حرب الهانم والأرتيست.. كيف انتصرت فاطمة سرى على هدى شعراوى؟

- سمحت هدى شعراوى لحفيدتها ليلى أن تدخل بيتها لكن دون أمها وكان هذا هو الاتفاق الذى توصل إليه المحامون
- السيدة هدى شعراوى من أكبر الزعيمات المصريات وقد كانت لها جولات فى السياسة الوطنية
- كان من أسباب إصدار فاطمة اليوسف مجلة «روزاليوسف» الاحتجاج على المجتمع الذى يتنقص من قدر الفنانين ويحط من شأنهم
كان يمكن للسيدة هدى شعراوى «يونيو 1879- ديسمبر 1947» أن تحتفظ بصورتها اللامعة البراقة، كرائدة من رائدت الدفاع عن حقوق المرأة.
لا يخدش تجربتها شىء.
ولا يعفر تراب الحياة المتناثر رغمًا عنا طرف حذائها.
لكن قدر الإنسان معلق فى رقبته، لا تكتمل التجارب كما نريد.
يضعنا الله فى اختبار لا ليعرفنا، ولكن ليعرف من حولنا هل نحن كما نقول؟ أم أن لدينا وجهًا آخر تكشفه التجربة، وتبدده المحنة؟
المسافة بين هدى شعراوى الزعيمة النسائية التى تدافع عن حقوق النساء، وهدى شعراوى التى سقطت فى اختبار أصالة ما تقوله وتقوم به استغرق سنوات.
كانت كلمة السر فى التجربة هى «فاطمة سرى»، المطربة المشهورة فى فترة العشرينيات، والتى وضعتها الأقدار فى طريق هدى دون ترتيب أو حساب، لتجد نفسها فى أعنف وأشرس محنة، كانت نتيجتها أن أصبحت الهانم فى العراء تمامًا.
أما كيف جرى ذلك، فالقصة طويلة ودرامية ومؤلمة لكل أطرافها.. فحتى الذين انتصروا فيها خرجوا خاسرين.
هدى شعراوى من مواليد المنيا، والدها هو محمد سلطان باشا، الذى كان رئيسًا لمجلس النواب المصرى فى عهد الخديو توفيق.
كان يمكن أن تكون نسبة هدى لوالدها محمد سلطان سببًا لنقمة كبيرة فى حياتها.
فمن المعروف فى التاريخ المصرى الحديث أن محمد سلطان كان من بين من خانوا عرابى وتخلوا عنه فى مواجهته مع الإنجليز، فعل ذلك بعد أن تلقى أموالًا طائلة من الخديو توفيق، ليعارض مواقفه وتوجهاته علنًا، ويقوم بدفع رشاوى لعدد من العربان والقيادات العسكرية ليخونوا عرابى، ويتركوه وحده فى الميدان بلا غطاء.
لم تتوقف خيانة سلطان باشا عند هذا الحد، بل رافق جنود الاحتلال أثناء زحفهم على العاصمة، وكان تعيينه رئيسًا لمجلس النواب مكافأة له على ما قام به.
لم تتوقف مكافآت الخيانة عند هذا الحد، فقد عينه توفيق أيضًا مندوبًا ساميًا ملكيًا إلى جانب الجنرال «ولسلى» قائد الجيش الإنجليزى الذى احتل القاهرة، ومنحته بريطانيا بعد الاحتلال عدة نياشين تقديرًا لخدماته، وأهداه توفيق جارية بيضاء جميلة هى السيدة إقبال هانم التى أنجبت له هدى.

لم يربط المصريون كعادتهم بين هدى وأبيها، نسوا ما فعله، ولم يطاردها أحد بماضيه، وقد ساعد على ذلك أنه توفى فى العام ١٨٨٤ بعد مولدها بما يقرب من الخمس سنوات، فلم يكن له دور فى حياتها، ولا ما أنجزته بعد ذلك.
حاولت هدى أن تبرئ أباها محمد سلطان من عار الخيانة الذى لحق به.
فى مذكراتها تقول: توفى والدى المرحوم محمد سلطان باشا يوم ١٤ أغسطس ١٨٨٤ فى مدينة جراتس بالنمسا، كان قد سافر إلى هناك للاستشفاء، وكان يعانى من صدمتين عنيفتين أثرتا فى حالته الصحية إلى حد بعيد، لدرجة أن الأطباء لم يجدوا دواء لدائه إلا أن يسافر بحثًا عن العلاج.
الصدمة الأول كانت وفاة ابنه إسماعيل، الذى كان يعقد عليه كل آماله فى المستقبل، فقد كان ذكيًا أكبر من عمره فى كل شىء، فى الوقت الذى كان عمر ابنه الثانى ضعيف البنية، والأمل فى حياته ضئيل جدًا.
أما الصدمة الثانية، والتى دافعت بها هدى عن تاريخ والدها، فتقول عنها: كانت تلك المأساة التى أودت باستقلال البلاد إثر الحوادث العرابية، فقد ظهر له سوء نية الإنجليز بعد دخولهم مصر، حيث بدا واضحًا أنهم لن يفكروا فى الجلاء عنها.
عاشت هدى تحت وصاية ابن عمتها على شعراوى وفى سن الثانية عشرة تزوجت منه
لا أحد منا يمكنه أن يعترف بزلاته وخطاياه.
لدينا دائمًا ما نبرر به ما نفعل وما نقول.
وكأنى بهدى كانت تريد أن تقول إن أباها ما ساعد الإنجليز وخان عرابى إلا للسعى نحو استقلال مصر، لكنه عندما اكتشف أن الإنجليز جاءوا محتلين انتكست صحته، واعتلت نفسيته، فراحت حياته لذلك، فى محاولة منها للتأكيد أن أباها دفع ثمن سوء فهمه.. وربما تقديره.
عاشت هدى تحت وصاية ابن عمتها على شعراوى، وفى سن الثانية عشرة تزوجت منه، رغم أنه كان يكبرها بأربعين عامًا على الأقل، وكان متزوجًا ولديه ثلاث بنات، وأصبح اسمها هدى شعراوى.
كانت أمها «إقبال هانم» سابقة عصرها، فعندما عرض على الزواج من هدى، اشترطت عليه أن يكون عقد الزواج أحاديًا، أى لا يكون متزوجًا من أخرى، وإلا يعتبر العقد لاغيًا من تلقاء نفسه، فطلق زوجته الأولى، لكن بعد عامين اكتشفت هدى أن زوجها عاد إلى زوجته الأولى، فانفصلت عنه وهى لا تزال فى الرابعة عشرة، وقد ظل الانفصال سبع سنوات كاملة.
خلال سنوات الانفصال السبع درست هدى اللغة الفرنسية، وأتاح لها وضعها الاجتماعى أن تلتقى بعدد من سيدات المجتمع، مثل «عديلة نبراوى» التى كانت تصاحبها فى نزهاتها الصباحية، والتركية قريبة والدتها السيدة «عطية سقاف»، والفرنسية «أوجينى لو بران»، التى يمكن اعتبارها المرشدة الحقيقية فى حياة هدى، والتى جعلتها تنفتح على العالم الحديث.
فى مذكراتها تقول: كنت لا أستطيع تدخين سيجارة لتهدئة أعصابى، حتى لا يتسلل دخانها إلى حيث يجلس الرجال
فى عامها الثانى والعشرين عادت هدى إلى على شعراوى بضغوط من أسرتها والمقربين منها، وأنجبت ابنها محمد وابنتها بثينة.

كانت هدى متمردة، تقاوم حصار زوجها لها فى أدق وأصغر الأشياء.
فى مذكراتها تقول: كنت لا أستطيع تدخين سيجارة لتهدئة أعصابى، حتى لا يتسلل دخانها إلى حيث يجلس الرجال، فيعرفوا أنه دخان سيجارة السيدة حرمه، إلى هذا الحد كانت التقاليد تحكم بالسجن على المرأة، وكنت لا أحتمل مثل هذا العذاب ولا أطيقه.
وتقول: كنت إذا أردت زيارة صديقة أو قريبة منعنى من الخروج، وإذا زارتنى صديقة أو قريبة استجوبنى استجوابات كثيرة وملحة عما جرى بيننا من أحاديث، وكنت إذا لجأت إلى التسلية بالعزف على البيانو، أرسل يطلب إلى أن أكف عن العزف لوجود ضيوف معه، وهكذا شعرت بأنه يقيد حريتى تقييدًا ظالمًا.
كان لا بد من نقطة بداية، وبداية هدى فى النشاط الخيرى والاجتماعى تبلورت أمامها عندما كانت تصاحب زوجها على شعراوى فى رحلة استشفاء بأوروبا بعد أن عادت إليه، هناك احتكت بنساء أوروبيات، وعرفت بالامتيازات التى حصلت عليها المرأة هناك، وتعرفت على شخصيات مؤثرة فى المجتمع الأوروبى تنادى بتحرير المرأة.
عندما عادت إلى مصر قررت أن تحذو حذو الأوروبيات.
بدأت بتأسيس مجلة تصدر باللغة الفرنسية أطلقت عليها اسم «الإجيبسيان».

وفى العام ١٩١٥ وبأحد منتديات القاهرة ألقت أولى محاضراتها، والتى تناولت فيها بجرأة وشجاعة موضوع الحجاب، ودخلت إلى حديثها بمقارنة بين أوضاع المرأة فى مصر وأوروبا، ولم تكن تتحدث عن الحجاب بمعناه المادى الذى هو مظهر دينى اجتماعى، ولكنها تحدثت عن حجاب وحجب المرأة فى بيتها، والذى يمنعها من المشاركة بفاعلية فى مجتمعها.
فى العام 1920 وجدت هدى شعراوى نفسها رئيسة للجنة الوفد المركزية للسيدات
ظلت «شعراوى» من خلال المجلة والمنتديات تنشر أفكارها، فالأدوار الاجتماعية الموزعة بين الرجل والمرأة من صنع المجتمع وليست محددة من قبل الله، والتعليم والعمل حق أصيل من حقوق المرأة، والنقاب علامة قوية على العلاقة بين مفهوم الاختلافات الرئيسية بين الرجال والنساء، واعتبار النساء مجرد كائنات أولية تهدد بنشر الفتنة فى المجتمع.
توالى الأحداث وتعاقب الحوادث خرج بهدى شعراوى من دورها الاجتماعى إلى لعب دور سياسى مهم.
قامت بخلع الحجاب وداسته بقدميها وكانت إلى جوارها رفيقتها «سيزا نبراوى» وهو ما قلدتها فيه السيدات
فى العام ١٩٢٠ وجدت هدى شعراوى نفسها رئيسة للجنة الوفد المركزية للسيدات، وهى الجمعية التى لعبت دورًا فى مساندة الوفد الذى قاده سعد زغلول للمطالبة باستقلال مصر، وقادت حملة للمطالبة بعودة زعماء الوفد إلى مصر، وتوجهت إلى رئيس الوزراء البريطانى مباشرة للإفراج عن سعد زغلول والآخرين.

فى العام ١٩٢١ كانت اللحظة الحاسمة فى حياة هدى شعراوى.
كانت الزعيمة النسائية تستقبل سعد زغلول ورفاقه بعد عودتهم من المنفى، ويومها أخذت قرارًا جريئًا، اعتبرته هى رمزًا أكثر منه فعلًا مقصودًا لذاته، حيث قامت بخلع الحجاب وداسته بقدميها، وكانت إلى جوارها رفيقتها «سيزا نبراوى»، وهو ما قلدتها فيه السيدات المشاركات فى الاستقبال.
ضاع تأثير الرمز الذى قصدت هدى شعراوى إلى ترسيخه.
أسست هدى شعراوى رسالتها فى تحرير المرأة على المساواة
تقول عن ذلك فى مذكراتها: «رفعنا النقاب أنا وسكرتيرتى سيزا نبراوى، وقرأنا الفاتحة، ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتى الوجه، وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذى يبدو سافرًا لأول مرة بين الجموع، فلم نجد له تأثيرًا أبدًا، لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو سعد باشا متشوقين إلى طلعته».
هذا الزخم السياسى الذى حصلت عليه هدى جعلها فى العام ١٩٢٣ تؤسس جمعيتها «الاتحاد النسائى المصرى»، لتبدأ رحلة جديدة فى مسيرتها للمطالبة بحقوق المرأة حتى وفاتها، وكان ما وهبت نفسها له هو المطالبة بالمساواة فى الحقوق السياسية مع الرجال، وتحديدًا فى الترشح والانتخاب، وتقييد حق الطلاق، والحد من سلطة الولى أيًا كان، وجعلها مماثلة لسلطة الوصى، وتقييد تعدد الزوجات إلا بإذن من القضاء فى حالات العقم أو المرض غير القابل للشفاء، والجمع بين الجنسين فى مرحلتى الطفولة والتعليم الابتدائى، وطالبت مجمع اللغة العربية فى القاهرة والمجامع اللغوية العربية بأن تحذف نون النسوة من اللغة العربية.

أسست هدى شعراوى رسالتها فى تحرير المرأة على المساواة، فكان لا بد من اختبار لأصالة هذه الرسالة، وكان هذا الاختبار اسمه فاطمة سرى.
لكن من هى فاطمة سرى؟
فاطمة كانت مغنية مصرية ولدت فى العام ١٩٠٤، وفى عقد العشرينيات بلغت أوج شهرتها، عملت فى البداية مع فرقة «فؤاد الجزايرلى» المسرحية، وينسب لها أنها أول مغنية مصرية غنت أوبرا كاملة هى أوبرا «شمشون ودليلة»، وعملت بعد ذلك فى فرقة رمسيس التى أسسها يوسف وهبى، كما شاركت فى مسرحيات فرق عزيز عيد وعلى الكسار.
لكن بعيدًا عن التمثيل كانت فاطمة عازفة عود ممتازة، عملت فى بداياتها ككورس فى إحدى الفرق الموسيقية، قبل أن تحترف الغناء، ورغم موهبتها وقدرتها الغنائية الكبيرة، إلا أنها لم تخترق الإذاعات المحلية، وظل غناؤها مقصورًا على الحفلات الخاصة والملاهى الليلية، فقد تألقت فى صالات بديعة مصابنى فى القاهرة والهمبرا فى الإسكندرية، وكانت رفيقة فى ذلك لمجموعة من المغنيات الأخريات، منهن سكينة حسن وسعاد محاسن وحياة محمد، ويذكر أن فاطمة شاركت فى افتتاح الإذاعة المصرية فى العام ١٩٣٤، حيث غنت فى أيامها الأولى.
كيف تقاطع الطريق بين هدى شعراوى وفاطمة سرى؟
فى نهايات العام ١٩٢٤ كانت هدى شعراوى تجهز لحفل كبير فى قصرها، وطلبت من فاطمة سرى أن تشارك بالغناء فى هذا الحفل، لكن المفاجأة أن فاطمة رفضت، وتعللت بأنها فى يوم الحفل تشارك فى عرض مسرحى مع فرقة رمسيس، وأن يوسف وهبى سيرفض غيابها.

استغلت هدى شعراوى كل نفوذها، تحدثت مع يوسف وهبى، الذى توصل إلى حل معقول، وهو أن يقوم فى هذا اليوم بتأخير العرض حتى تنتهى فاطمة من الغناء فى قصر هدى شعراوى.
فى هذا الحفل حدث اللقاء الأول بين محمد شعراوى نجل السيدة هدى وفاطمة سرى.
لكن على أى حال كان محمد شعراوى فى هذا الوقت؟
فى صورة قلمية رائعة نسجها الأديب والروائى الكبير مكاوى سعيد يقول عنه، فى حلقات تشبه الرواية القصيرة عنونها بـ«مغنية نص لبة فى مواجهة زعيمة سياسية».
أثناء دراسته الجامعية أراد محمد شعراوى أن يرشح نفسه زعيمًا للطلبة، وأنفق فى سبيل ذلك مالًا طائلًا لكسب الطلاب إلى جانبه، وحصل على اللقب، وكان يزور مصر وقتها وفد كبير من الطلاب الأمريكيين «حوالى ١٠٠ طالب» للاطلاع على نظم التعليم العالى وأنشطة الطلاب، وبما أنه الزعيم أقام لهم حفل شاى كبيرًا فى محل جروبى الذى افتتح حديثًا، ولم يشهد هذا المحل حفلًا مماثلًا بعدها، وكان فى مقدمة الحضور سعد باشا زغلول، وبعد أن تمتع محمد شعراوى بهذه الزعامة فترة من الوقت سرعان ما زهدها وتخلى عنها بكل بساطة.

ويضيف مكاوى: كان صهره محمود سامى باشا عاصم، الوزير المفوض لمصر فى واشنطن، وعينه تلميذ مفوضية فى المفوضية المصرية فى أمريكا، فنافس جميع موظفى السفارات والمفوضيات الأخرى فى الحفلات الفخمة التى كان يقيمها، ثم زهد أمريكا وانتقل إلى مفوضيتنا فى لندن، فاشتهر أمره فيها أيضًا، لكنه زهق كعادته فتقدم باستقالته من منصبه ليتفرغ لإدارة مصالحه والإشراف عليها.
المعلومات عن محمد شعراوى وعن تقلباته المزاجية وعدم مسئولياته كثيرة، لكن مكاوى صاغها بحس روائى نادر، وهو ما حدث مع فاطمة سرى أيضًا.
كانت فاطمة فى هذا الوقت خارجة من تجربة زواج فاشلة، لكنها لم تكن بمفردها فقد أنجبت من زواجها الأول ولدًا وبنتًا.
حاول محمد شعراوى التقرب من فاطمة سرى، لكنها صدته فى البداية، وأصرت، لكنه واصل حصارها، رفضت أن تكون بينه وبينها علاقة، لكنه أغراها بكل ما يقدر عليه، وبدأت القصة المعتادة بين عاشق عابث من الطبقة الراقية بمطربة رمز للجمال والأنوثة والرغبة كما كان يتصور، أو كما شعر هو بذلك.
تناثرت أخبار هذه العلاقة حتى وصلت إلى الصحف التى بدأت تلمح بالحروف الأولى لطرفيها، وعرف طليق فاطمة بما يجرى، فحرمها من الولد والبنت.

كان محمد شعراوى قد بدأ يمل فاطمة سرى، تهرب منها، ولما واجهته طلب أن ينهى العلاقة، وكتب لها شيكًا بمبلغ كبير لتعويضها، لكنها مزقت الشيك وألقت به فى وجهه، أدرك خطأه فحاول أن يسترضيها، وعرض عليها أن يتزوجا عرفيًا، لكنها طلبت أن يكون الزواج رسميًا، فطلب منها مهلة حتى يتفاهم مع والدته فى الأمر.
قبل أن يتفاهم محمد شعراوى مع أمه أخبرته فاطمة بأنها حامل، فسارع بكتابة إقرار على نفسه.
قال فيه: أقر أنا الموقع على هذا محمد على شعراوى نجل المرحوم على باشا شعراوى من ذوى الأملاك، ويقيم بالمنزل شارع قصر النيل رقم ٢ قسم عابدين بمصر، أننى تزوجت الست فاطمة كريمة المرحوم سيد بك المروانى المشهورة باسم فاطمة سرى، من تاريخ أول سبتمبر سنة ١٩٢٤، ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين أفرنكية، وعاشرتها معاشرة الأزواج، وما زلت معاشرًا لها إلى الآن، وقد حملت منى مستكنًا فى بطنها الآن، فإذا انفصل فهذا ابنى، وهذا إقرار منى بذلك، وأنا متصف بكافة الأوصاف المعتبرة بصحة الإقرار شرعًا وقانونًا، وهذا الإقرار حجة على تطبيقًا للمادة ١٣٥ من لائحة المحاكم الشرعية، وإن كان عقد زواجى بها لم يعتبر، إلا أنه صحيح شرعًا، ومستوف لجميع شرائط عقد الزواج المعتبرة شرعًا.
حرر محمد شعراوى هذا الإقرار فى ١٥ يونيو ١٩٢٥، ولم يكن يعرف أنه سيكون باب الجحيم الذى سيفتح عليه هو وعائلته بعد ذلك.

وكأى أم ثارت هدى شعراوى عندما عرفت بأمر الزواج على ابنها، لكن الأمر لم يتجاوز الثورة والغضب، فقد أدركت أن الأمر بينها وبين فاطمة سرى.
كانت هدى ترى ابنها على غير ما تقوله فاطمة.
فى مذكراتها أشارت إلى طريقة تربيتها له.
تقول: لقد ربيت ابنتى وابنى عن طريق الإقناع، فلم أنهرهما أبدًا، ولم أستعمل معهما الغلظة حتى لو وقع من أحدهما خطأ يستوجب ذلك، بل كنت أحاول إقناعه بخطئه فى لطف حتى يقتنع ويشعر بشىء من الخجل فلا يأتيه ثانية من نفسه، وبذلك أمكننى أن أبث فيهما روح تقدير المسئولية وتحملها بأهداب الأمانة والصدق، وقد شبَّا على هذه الصفات وتطبعا بهذه الفضائل، وشجعنى ذلك على المضى فى هذه الطريقة التربوية الصحيحة التى لا تتطلب من الأم إلا قليلًا من الصبر والتفرغ لأقدس الواجبات.
فى أزمة محمد شعراوى تخلت هدى عن طريقتها لتربية ابنها، قست عليه فى الغالب، ليس لأنه فعل ما فعله، ولكن لأنه أوقعها فى هذه الأزمة الاجتماعية العنيفة.

تخلت هدى شعراوى عن كل ما عملت من أجله طوال حياتها، كل ما اهتمت به أن تنهى هذا الزواج الذى رأت أنه لا يليق، فكيف يتزوج ابن الباشوات من مطربة درجة تالتة، ولأنه كان مثالًا لعدم تحمل المسئولية، فقد ترك النار المشتعلة وراءه وسافر إلى أوروبا حتى تمر الأزمة.
سقطت راية المساواة التى كانت تطالب بها هدى شعراوى، وتحركت بدفع الفوارق بين الطبقات التى لا يجب أن يتخطاها أو يتجاوزها أحد.
بدأت المواجهة بين هدى وفاطمة.
بادرت هدى شعراوى بسلاح الترهيب الذى كان من المفروض أن تجعله سلاحها الأخير، لكن يبدو أنها كانت تريد أن تنهى المسألة على وجه السرعة.
أرسلت أحد النافذين فى الأمن إلى فاطمة، حمل معه رسالة فيها بديلان لا ثالث لهما، إما أن تقبل بأن تلد فى هدوء وتزوجها هدى شخصًا آخر تنسب له الطفل، وإما سيتم تلفيق قضية آداب لها، لكن فاطمة قطعت الطريق على هذا التهديد، وهددت هى بأنها ستضرب كل من يفكر فى ذلك بالنار، ولن تخشى شيئًا.
سحبت هدى شعراوى سلاح الترهيب ولجأت إلى سلاح الترغيب.
أرسلت رسولًا آخر إلى فاطمة يعرض عليها هذه المرة ٢٥ ألف جنيه- وهو مبلغ خرافى بمعايير هذه الأيام- وأن تزوجها من شخص يكتب الطفل باسمه دون أن تتعرض لمضايقات من أحد.

وللمرة الثانية ترفض فاطمة سرى عطايا هدى شعراوى.
سافرت فاطمة سرى وراء زوجها محمد شعراوى، ورغم أنه تهرب منها من دولة إلى دولة ومن مدينة إلى مدينة، إلا أنه قابلها فى النهاية فى باريس ووعدها أن ينهى الأمر كما تريد، وعندما يعودان إلى القاهرة سيعلن على الجميع خبر الزواج، وسيقيم حفلًا كبيرًا يستقبل فيه مولوده.
تجاوبت فاطمة مع محمد شعراوى فيما قاله، لكنها كانت قد أخذت حذرها.
وهنا يظهر مصطفى النحاس، الذى كان فى هذا الوقت يعمل محاميًا.
تصادف وقابل النحاس فاطمة فى فيينا عندما كانت تبحث عن زوجها فى أوروبا، ولأنه كان يعرف طرفًا من أطراف حكايتها مع محمد شعراوى، سألها عنه، فقصت له القصة كاملة، وأطلعته على الإقرار الذى كتبه بخطه.
كانت نصيحة النحاس لفاطمة منجية لها تمامًا.
قال لها: لا تعطى هذا الإقرار لمحمد شعراوى مهما قال لك، ويمكنك أن تقومى بتصويره فى محل تصوير كبير فى فيينا، واطلبى من المصور أن يطبع الصورة على ورقة عادية حتى تبدو شبيهة بالورقة الأصلية، وإذا ألح محمد على أن يأخذ منك الإقرار، اعطيه الصورة واحتفظى بالأصل.
عادت فاطمة سرى لتلد فى مصر، نصحها محمد شعراوى أن تفعل ذلك.

كان يخشى أن تلد فى باريس فيتسرب الخبر إلى الملك فؤاد من محمود باشا فخرى زوج ابنة الملك ومفوض مصر فى باريس، وكما قال محمد لفاطمة: يمكن أن يجامل الملك والدتى ويأمر المفوضية بعدم تسجيل الطفل، وقبل أن تغادر إلى القاهرة طلب منها أن تعطيه الإقرار حتى يقوم بتوثيقه.
لم يخيب محمد شعراوى ظن مصطفى النحاس، أخذ الإقرار ووضعه فى جيبه دون أن ينظر فيه، فما كان له أن يتصور أنها قامت بتصويره وأعطته منه صورة.
منح القدر فاطمة ابنة أسمتها «ليلى»، لكن المفاجأة التى لم تتوقعها كان رد فعل محمد، فقد غضب عندما عرف أنه رزق ببنت، وقال لها وهو يصرخ: بنت.. بنت.. يا نهار أسود.
اختفى محمد شعراوى لأسابيع، حاولت فاطمة أن تصل إليه، لم يرد على اتصالاتها فى الأماكن التى يتردد عليها، وعندما رد، سبها ولعنها، وقال لها: أنا لست زوجك.. وليست بيننا علاقة زوجية، وطفلتك ليست طفلتى.
لم تجد فاطمة أمامها إلا هدى شعراوى.
اعتقدت أنها يمكن أن تلين بعد أن تعرف أنها رزقت بحفيدة، فقررت أن تكتب إليها.
رسالة فاطمة إلى هدى شعراوى وثيقة تاريخية مهمة، تقول فيها:
«سيدتى.. سلامًا وبعد، إن اعتقادى بك وبعدلك ودفاعك عن حق المرأة، يدفعنى كل ذلك إلى التقدم إليك طالبة الإنصاف، وبذلك تقدمين للعالم برهانًا على صدق دفاعك عن حق المرأة، ويمكنك حقيقة أن تسيرى على رأس النساء مطالبة بحقوقهن، ولو كان الأمر قاصرًا على لما أحرجت مركزك، لعل أنك أم تخافين على ولدك العزيز أن تلعب به أيدى النساء وتخافين على مستقبله من عشرتهن، وعلى سمعته من أن يقال إنه تزوج امرأة كانت فيما مضى من الزمان تغنى فى المسارح، ولك حق إن عجزت عن تقديم ذلك البرهان الصارم على نفسك، لأنه يصيب من عظمتك وجاهك وشرف عائلتك، كما تظنون يا معشر الأغنياء».

«ولكن هناك طفلة مسكينة هى ابنتى وحفيدتك، إن نجلك العزيز والله يعلم وهو يعلم ومن يلقى عليها نظرة واحدة يعلم ويتحقق من أنها لم تدنس ولادتها بدم آخر، والله شهيد، طالبت بحق الطفلة المعترف بها ابنك كتابيًا، قبل أن يتحول عنى وينكرها وينكرنى، فلم أجد من يسمع لندائى، وما مطالبتى بحقها وحقى كزوجة طامعة فى مالكم.. كلا والله».
«فقد عشت قبل معرفتك بابنك وكنت منزهة محبوبة كممثلة تكسب كثيرًا، وربما أكثر مما كان يعطيه لى ابنك، وكنت متمتعة بالحرية المطلقة، وأنت أدرى بلذة الحرية المطلقة التى تدافعين عنها، ثم عرفت ابنك فاضطرنى أن أترك عملى وأنزوى فى بيتى، فأطعته غير طامعة بأكثر مما كان يجود به، وما كنت أطمع أن أتزوج منه ولا أن ألد منه، ولكن هذه غلطة واسأليه عنها أمامى، وهو الذى يتحمل مسئوليتها، فقد كنت أدفع عن نفسى مسألة الحمل مرارًا وتكرارًا، حتى وقع ما لم يكن فى حسابى، هذه هى الحقيقة الواقعة وانتهى الأمر».
«والآن يتملص ولدك من كل شىء، ولا يريد الاعتراف بشىء، وقد شهد بنفسه من حيث لا يدرى بتوسيطه كثيرين فى الأمر، وما كنت فى حاجة لوساطة، ولو كان تقدم إلى طالبًا فك قيده لفعلت، وكانت المسألة انتهت فى السر، ولم يعلم بها أحد، فعرض على فى الأول قدرًا من المال بواسطة على بك سعد الدين سكرتير عام وزارة الأشغال، وبواسطة الهلباوى بك المحامى الكبير، وغيرهم ممن حضروا إلى ظانين أننى طامعة فى مالهم، وأنه فى إمكانى إنكار نسب ابنتى إذا أغرونى».
«ولكننى أخاف إلهًا عادلًا بأنه سيحاسبنى يومًا عن حقوقها، إن لم تحاسبنى هى عليها، فلم يجد محمد منى قبولًا للمال، وعندما وجد منى امتناعًا عن إنكار نسب ابنته سكت عنى تمامًا، فوسطت فهيم أفندى باخوم محاميه، فاجتهد فى إقناعه بصحة حقوقى واعترافه بابنته، وتوسط فى أن ينهى المسألة على حل يرضى الطرفين، فلم يقبل نجلك نصيحته بالمرة، وكان جوابه أن ألجأ برفع دعوى عليه ومقاضاته وهو يعلم تمامًا أن نتيجة الدعوى ستكون فى صالحى، فلا أدرى ماذا يفيده التشهير فى مسألة كهذه سيعلم بها الخاص والعام، وسنكون أنا وأنتم مضغة فى الأفواه».
«وأنت أدرى بجونا المصرى وتشنيعه، خصوصًا فى مسألة كهذه، وهذا ما يضطرنى إلى أن أرجع إليك قبل أن أبدأ أية خطوة قضائية ضده، وليس رجعى هذا عن خوف أو عجز، فبرهانى قوى ومستنداتى لا تقبل الشك وكلها لصالحى، ولكن خوفًا على شرفكم وشرفى أكثر من غيرى فى حالتى الحاضرة، فهل توافقين يا سيدتى على رأى ولدك فى إنهاء المسألة أمام المحاكم؟ أنتظر منك التروى فى الأمر، والرد على فى ظرف أسبوع، لأننى قد مللت كثرة المتداخلين.. ودمت.. المخلصة فاطمة سرى».

لم تستجب هدى شعراوى ولم تهتز ولم تحن.
كانت على قناعة أنها ستسحق فاطمة، وتجعلها تندم على تحديها لها بهذه الصورة.
كان رد فاطمة على التجاهل عنيفًا.
تقدمت بدعوى إلى المحكمة لإثبات الزواج ونسب طفلتها إلى زوجها محمد شعراوى، ولأن الخصم كان هدى شعراوى وليس ابنها، فقد استمرت جلسات المحاكمات ٥ سنوات كاملة، حاولت هدى خلالها كل المحاولات لكسب الدعوى لصالح ابنها.
طعن محاموها فى الإقرار المكتوب بخط وتوقيع محمد شعراوى، وقالوا إنه مزور، وحاولت هدى الوصول إلى خبير الخطوط الذى سيفحص الإقرار، وعرضت عليه أن يأخذ ما يريد فى مقابل أن يقول إن الخط الموجود ليس خط ابنها، لكنه رفض وهدد محاميها بأنه سيفضح الأمر إذا عادوا إلى الحديث معه، شارك فى المحاكمة عشرات المحامين وعشرات من شهود النفى وشهود الإثبات، وفى النهاية حكمت المحكمة لفاطمة سرى بما أرادت.. صحة زواجها ونسب طفلتها إلى أبيها.
الضربة الأكثر قسوة هو ما فعلته فاطمة سرى.
فخلال الفترة من ١٩٢٦ وحتى أبريل ١٩٢٧ نشرت مجلة «المسرح» مذكرات فاطمة سرى على حلقات كشفت فيها القصة كاملة دون أن تخفى شيئًا.
تحدثت فاطمة عن بداية علاقتها بمحمد شعراوى، وكيف تم الزواج بينهما، ثم ما الذى دعاها لتطارده فى المحاكم بعد ذلك.
الأكثر قسوة على هدى شعراوى فى هذه المذكرات ما لوحت به فاطمة عن مستقبل طفلتها.

قالت: لا يدهشنى أكثر من أن السيدة هدى شعراوى تقف مكتوفة الذراعين أمام ابنها، وهى ترى سيدة تطالب بحقها وحق ابنتها، فى حين أنها تملأ الصحف المحلية والأجنبية بدفاعها عن حق المرأة، وتحمل نفسها عناء السفر كل عام إلى الخارج لترفع صوتها مطالبة الرجل الأجنبى عنها الذى ليس لها عليه سلطان بالاعتراف بالابن غير الشرعى.
كانت فاطمة تضرب ولا تبالى، فقد قالت إنها اضطرت إلى العودة إلى العمل لكى تربى وتطعم حفيدة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوى والمرحوم على باشا شعراوى، وكان تشير بذلك إلى أن حفيدة الهانم فى النهاية ستحترف الغناء والتمثيل وتعمل مثل أمها.
فى هذا الوقت كانت الفنانة المسرحية فاطمة اليوسف صديقة فاطمة سرى قد أصدرت مجلتها «روزاليوسف»، وكان من أسباب إصدارها الاحتجاج على المجتمع الذى يتنقص من قدر الفنانين ويحط من شأنهم.
أجرت فاطمة اليوسف حوارًا مع فاطمة سرى، شرحت فيه موقفها وأبعاد قضيتها.
فى هذا الحوار كانت فاطمة سرى أكثر صراحة، قالت لفاطمة اليوسف إنها كانت تتمنى أن تظل ابنتها بعيدة عن المسرح والتخت، لكن يبدو أنه لا مفر من أن تكسب عيشها على التخت وبين الأنوار والنظرات والأقاويل.
فى أرشيف المكتبة العربية كتاب مهم للدكتورة نهاد صليحة «هو المرأة بين الفن والعشق والزواج» تناولت فيه مذكرات فاطمة سرى بالتحليل، ومن بين ما ذهبت إليه أن هناك من أملت المغنية المذكرات عليه، لأنها مكتوبة بلغة بليغة، والمعروف أن فاطمة لم تتلق أى قدر من التعليم.

لم يكن هذا دقيقًا إلى حدٍ كبير، فقد قدمت فاطمة مذكراتها بلغتها العامية البسيطة.
ويمكن أن نقرأ لها ما كتبته كتقديم لهذه المذكرات: مصر لم تر سيدة شرقية تنشر مذكراتها على أية حادثة من الحوادث التى صادفتها فى الحياة، لذا يكون عملى ده جرأة فى نظر البعض، والحقيقة أنه واجب أكرهتنى عليه الظروف وتكاتف شاب غنى وبعض رجال المحاماة المشهورين لهضم حقوقى ودوس كرامتى وسلب ابنتى حقها فى حمل اسم أبيها الشرعى.
الأهم من ملاحظة نهاد صليحة الشكلية كان ما قالته عما تعكسه هذه المذكرات فى واقع المجتمع المصرى فى هذه الفترة، وأعتقد أنه لا يزال ساريًا حتى الآن.
تقول صليحة: المذكرات تكشف عن توزع الذات الكاتبة وتشتتها بين مجموعة من التناقضات العنيفة التى شكلت وضعية المرأة عامة، والممثلة خاصة فى العشرينيات من القرن الماضى، وأنتجت صورتها عن ذاتها، وصورة المجتمع عنها، ففى المذكرات يقف العشق كنقيض للزواج، والأنثى كنقيض للأم، وحرية المرأة كنقيض لمكانتها المحترمة، والمقبول دينيًا كنقيض للمقبول اجتماعيًا.
وكما استخدمت فاطمة الصحافة لجأت هدى شعراوى إلى الصحافة أيضًا.

فى أرشيف مجلة الهلال عدد ١ يونيو ١٩٢٧ موضوع مصور لهدى شعراوى أغلب الظن أنه كان مدفوعًا.
تتصدر صورة لهدى شعراوى دون حجاب، وهى صورة نادرة لها، التقرير المنشور.
ويقول محرره: السيدة هدى شعراوى من أكبر الزعيمات المصريات، وقد كانت لها جولات فى السياسة الوطنية، أبلت فيها البلاء الحسن، ورفعت بها شأن مصر عامة والمرأة المصرية خاصة، وقد سعت المساعى الحميدة لتحرير المرأة وتعليمها، وإنشاء الأندية والمدارس، وكللت أعمالها بالنجاح الذى كان يطمع فى مثله المرحوم قاسم أمين، ونحن ننشر صورتها هذه لمناسبة ما تفضلت به من الحديث مع مندوب الهلال عن الشئون الوطنية المختلفة.
فى التقرير لا تتحدث هدى شعراوى، تكتفى المجلة بنشر مجموعة من الصور، منها مثلًا مبرة محمد على، ويقول التقرير تعليقًا عليها: من الأعمال العظيمة التى قامت بها السيدة هدى شعراوى هذه المبرة التى كانت هى أكبر عامل فى إنجاحها، حتى صارت الآن من المؤسسات الخيرية الكبرى، ويرى القارئ إلى اليسار صورة مستوصف هذه المبرة، وفى أسفل صورة المرضى وقت العيادة.
ثم نجد صورة أخرى يصاحبها التعليق الآتى: من الأعمال الخيرية التى مدت إليها السيدة هدى شعراوى يد المعونة والبر وخدمتها بمالها وجهدها، هذه الدار التى تدعى «دار الاتحاد النسائى» ويرى هنا قسم الخياطة حيث تتعلم الفتيات فنًا ينفعهن فى حياتهن.
وصورة أخرى يصاحبها تعليق: قسم آخر من أقسام دار الاتحاد النسائى حيث تعلم الفتيات صناعة النسيج اليدوى.
وإلى جوار صورة بها بعض المصنوعات الخزفية، تقول المجلة: دفعت الغيرة الوطنية السيدة هدى شعراوى إلى إحياء صناعة وطنية راقية هى صناعة الخزف، فأسست مصنعًا فى روض الفرج بالقاهرة، وجلبت له العمال الوطنيين الذى ترى مصنوعاتهم هنا.

أما الصورة الأخيرة فتقرأ التعليق التالى عليها: تصنع الأطباق والزهريات فى مصنع روض الفرج على أنماط عربية قديمة أو على أنماط مصرية، وتتزين باللوتس رمز المصريين القدماء أو بالخط الكوفى الذى كان معروفًا أيام الخلفاء.
لم يحمل هذا التقرير أى إشارة للقضية، لكنه كان بمثابة غسيل سمعة قامت به هدى شعراوى، وكأنها تقول إن السيدة التى قامت بكل هذا لا يجب التعامل معها بما تقوم به فاطمة سرى أو غيرها.
المفارقة أن هدى شعراوى كانت قد انتهت من كتابة مذكراتها كاملة، ولم تصدر إلا فى العام ١٩٨١، ورغم أنها تضم ٤٤ فصلًا، إلا أنها لم تأت ولو بكلمة واحدة عن هذه القضية، بل لم تشر إلى فاطمة سرى ولو بشكل عابر، فقد اختارت أن تكون مذكراتها لجهادها الاجتماعى والسياسى فقط.
بعد الحكم والمذكرات خضعت هدى شعراوى، لكنها واصلت قسوتها وانتقامها من فاطمة سرى.
سمحت هدى شعراوى لحفيدتها ليلى أن تدخل بيتها لكن دون أمها، وكان هذا هو الاتفاق الذى توصل إليه المحامون من الطرفين، وأصبحت ليلى لا تعرف لها أبًا إلا محمد شعراوى ولا أمًا إلا منيرة هانم عاصم زوجته الأولى، تعلمت ليلى وتخرجت فى الجامعة الأمريكية، وتزوجت فى حفل كبير من وكيل نيابة، وحضر الجميع فرحها، إلا أمها فقد منعتها العائلة من الحضور أو المشاركة.
الغريب أن فاطمة سرى لم تعترض ولم تحتج، ولم تحاول أن تقتحم حياة ابنتها، التى كانت تقابلها بعيدًا عن العائلة، وكان يكفيها أنها انتصرت على السيدة التى وهبت نفسها للدفاع عن النساء، ولما وضعها الله فى اختبار لم تصمد.

لم تنتهِ الحكاية عند هذا الحد.
فى العام ١٩٤٧ وبعد عشرين عامًا كاملة على هذه القضية وبينما تعرض سينما «ستديو مصر» فيلم «فاطمة» بطولة أم كلثوم- كان آخر أفلامها- وأنور وجدى، إذا بالجمهور يجد نفسه أمام قصة فاطمة سرى.
البطل هو ابن أحد الباشوات، يتزوج عرفيًا من شابة فقيرة، يغضب أبوه من الزواج، فيحاول الشاب أن يسرق ورقة الزواج العرفى بإلحاح من أبيه لينهى الزواج وكأنه لم يكن، وينجح فى ذلك، لكن فاطمة كانت تحتفظ بنسخة أخرى من ورقة الزواج، أنجبت فاطمة فى الفيلم كما أنجبت فى الحقيقة، وتنكر لها زوجها فى الفيلم كما تنكر فى الحقيقة، لكن فاطمة السينمائية تنتصر بأكبر من انتصار فاطمة الحقيقية، فرغم أنها تخسر القضية إلا أن زوجها يستيقظ ضميره ويعترف بابنته، لتهدى لنا أم كلثوم واحدة من أحلى أغانيها «نصرة قوية».
كان مصطفى أمين هو من كتب قصة فيلم «فاطمة»، كلفته أم كلثوم بذلك، رغم أنه لم تكن له خبرة بكتابة قصص الأفلام، لكنها أصرت ربما لقربهما الشخصى فى هذه الفترة.
قرر مصطفى أمين أن يجعل نهاية البطل الذى يتنكر لابنته بشعة، وذلك بأن يموت فى حادث سيارة، لكن أنور وجدى اعترض وعلل رفضه بأن هذه النهاية فأل سيئ عليه، ثم إنه لا يحب أن يموت فى الأفلام، فغيّر النهاية لتصبح نهاية سعيدة، رغم أنه كان يريدها مأساوية.

لم يكن فيلم «فاطمة» وحده من تناول قصة فاطمة سرى ومحمد شعراوى.
حدث هذا أيضًا فى فيلم «الليالى الدافئة» الذى لعب بطولته عماد حمدى وصباح، تم إنتاجه فى العام ١٩٦١، ودار حول الجراح الشهير الذى يحب مطربة- فى الفيلم كان اسمها ليلى وهو نفس اسم ابنة فاطمة سرى- وعندما تنجب منه ابنتها هدى- لاحظ أنه نفس اسم هدى شعراوى- يتنكر لها بتأثير والدته التى رفضت الزواج، ويأخذ منها ابنتها، لكنه فى النهاية يخضع لرغبة ابنته فى أن تعود إليها أمها، ويقبل كذلك أن يتزوج زميله الطبيب من شقيقته، وكان قد سبق رفض طلبه، فى إشارة إلى أن المجتمع يتغير، وبعد سنوات من ثورة ١٩٥٢ لا يجب أن تكون هذه الفوارق الطبقية موجودة أو حاكمة.
كانت قصة فاطمة سرى ملهمة.
لم تكن تجربتها سهلة.
لكنها على الأقل منحتنا مساحة تأمل.. أن الإنسان يظل مثاليًا حتى يدخل فى تجربة.