الأحد 08 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

نظرات عابرة على العقل المصرى الآن.. تفكيك فخ الكتاتيب وقصور الثقافة

حرف

- على رأس ميثاق عمل الكتاتيب غرس قيمة الوطن وحبه فى النفوس وبث روح الأمل والمحبة

- ما الذى تستفيده المجتمعات المحلية من وجود مؤسسات ثقافية مغلقة ومهجورة؟

أعلنت بوضوح عن موافقتى على ما تقوم به وزارة الثقافة من تطوير القصور والبيوت والمكتبات التابعة لهيئة قصور الثقافة، من خلال إغلاق غير الفاعل فيها وبعث الروح فى القادر على التأثير فى محيطه المجتمعى. 

كان قد ثار جدل هائل بعد قرار الوزارة بالتصرف فيما يقرب من ١٢٣ بيتًا وقصرًا ومكتبة تابعة للهيئة، وأعتقد أنه لم ينته حتى الآن، ولن ينتهى قريبًا. 

وأعلنت، كذلك، بوضوح عن موافقتى- المشروطة- على عودة الكتاتيب مرة أخرى. 

قلت: موافق على فكرة عودة الكتاتيب مرة أخرى؟ لكن أى كتاتيب؟ هل ستكون لتحفيظ الأطفال الصغار القرآن بالتلقين فقط؟ أم لدى المسئولين عنها منهج وفكر جديد، نؤسس من خلاله لجيل جديد قادر على التفكير والتحليل والنقد والرفض لما لحق بالدين من خرافات وأوهام؟ 

هل يمكن أن نجد فى الكتاتيب تدريسًا للتاريخ المصرى بما يعزز عند الأطفال الاعتزاز بوطنهم والانتماء إليه؟ أم نتركهم نهبًا لمن يملأ أدمغتهم بحكاية الخلافة ووهم مجد الدولة الإسلامية؟ هل سندربهم على التفكير العلمى الصحيح أم سنزرع فيهم فلسفة السمع والطاعة؟ 

هل سنحدثهم عن الجماعات المتطرفة الذين اختطفوا الدين ونحذرهم من أفكارها؟ أم نعلمهم ما يجعلهم لقمة طيعة وسائغة تأكلها هذه الجماعات؟ لو عادت الكتاتيب، كما نعرفها، فإنها ستكون خطرًا على الأمن القومى المصرى أكثر من أى شىء آخر. 

إذا كان لديكم شىء آخر، فحدثونا عنه، وإن لم يكن لديكم شىء يفيد هذا الوطن، فابحثوا لأنفسكم عن عمل آخر. 

تعودت ألا أمنح موافقتى على بياض، أو أبدى اعتراضى دون مبرر. 

وتعودت أيضًا أن أعلن عن رأيى حتى لو كان معارضًا ومخالفًا لآراء الجميع، أضع فى ذلك حكمة الإمام على الخالدة: لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه. 

والمشكلة الحقيقية التى نعانى منها الآن وظهرت بشكل واضح فى المجال العام أن الموافقة على أمر أو رفضه لا تستند إلى أسباب موضوعية. 

فهناك من يوافق لأن الجميع يفعل ذلك، أو يرفض لأنه يجد من حوله يعلنون الرفض ويتحمسون له ويرفعون شعاره. 

بيت ثقافة المرج يتواجد فى شقة مستأجرة

بعد وفاة الكاتب أحمد خالد توفيق، كانت هناك موجة عاتية على شبكات التواصل الاجتماعى يعلن أصحابها حبهم له وتمجيدهم لما كتبه. 

وحكى لى صديق أن أحد أصدقائه أرسل له على الخاص يسأله: هى إيه حكاية أحمد خالد توفيق؟ ولماذا كل هذا الاهتمام به؟ وهل هو شخص مهم فعلًا؟ 

حكى صديقى لصديقه عن خالد توفيق وكتاباته وشخصيته ومحبة الشباب له، وبعد دقائق قليلة وجده يكتب على حسابه الشخصى: أحمد خالد توفيق.. سأفتقدك كثيرًا.. تربيت على كتاباتك وألهمتنى قرارات مهمة فى حياتى. 

لم يكن الصديق الذى كتب رثاءً لأحمد خالد توفيق كاذبًا فيما كتبه فقط، لكنه كان يكشف عن أزمة أصبحت حاضرة فى العقل المصرى والعربى أيضًا، وهى أننا نردد ما يقوله الآخرون حتى نبدو وكأننا أصحاب رأى وفكر وموقف. 

شىء من هذا حدث، ولا يزال يحدث، فى النقاش الدائر والمحتدم حول إغلاق مؤسسات ثقافية وعودة الكتاتيب. 

لا يمكننى أن أنكر أن هناك من يرفض إغلاق المؤسسات الثقافية عن قناعة تامة، ويرى أن إغلاقها فيه ضرر كبير، فأنت تحرم المجتمعات التى كانت تعمل فيها هذه المؤسسات من رئة يتنفس من خلالها الناس بعض الفكر والثقافة والفن، وبذلك فأنت تقضى على مبدأ الديمقراطية الثقافية، فمن حق كل مواطن أن يحصل على نصيبه من المعرفة والمتعة، وأن هذه المؤسسات حتى لو كانت معطلة ومغلقة وبائسة، فالأولى أن نقوم بتطويرها بدلًا من إغلاقها. 

ولا يمكننى كذلك أن أقلل من شأن من يرفضون عودة الكتاتيب. 

فهناك من بينهم من يملكون رؤية واضحة للرفض، إذ يعتبرون أن عودة الكتاتيب عودة بنا إلى الوراء، وإذا أردنا لأطفالنا أن يحفظوا القرآن، فإننا يمكن أن نلجأ إلى التكنولوجيا الحديثة التى تجيد الأجيال الجديدة التعامل معها، وإذا كانت هناك أموال فائضة يمكن أن توجه للإنفاق على الكتاتيب الجديدة، فإن الأولى بنا أن نوجه هذه الأموال إلى التعليم العام، وكلنا يعرف مشاكله وأزماته، وهى مشاكل وأزمات تحتاج إلى الكثير من الإنفاق وبذل الأموال، حتى يستقيم للتعليم عوده، ويصبح عاملًا مساعدًا حقيقيًا فى بناء المجتمع ونهضته. 

مشكلتى أن هؤلاء الذين يملكون رؤية واضحة فى الرفض أو القبول، كانوا سببًا فى تحويل النقاش، الذى من المفروض أن يكون عاقلًا ومنهجيًا، إلى فوضى، بعد أن دخل وراءهم آلاف، تبنوا ما يقولونه دون أن تكون لديهم أدنى معرفة أو معلومات، ولا يمكن أن نلوم من نعتبرهم قادة رأى فهم يتحدثون عما يعرفون، لكن هناك أصحاب مصالح ومتطفلين يستغلون ما يقال ليقدموا أنفسهم إلى المجتمع كأبطال. 

هذا لا يمنع بالطبع أن نتأمل فى مواقف وآراء من رفضوا إغلاق المؤسسات الثقافية وعارضوا عودة الكتاتيب. 

الرفض جاء بداية للمصطلحات والأسماء، فأى عاقل لا بد أن يرفض إغلاق قصور وبيوت الثقافة.. وأن يحتج على عودة الكتاتيب لمجرد استخدام المصطلحات والأسماء التى تبدو قديمة وعتيقة. 

والرفض جاء ثانيًا للصور الذهنية التى لا تزال تحتل عقولنا وذكرياتنا عن قصور وبيوت الثقافة والكتاتيب. 

فكل منا له تجربة خاصة مع بيت أو قصر ثقافة تردد عليه وحضر ندوة أو شارك فى أمسية أو تردد على مكتبة، أو جلس ليشاهد فيلمًا سينمائيًا أو مسرحية. 

وكل منا جلس على أرضية كتاب أمام عريف يتلقى منه القرآن ليحفظه ويجوده.

هل يمكننى أن أقول إن حالة الرفض كانت ترتكن فى الأساس إلى أسباب نفسية وعاطفية؟ 

أعتقد أن هذا ما حدث، وهو ليس عيبًا على الإطلاق، فمشاعرنا فى الغالب هى التى تحركنا، ولا يمكن أن نلوم أحدًا على مشاعره وحسن نيته، لكن المشاعر وحدها ليست كافية، ولا النوايا أيضًا. 

قد تكون وزارة الثقافة أخطأت عندما لم تشرح بشكل كافٍ ما تريد أن تقوم به فى مسألة قصور وبيوت ومكتبات الثقافة. 

كان من المفروض أن يسبق القرار تمهيد وحوار وسرد موسع لأسباب ودوافع القرار، وأعرف أن هناك أسبابًا حقيقية ودوافع عملية هى التى دعت الوزارة إلى الإقدام على هذه الخطوة، كما أعرف أن الوزير كان يعلم أنه سيتعرض لهجوم كبير، لكنه امتلك الشجاعة الكافية لأن يعلن عما تخطط له وزارته. 

هذا القرار تأخر كثيرًا، وكان من المفروض أن يصدر فى عهد وزراء ثقافة سابقين، لكنهم لم يفعلوا ذلك، ربما لأنهم اختاروا أن يريحوا أنفسهم ويبعدوا الإزعاج عن أنفسهم. 

مبادرة من وزارة الأوقاف لعودة الكتاتيب مرة أخرى

لقد قامت الوزارة برصد وحصر دقيق جدًا لأوضاع بيوت وقصور ومكتبات الثقافة على مستوى الجمهورية، وكان هناك تقييم واضح لما تقوم به هذه المؤسسات وتقدمه لمجتمعاتها، وهناك من رأى أنه يمكن الاستفادة بها فى أعمال أخرى تستفيد بها المجتمعات المحلية التى تتواجد فيها. 

وإلا ليقل لى أحد من المعترضين على إغلاق هذه المؤسسات ما الذى تستفيده المجتمعات المحلية من وجود مؤسسات ثقافية مغلقة ومهجورة ترعى فيها القطط والكلاب والماعز، ويعمل بها موظفون فى الغالب لا يترددون عليها، بل يكتفون بالتوقيع حضور وانصراف فقط؟ 

هل يريد المعترضون أن يبقى الوضع على حاله؟ 

هل يسعدهم أن تكون هذه المؤسسات معطلة، هل يفرحون بأن تكون هناك لافتات مرفوعة على شقق مغلقة وكأنها شهود على قبور لا حياة فيها؟ 

الأمر نفسه تكرر مع الكتاتيب، وإن كان الوضع مختلفًا بعض الشىء. 

فالذين اعترضوا على عودة الكتاتيب لم يلتفتوا إلى أن وزارة الأوقاف أعلنت منذ أشهر عن استراتيجيتها فى عمل الكتاتيب الجديدة، فالعودة لن تكون تقليدية، والكتاتيب القديمة التى نعرفها أصبحت أثرًا وذكرى وتاريخ، ولا يمكن أن نعود إلى الوراء. 

فى يناير الماضى، أى قبل شهور من تجدد الجدل حول عودة الكتاتيب أعلنت وزارة الأوقاف عما أطلقت عليه «ميثاق عمل الكتاتيب بجميع القرى والمدن فى مصر». 

فى هذا الميثاق حددت الوزارة مهام الكتاتيب الجديدة، والتى يمكن أن نلخصها فى الآتى: 

أولًا: بناء الشخصية المصرية وحفظ الهوية، وغرس قيمة الوطن وحبه فى النفوس، وبث روح الأمل والمحبة. 

ثانيًا: إحياء لغة القرآن الكريم وحماية الأجيال من الفكر المتطرف. 

ثالثًا: اكتشاف مواهب التلاوة والإنشاد والشعر والإلقاء والخطابة والحفظ والخط. 

رابعًا: تنشئة الأجيال الجديدة على قيم القرآن الكريم ومبادئ الإسلام السمحة، وإذكاء قيم التنافس الإيجابى. 

وحددت الوزارة رسالتها من عودة الكتاتيب فى خمسة مبادئ أساسية هى: 

أولًا: احترام الأكوان واحترام كل خلق الله كما يتجلى من معنى «العالمين» فى مفتتح القرآن الكريم، يقول تعالى «الحمد لله رب العالمين»، فالمسلم سِلمٌ لكل من حوله، ولكل ما حوله. 

ثانيًا: إكرام الإنسان والتعامل الكريم مع كل إنسان، قال تعالى «ولقد كرمنا بنى آدم». 

ثالثًا: حفظ الأوطان والانتماء الصادق للوطن ومعاملته بقيم البر والوفاء والعطاء والفداء. 

رابعًا: زيادة العمران وبناء المؤسسات والتقدم العلمى والإسهام الحضارى، وتعلم الصناعات والمهن والحرف. 

خامسًا: زيادة الإيمان وعبادة الله على بصيرة وبإخلاص، وشكر النعمة والتعبد بالمحبة. 

ما شرحته وزارة الأوقاف عاد رئيس الوزراء وأكد عليه وهو يعلن أن الرئيس وجه بدراسة إمكانية عودة الكتاتيب، الملاحظة الجديرة بالاهتمام أن الموضوع لا يزال فى مرحلة الدراسة، لتمارس دورها فى بناء الشخصية المصرية السوية. 

رئيس الوزراء أشار إلى أن أهم الرسائل التى سيتم الحرص عليها هى ثوابت الدولة المصرية التى تقوم على الوسطية والتسامح واحترام الآخر وحب الوطن واحترام كل الأديان. 

وهنا لا بد أن نتوقف قليلًا، فما يشير إليه رئيس الوزراء مهم جدًا، فالأجيال الجديدة التى تستهدفها الكتاتيب ستتعلم احترام كل الأديان، ما يؤكد أهمية ما يحدث، فنحن بالفعل فى حاجة ماسة لهذه القيمة الإنسانية الراقية والمتحضرة، فكل العنف والدمار والدماء والخراب الذى عانينا منه خلال العقود الماضية نشأت من عدم احترام الأديان من قبل جماعات متطرفة، زرعت فى قلوب وعقول عناصرها أن الإسلام هو الدين الوحيد الحق، وأن أصحاب الديانات الأخرى جميعًا منحرفون، ومهمة المسلم هى أن يدخل هؤلاء إلى الإسلام، وإن رفضوا فلا بد من قتلهم وقتالهم. 

الحكومة لديها رؤية متكاملة، فقد ناقش رئيس الوزراء مع وزير الأوقاف كيفية تنفيذ هذه الرسائل داخل الكتاتيب منعًا لحدوث تأثير سلبى فى المستقبل، ولفت الانتباه إلى أن الكتاتيب يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا مثل المساجد والكنائس مع مراكز الشباب وقصور الثقافة وفصول رياض الأطفال والحضانات. 

إننا أمام رؤية واضحة إذن، سواءً فيما يتعلق بقصور وبيوت ومكتبات الثقافة أو ما يرتبط بالكتاتيب الجديدة، تعرف الحكومة جيدًا ما تريده وتخطط له، قد تنقصه فقط فكرة التسويق الجيد لأفكارها، لكن المشكلة هى فى استقبال الرأى العام لما تقوله الحكومة. 

لن أتحدث عن المتربصين، فهؤلاء نعرف جيدًا ماذا يريدون. 

ولكنى أتحدث عمن يريدون الخير لهذا الوطن، لكن تنقصهم المعلومات، وهو ما يجعلهم يتبنون آراءً معارضة وغضبًا فى الغالب ليس مبررًا على الإطلاق. 

وهؤلاء أعتقد أن الحكومة مطالبة بمزيد من التواصل معهم، فالجميع يهدف إلى بناء الدولة، ولا مانع أن يكون هناك حوار دائم ومستمر بين الجميع، حتى لا نجد أنفسنا أمام عركة تختلط فيها الحقائق بالأكاذيب.. والنوايا الحسنة بالأغراض الخبيثة.