الصعوبات التى يواجهونها مع عائلاتهم، استمعت لهم، الناس هم الناس، يتفاعلون فى علاقاتهم كما الجميع. 

ويتساءل نصر: هل سيقبل الإسلام المثلية الجنسية كشىء لا يراه شاذًا؟

ويجيب: ليس إلا إذا شهدنا ثورة حقيقية، أو تغيرًا فى الطريقة التى نفهم بها القرآن فى الأمور المتعلقة بحيواتنا، لقد أقر الفقهاء باحثو القانون، على مدار التاريخ الإسلامى بعقوبات مستقاة من خلال القرآن بناء على تحميل بعض المعانى للنصوص واختزالها فى مواضع أخرى، كما أدرجوا مصدرًا آخر وهو الحديث الشريف أو السنة النبوية، المصدر الثانى للتشريع، القرآن والسنة لم يكونا كافيين للتعامل مع الأمور الملحة المتزايدة اجتماعيًا واقتصاديًا وجنائيًا، لذا تبنى الفقهاء مصدرًا ثالثًا للتشريع مبنيًا على إجماع العلماء من الأجيال الإسلامية الأولى من صحابة الرسول، المصدر الرابع كان الاجتهاد والذى كان ضروريًا إرساءه لحل المشاكل التى لم يتمكن التعامل معها بالمصادر الثلاثة الأولى، إلا أن مبدأ الاجتهاد كان قاصرًا على استخدام القياس، فحل أى مشكلة يكون من خلال مقارنتها بواقعة سابقة مشابهة تم التعامل معها من خلال أى من مصادر التشريع الثلاثة السابقة.. المصادر الأربعة هى ما يطلق عليها مجتمعة «قانون الشريعة». 

و«قانون الشريعة»- كما يوضح نصر- هو قانون بشرى، لا شىء مقدس بخصوصه، حين نتأمل عقوبات تشريعية خاصة ذكرت بالقرآن، مثل عقوبات الزنا، السرقة، القتل، أو زعزعة السلام الاجتماعى، نجد أنفسنا بحاجة للتساؤل، هل هذه العقوبات ابتدعها الإسلام؟ هل نعتبرها إسلامية؟

ويجيب «نصر»: بالطبع لا، لقد توافقت هذه العقوبات مع ما كان مقررًا قبل مجىء الإسلام، بعضها جاء من القانون الرومانى، والبعض الآخر جاء من التقليد اليهودى، ومجموعة أخرى انتمت لأزمان بعيدة، فى العصر الحديث حيث جرى تشريح جميع حقوق الإنسان، يتوقف تفكير العديد من الناس عند مجموعة من العقوبات مثل بتر أعضاء الجسد البشرى أو الإعدام على أنها عقوبات إلهية، وبالتالى فهى إجبارية، كما أن بعض الجوانب الأخرى من الشريعة التى تتعلق بالأقليات الدينية، حقوق المرأة وبعض حقوق الإنسان لا بد من إعادة النظر بها أيضًا. 

ويخرج «نصر» إلى قضية أكثر عمومية، فيقول: لقد كانت وظيفة الفقيه دائمًا هى البحث عن أسس القانون داخل الشريعة وتطبيقها فى مختلف السياقات الاجتماعية، القرآن ليس كتاب قانون، هناك بالفعل أسس ومبادئ تشريعية مذكورة به، لكنها تترك مساحة كبيرة للتأويل وإعادة التأويل من قبل المجتمعات الإسلامية بغض النظر عن الزمان والمكان، وهو إصباغ صفة القدسية على التفكير البشرى الذى تطور عبر التاريخ، حين يبحث المشرعون عن المبادئ القانونية، فهم يعملون تحت مظلة الأهداف الخمسة المستقاة من القرآن والمتفق عليها، وعليه لا بد لأى قانون يقره المشرعون أن يتفق مع هذه الأهداف، لو أن هناك تعارضًا بين أحد الأهداف والقانون يعتبر القانون غير قرآنى، هذه الأهداف هى الحفاظ على الحياة والنسل والعقل والملكية والدين أو الإيمان، هذه الأهداف لها رؤية عالمية وأصبحت جزءًا مما يعرف بالإسلام التقليدى. 

ويذهب «نصر» إلى الشكل النهائى للإسلام التقليدى الذى اكتمل فى القرن الثالث عشر، كل الكتب التى تتناول مبادئ الشريعة اليوم تكرر فِهم أجدادنا الذين توصلوا له آنذاك، لم يحدث أى تطوير لقانون الشريعة منذ ذلك الوقت، الاستنتاجات التى توصل لها أسلافنا كانت الخاصة بوقتهم، اليوم نحن فى حاجة لمعرفة جديدة نعمل وفقًا لها، إلا أن الفكر الإسلامى فى كل جوانبه ظل ثابتًا، ويبدو وكأنه وصل للجمود منذ قرون مضت. 

ويعود «نصر» مرة أخرى إلى جلسته مع د. شتاتنبرجر، يقول: أدركت من خلال محادثتى معه شيئًا عن ثقافتى لم أكن قادرًا على رؤيته، إن مجتمعنا على الأقل على الملأ قائم على الصداقة بين الرجال، الرجال يشعرون بالملكية تجاه أصدقائهم من الرجال، كمثل الطريقة التى يشعر بها الرجال والنساء تجاه بعضهم البعض فى إطار علاقة حميمة، وليس غريبًا أن تسمع رجلًا يخبر صديقه: أنت صديقى، لماذا فعلت هذا بى؟ كيف يمكن أن تأخذ مثل هذا القرار دون أن تستشيرنى؟ اكتشفت وكان أمرًا فارقًا فى تلك الفترة أنه حين تكون فرصة اختلاط الجنسين بحرية فى المجتمع، يشكل الرجال روابط قوية مع رجال آخرين، علاقة ملكية غير صحية تنشأ بين الاثنين، أينما وجد هذا النوع من الملكية «أب وابنه - زوج وزوجته» تظهر المشكلات، لا بد أن يشعر الفرد بالحرية ليتخذ قراراته الخاصة حسب ما يمليه عليه ضميره، وليس وفقًا لشخص آخر. 

سيعتبر كثيرون كلام «نصر» عن المثلية الجنسية غريبًا، فهو لم يتحدث عن شىء من ذلك هنا فى مصر. 

وسيرى آخرون أن كلامه طبيعى فى ضوء منهجه البحثى. 

لكن ما لن يلتفت له الجميع أن خطاب نصر بعد خروجه من مصر تغير وتطور كثيرًا. 

يذهب من يكرهون نصر إلى أنه غير خطابه- الكلام عن المثالية نموذج واحد- ليخطب ود الغرب الذى أنقذه من أنياب المتطرفين، وكان يسعى إلى عطاياه وجوائزه وتكريماته، ولذلك نافقهم، وقال لهم ما يريدون. 

لكن من يعرفون نصر جيدًا، سيعرفون أنه كان من الطبيعى أن يتغير خطابه ويتطور، بحكم مخالطته للغرب ليس فى الحياة فقط، ولكن فى مناهج البحث وطرق التعبير أيضًا. 

على أى حال هذه رؤية من رؤى نصر أبوزيد الكثيرة التى لم يعرف الناس عنها شيئًا، وهو وحده المسئول عنها، كما كان مسئولًا عن كل أفكاره بشجاعة وجرأة.