العالم فى حلبة المصارعة الحرة .. ماذا يقرأ ترامب قبل الحرب وبعدها؟

- إننا أمام مرحلة مختلفة تمامًا فى عمر النظام الدولى يقودها مصارع وليس رئيسًا
نظلم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إذا نظرنا إليه على أنه مجرد بيزنس مان يجيد الصفقات الرابحة، قادته أقداره إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية فى غفلة من الزمن.
ونظلمه عندما ننظر إليه على أنه رجل عشوائى متناقض مراوغ وكاذب، يقول التصريح وعكسه فى التدوينة نفسها، فلا نعرف على وجه التحديد ما الذى يريده، أو ما الذى سيفعله.
ونظلمه كذلك عندما نقيّمه بمعايير نظرتنا لرؤساء أمريكا التقليديين الذين سبقوه، والذين من المؤكد لا يعجبهم أداؤه أو أى شىء يصدر عنه، بل يعتبرون وصوله إلى السلطة مرتين وليس مرة واحدة هزيمة كبرى لأمريكا ولكل ما تمثله من قيم.
إذا أردنا أن ننظر إلى ترامب بحياد تام، فعلينا أن نعرف إلى أى فصيل بشرى ينتمى هذا الرجل الذى عاش حياة صاخبة ولا يزال، فرغم سنوات عمره التى عبرت إلى الثمانين، إلا أنه لا يزال يتصرف بمنطق ومنهج وروح شاب فى العشرين، مراهق منطلق عابث لا يشغله إلا ما يريده، ولا يهتم إلا بما يخطط له.
أعرف من بين البشر، وهؤلاء أعتبرهم صناع الحياة ومن يصيغونها على أعينهم، من لا يهتمون بالتفاصيل، تشغلهم النتائج فقط، وهكذا هو ترامب فيما أعتقد.
تفاصيله مربكة، متناقضة، عشوائية، يعطى إشارة يمين ويتجه إلى اليسار.. أو العكس.
يطمئنك بأنه فى صفك وهو يخطط لطعنك بلا رحمة، أو يوهمك أنه خصمك وعدوك ويريد أن ينقض عليك، وإذا به يقول لك بارك الله فيك.
بعد الضربة التى وجهتها إيران إلى القواعد الأمريكية فى دول الخليج، وعلى رأسها قاعدة العديد، الأهم والأكبر فى قطر، دخل ترامب فى اجتماع مطول مع أعضاء مجلس الأمن القومى الأمريكى.

حبس العالم أنفاسه، فى انتظار ما ستسفر عنه الأحداث، على خلفية التهديد الصارخ الذى وجهه إلى طهران إذا ما فكرت فى الرد على الضربة الأمريكية التى استهدفت الأهداف النووية الإيرانية.
خرج ترامب من الاجتماع وديعًا أليفًا، ينهى الحرب ويتوجه إلى الله بالدعاء: بارك الله إسرائيل، وبارك الله إيران، وبارك الله الشرق الأوسط، وبارك الله الولايات المتحدة الأمريكية، وبارك الله العالم.
ولعلك مثل كثيرين تساءلت إذا كان ترامب يتمنى من الله، بل يرجوه أن يبارك الجميع، كل الخصوم وضعهم فى سلة دعاء واحدة، فلماذا كان كل هذا الخراب والدمار والضحايا من الأساس؟
لا يخدع ترامب نفسه، لا يريد الحرب، يرغب فى أن يعم السلام.
رجل أعمال مثله يعرف أنه لا يمكن أن يحقق العالم شيئًا إلا من خلال السلام، وإذا رفض المتنازعون أن يخضعوا للسلام من خلال مائدة المفاوضات، فلا مانع أن يستسلموا له بفعل القوة المحسوبة، وهو ما فعله مع إيران حتى قبل أن تبدأ حرب الـ١٢ بينها وبين إسرائيل.
يعتبر ترامب نفسه رجل صاحب بصيرة.
فى العام ١٩٨٩ رسم فنان البورتريه الأمريكى الشهير «رالف وولف كوان» صورة لترامب لا يزال الرئيس الأمريكى يعلقها على حائط بيته فى «بالم بيتش».
وضع «رالف» للصورة عنوان The Visionary «صاحب الرؤية» لكن ترامب استراح لأن يطلق على الصورة اسم «البصيرة».
تُظهر اللوحة ترامب شابًا أسمر اللون ووسيمًا يرتدى سترة تنس بيضاء، وكان «رالف» قد تعمد اختيار اللون الأبيض ليميز ترامب عن ملابسه الداكنة والرسمية التى كان يرتديها فى مدينة نيويورك.
سر إعجاب ترامب بهذه الصورة تحديدًا كشفه «مارك بودين» فى ملف تعريفى كتبه عن ترامب فى مجلة «بلاى بوى» فى العام ١٩٩٧.
يقول «بودين»: كان ترامب معجبًا برالف.. فهو من نوعية الرسامين الذين يقدرهم.. أولئك الذين يرونه حقًا كما يرى نفسه فى المرآة.
«البصيرة» تلك التى يعتقد ترامب أن الله منحها إياه دونًا عن الآخرين، هى التى تجعله يتصرف كما يتصرف دائمًا، ليس فى البيزنس فقط، ولكن فى السياسة أيضًا.
يعتقد ترامب أنه يرى ما لا يرى غيره.
لا يركن إلى النظريات المعتادة التى يحكم بها الرؤساء.
ولا يميل إلى أخلاقيات السلطة التى تبدو من على السطح لامعة وبراقة، لكنها فى الواقع ليست كذلك أبدًا، فهى غارقة فى السوء والتدنى والانحطاط.

يتحدث هو بصراحة وشفافية ويعلن عما يريده حتى لو كان جارحًا وغير إنسانى ومستفزًا ومتجاوزًا.
لا يكذب ترامب ولا يتجمل، العالم من حوله هو الذى يكذب ويتجمل.
ولذلك نبحث جميعًا عن طريقة لنفهم بها ترامب رغم أنه واضح ومفهوم.
وحتى نستريح فلا بد أن نتعامل معه كما هو، نصدقه عندما يقدم، ونصدقه عندما يتراجع، فهو صادق فى إقدامه وفى تراجعه، لكن الأزمة أنه ليس الصدق المطلق، فالصدق فيما يتعلق بالرئيس الأمريكى نسبى، لا بد أن نضعه فى السياق الذى يتحرك فيه.
يبدو ترامب مثلًا لا يؤمن بالعلم ولا يحترم العلماء.
طبقًا لتقارير صحفية دولية، ففى أكتوبر ٢٠٢٤ سخر ترامب من بايدن عندما قال فى حملته الانتخابية قبل أن ينسحب من السباق الرئاسى إنه سينهى السياسة ويتبع العلم فى التعامل مع جائحة كورونا وغيرها من الأزمات الصحية والبيئية.
يومها قال ترامب: الاستماع إلى العلماء شىء لا يفعله إلا الأحمق.
شىء من هذا ترجمه ترامب عمليًا.
ففى ولايته الأولى التى امتدت من العام ٢٠١٧ حتى ٢٠٢١، لم يعين مستشارًا علميًا إلا بعد عامين تقريبًا من ولايته، ولم يسمح بشغل العديد من المناصب العلمية الرئيسية فى إدارته، خاصة فى مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا المعنى بتقديم المشورة للرئيس عن آثار العلم والتكنولوجيا على الشئون المحلية والدولية.
وكما لا يؤمن ترامب، لا بالعلم ولا بالعلماء، فإنه لا يقرأ، لم يضبطه أحد متلبسًا بقراءة كتاب أبدًا.
وحتى نكون منصفين، فإن ترامب لا يقرأ سوى كتاب واحد هو «فن الصفقة» الذى صدر فى الولايات المتحدة الأمريكية فى العام ١٩٨٧.
الكتاب من تأليف ترامب نفسه، وكتبه بالنيابة عنه الكاتب الأمريكى «تونى شوارتز».
هناك كتابان آخران أصدرهما ترامب وتولى كتاب آخرون كتابتهما بالنيابة عنه هما «حان وقت الصمود» الذى صدر فى العام ٢٠١١، وكتاب «أمريكا العرجاء» وصدر فى العام ٢٠١٥.
يعتز ترامب بكتابيه الأخيرين، لكنه ينتمى لكتابه «فن الصفقة» لأنه يعبر عنه أكثر، ولذلك فهو كثيرًا ما يعود إليه، وأعتقد أنه يحدّث طبعاته بشكل عملى، من خلال أداءاته السياسية والاقتصادية، فهو ليس فى حاجة لأن يصدر طبعات جديدة منه، فالطبعات الحية بالنسبة له أهم، فهو يعتبر نفسه ملهمًا للعالم، وربما من أجل ذلك يرى نفسه مستحقًا لجائزة نوبل للسلام، ويتعجب ممن يسخرون منه لأنه يطالب بها.

ما يؤكد لى أن ترامب لا يقرأ إلا لنفسه ما قاله «تونى شوارتز» كاتب كتابه الأول، يقول فيه: خلال العام ونصف العام الذى عملنا فيه معًا على كتاب «فن الصفقة»، لم أر كتابًا واحدًا فى مكتب ترامب أو شقته».
وحتى نقترب من عالم ترامب الكاتب، القارئ لنفسه فى الوقت ذاته، فلا بد أن نتوقف عند تقييم صحيفة «واشنطن بوست» لإنتاج ترامب فى كتبه.
تقول الصحيفة إن السائد فى جميع أعمال الرئيس الأمريكى هو التركيز على نفسه فقط، فهو يستشهد طوال الوقت بأمثلة من أعماله ونجاحاته فى المجالين العقارى والتليفزيونى.
عالم ترامب فى كتبه ثنائى، فإما أن تكون من مجتمع الأعمال الرابح أو تكون خاسرًا طول الوقت، وربما لهذا يحاول أن يشرك العالم كله معه فى مجتمع الأعمال، لا يريد لأحد أن يخسر، يتمنى أن يخرج الجميع رابحًا، وهو ضد المنطق والعقل، لكنه لا يتراجع عن ذلك أبدًا.
يعرف ترامب ما كتبه فى كتبه جيدًا، يسير عليه، يحاول صياغة العالم على هواه، ولا يراجع فى ذلك أحدًا، لأنه يثق أن ما يفعله صحيح.
عندما نقترب أكثر سنجد أن فهم ترامب يقتضى منا أن نقترب من علاقته بعالم المصارعة.
على موقع «مونت كارلو» تقرير مهم عنوانه «كيف تؤثر ثقافة المصارعة الحرة على سياسات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب»؟
فى التقرير أن ترامب ومنذ دخوله عالم السياسة وهو يتميز بأسلوب غير تقليدى، يثير الجدل ويجذب الانتباه فى آنٍ واحد، لكن بعض المراقبين يعتقدون أن الطريق لفهم أسلوب الرئيس الأمريكى فى السياسة، قد يمر ربما عبر عالم قد يبدو بعيدًا للوهلة الأولى، لكنه فى الواقع مرتبط بشخصيته وبالصورة التى يسعى للتسويق لها عن نفسه، وهو عالم المصارعة الترفيهية أو المصارعة الحرة، والمعروفة باسم «دبليو دبليو إى».
معرفة القواعد الأساسية فى عالم المصارعة الحرة يمكن أن تساعدنا فى معرفة كيف يعمل ترامب، وكيف يتصرف، وكيف يدير شئون السياسة فى العالم؟
أبرز قواعد المصارعة الحرة أنها تكون بين البطل الطيب الذى يمثل العدالة والحق والعدو الشرير الذى يمثل الظلم والباطل.
المفارقة أن تنفيذ هذه القاعدة تحديدًا يمكن أن يوضح لنا ماذا جرى فى ليلة إعلان ترامب نهاية الصراع بين إيران وإسرائيل.
فكل مصارع لا بد أن يتقمص شخصية معينة، يختار إما أن يكون ممثلًا للخير أو ممثلًا للشر، ثم يخوضان المعركة بكل شراسة رغم أن المتابعين جميعًا يعرفون أنها مجرد تمثيلية يسعى الجميع من ورائها إلى الترفيه.. والترفيه فقط.
يعرف الخبراء بالمصارعة الحرة هذه القاعدة باسم «وهم الواقعية»، فكل ما يدور أمامهم واقعى، لكنه ليس حقيقيًا.
دخل ترامب حلبة المصارعة كثيرًا.
أشهر مشاركاته كانت فى العام ٢٠٠٧ وأطلق على العرض «معركة المليارديرات» وظهر خلاله ترامب إلى جوار صديقه «فينس مكمان» رئيس اتحاد المصارعة الحرة، وخصمه فى الحلبة، وفاز فريق ترامب، وقام بحلق شعر منافسه على الهواء فى إشارة إلى إذلاله.
وفى العام ٢٠١٣ أدرجوا اسمه فى قاعة «مشاهير دبليو دبليو إى» لتكريمه كأحد أبرز شخصيات عالم المصارعة الحرة للمحترفين.
مَن حاولوا تحليل شخصية ترامب، كثيرون حول العالم يسعون إلى ذلك، أخذوا من علاقته بالمصارعة مدخلًا أساسيًا لفهمه وتوقع خطواته وقراراته، بل وتحولاته أيضًا، وأعتقد أنه صحيح تمامًا.
فهو مثل المصارعين يعمل فى مسارات محددة.
أولًا: يخلق لنفسه أعداءً واضحين، فى حالة ترامب يعادى الإعلاميين والنخبة السياسية والمهاجرين والنظام القضائى ورجال الحزب الديمقراطى وقادة دول بعينها.
ثانيًا: يقدم نفسه للشعب كبطل يتحدى كل هؤلاء الخصوم ويتحدى النظام من أجل مصلحة الشعب وحده، ولتعود أمريكا كما كانت عظيمة.

ثالثًا: يطمس تمامًا أى حدود بين الحقيقة والاستعراض، فيفقد من يتابعه البوصلة، فلا يعرف على وجه التحديد هل ما يراه وهمًا أم حقيقة؟ وهل ما سمعه حدث فعلًا؟ أم أنه مجرد خيال؟ وهل ترامب نفسه شخصية حقيقية أم شخصية مصنوعة خارجة من إحدى الأساطير، أو على أقل تقدير خارجة من فيلم هوليوودى؟
لم يفعل ترامب فى حرب إيران إسرائيل أكثر من ذلك.
ولم يفعل فى أى شأن داخلى أمريكى أو خارجى يخص دائرة من دوائر العالم المشتعلة أكثر من ذلك.
ولن يفعل فيما هو قادم من الأيام أكثر من ذلك.
لا يهتم ترامب بمن يخلفهم وراءه من ضحايا.
لا أقصد مئات القتلى وآلاف المصابين وعشرات المنشآت التى تتهدم وتنهار بلا داعٍ.
ولكن أقصد ضحاياه من القواعد التى ظل العالم يعمل تأسيسًا عليها فى السياسة خلال قرون، وضحاياه من المشتغلين فى الإعلام على طول العالم وعرضه، فقد رصدت حالة من الارتباك الشديدة فى كل قنوات العالم بعد بيانه الذى أعلن من خلاله أن الحرب انتهت، كما سقط كل المحللين والسياسيين والخبراء الاستراتيجيين صرعى فى لحظة، فقد كانوا يسيرون فى اتجاه محدد بأقصى سرعة، وفجأة وجدوا أنفسهم مضطرين إلى السير فى طريق آخر تمامًا.
إننا أمام مرحلة مختلفة تمامًا فى عمر النظام الدولى، يقودها مصارع وليس رئيسًا، وأعتقد رغم إعجاب الكثيرين به، إلا أنه لا أحد يريد أو يتمنى أن يستمر ما يفعله، أو يستمر هو من الأساس، فالعالم يأنس لقواعده وأسسه ومعادلاته، يريد أن يعمل بها ويعيش عليها، دون أن يواجهه أحد بصورته الحقيقية، وهى صورة، رغم أنها مشوهة، إلا أننا جميعًا نرى أنها جميلة.. وهذا يكفينا.