الأحد 01 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

يزول الوزير.. ويبقى الكاتب

أوراق معركة «أهمية أن نتثقف يا ناس» بين يوسف إدريس وعبدالحميد رضوان

حرف

-  صرخة يوسف إدريس: الغوغائية «نتيجة لانعدام الثقافة» تسود إلى درجة تهدد فيها باكتساح وجودنا كله

- قال رضوان عن إدريس إنه كاتب مخدور ومفكر بلورى نفسه مريضة وقلمه مسعور

-  الوزير ليوسف إدريس: مصر لم تهن على أحد من أبنائها ومفكريها مثلما هانت عليك

-  عبدالحميد رضوان أثنى مثقفون كثيرون عليه بسبب ما قدمه للثقافة المصرية وهو ما لا ننكره عليه لكن مع الأيام تبدد ذكره

-  يوسف إدريس: كان من المفروض أن يحاسب هذا الوزير من مجلس الشعب أو مجلس الوزراء وأن يفصل من منصبه

صباح 9 يوليو 1984 كان القراء فى عموم مصر والدول العربية على موعد مع مقال جديد للكاتب الكبير يوسف إدريس فى زاويته الأسبوعية «من مفكرة د. يوسف إدريس» بجريدة الأهرام. 

لم يكن ما كتبه يوسف هذه المرة مقالًا من مقالاته النارية الصاخبة، ولكنه كان أقرب إلى صرخة صدرها بعنوان «أهمية أن نتثقف يا ناس». 

يعتبر كثيرون، وعلى رأسهم يوسف إدريس، أن هذا المقال ليس أشهر مقالاته فقط، ولكنه أشهر مقال فى الكتابة العربية فى تاريخها الحديث، ولم يكن ذلك بسبب محتواه فقط، ولكن لأنه كان سببًا لأن تقف الدولة الرسمية، ممثلة فى وزير الثقافة وقتها محمد عبدالحميد رضوان، فى مواجهة الكاتب أمام المحاكم. 

بعد ما يقرب من نحو شهرين وفى سبتمبر 1984 صدر فى القاهرة ليوسف كتاب يحمل نفس عنوان المقال «أهمية أن نتثقف يا ناس» برر فيه صاحبه اعتبار أن هذا المقال أشهر مقالات اللغة العربية على الإطلاق. 

يقول يوسف فى تقديمه كتابه: آثرت أن أسمى هذا الكتاب باسم أشهر مقالة كتبتها فى باب المفكرة فى الأهرام، تلك التى كُتب لها أن يرد عليها وزير الثقافة ورئيس المجلس الأعلى للثقافة ذلك الرد الذى هبّت الحركة الثقافية كلها وحتى القراء العاديون يرفضونه ويشجبونه، ويجعلون من مقالة وما دار بشأنها وحولها ربما أشهر مقالة فى تاريخ الكتابة العربية. 

ويعقب يوسف على ما ذهب إليه: الواقع أن ما حدث لم أكن أحلم به، ولم أكن أريده أصلًا، فالمقالة نفسها تستحق أو لا تستحق هذه الضجة الكبرى. 

لكن لماذا كتب يوسف مقالته؟ 

وهل اختلفت الأحوال التى دعته لأن يكتبها منذ أكثر من أربعين عامًا؟

أعتقد أن هذا هو سبب استدعائنا لهذه المقالة الآن.. فلا شىء نقوم به صدفة، ولا نبحث فى تاريخنا الثقافى لمُجرد التسلية وتزجية الوقت.. وأنه ما أشبه الليلة بالبارحة، فإننا نطرق أبواب هذا المقال وتوابعه مرة أخرى. 

 

يقول يوسف عن دوافعه لكتابة هذا المقال: رأيت أن الوجود المصرى يمر بأعنف أزمة وجود من غزو سليم الأول لمصر فى العصور القديمة، ذلك الغزو الذى كان بداية لعشرات ومئات السنين المتلاحقة من إضعاف، إثر إضعاف الوجود المصرى، حتى تحولت مصر من قاهرة للصليبيين والتتار إلى مجرد ضيعة تركية، شعبها امتص إلى آخر قطرة من دمه وقمحه وصناعته وتجارته، ومشايخها «مثقفو ذلك العصر وقياداته الفكرية» قد تحولوا إلى العقم الفكرى، وبدأت تنتشر بين الشعب الخزعبلات، وتؤدى إلى ردة فكرية إسلامية أبعدته تمامًا عن روح الإسلام، ومع اختلاف الزمن، واختلاف الغزو، فإن الحقبة السبعينية من هذا القرن قد أسقطتنا فى هوة من الصعب الآن أن نتخيل كنه أبعادها. 

 يوسف إدريس: هناك مخدرات فكرية وثقافية أو بالأصح تشاع فى الجو باسم الفكر والثقافة والسينما والتليفزيون والمسرح

لكن لماذا لم يدرك كثيرون ما وصلت مصر إليه؟ 

يقول يوسف: هناك مخدرات فكرية وثقافية، أو بالأصح تشاع فى الجو باسم الفكر والثقافة والسينما والتليفزيون والمسرح تغيب منا الأبصار وتكاد تعمى العيون، ونفس المخدرات أصبحت تشيع باسم الدين، والدين منها برىء، ولا يختلف الداعية للخزعبلات الدينية عن ممثل قطاع المسرح الخاص حين يخرج على النص، ويحيل المسرح المكان المقدس المقام لتقال فيه كلمة الحق، إلى مكان كالكباريه يخلخل القيم ويشكك فى الوجود، بل ويفكك عرى الشعب، بحيث يتحول الإنسان المصرى إلى جزء لا كل له، إلى فتات مجتمع، إلى كل بحماية أهله ووطنه له، بحيث تصبح مسألة ابتلاعه فى تطلعات طبقية، ومُغريات استهلاكية مسألة وقت محدود، تنتهى فيها مقاومته، ويضرب صفحًا عن قيمه، ويستسلم، ويبيع نفسه، سواء داخل مصر أو خارجها. 

الصحف الرسمية وأجهزة الإعلام تردد كلامًا أجوف حول الانتماء ومصريتنا التى لا بد أن يحميها الله وكأنهم ليسوا هم الذين يفتتون هذا الانتماء

ويواصل يوسف إدريس رصده للواقع الذى دفعه لكتابة مقالته. 

يقول عن ذلك: كل هذا يحدث بينما الصحف الرسمية وأجهزة الإعلام تردد كلامًا أجوف حول الانتماء، ومصريتنا التى لا بد أن يحميها الله، وكأنهم ليسوا هم الذين يفتتون هذا الانتماء، ويطمسون معالم المصرية الحقيقية لتغيب عن الشباب ويفقد الاتجاه والقدوة، ويئوب وعيه إلى ظلام، حتى إذا حاول الشاب أن يفلت بجلده ويولى وجهه الناحية الأخرى، ناحية الإسلام الحق وعبادة الرحمن، لم يجد إلا أناسًا آلوا على أنفسهم أن يمسخوا الإسلام ويحولوه إلى «آداب دخول المرحاض» بدلًا من الحديث عن رسالة الإسلام الكبرى فى إنهاض عزيمة المسلمين ودحر أعدائهم والجهاد فى سبيل حقوق أمم الإسلام وشعوبه. 

  المؤامرة على العقل المصرى والعربى ضاربة الأطناب فى كل بلد عربى على حدة

خلص يوسف إدريس من قراءته للواقع أن هناك مؤامرة. 

يقول إدريس: هذه المؤامرة متفق عليها أم غير متفق، ليس هذا هو المهم، المهم أن شيئًا خطيرًا جدًا يحدث للعقل المصرى والعربى بفعل فاعل، وتلك المؤامرة على العقل المصرى والعربى ضاربة الأطناب فى كل بلد عربى على حدة، آخذة هذا الشكل أو ذاك، بل آخذة أحيانًا ثوب ما يسمى بحكم الشريعة نفسه. 

ويحدد يوسف إدريس مهمته التى كانت وراء كتابته مقالته. 

يقول: أعتقد أن مهمة كل كاتب مخلص، حتى لو كان يدعى أنه لا يعمل بالسياسة أو يهتم بها أن يتصدى لهذه المؤامرة ولذلك الوضع، إنها لجريمة كبرى أن يترك كاتب شيئًا كهذا ويقول سأعكف على قلمى أكتب به رواية أو مسرحية، فالاحتياج أسرع من مفعول أى رواية أو مسرحية أو أغنية أو حتى قصيدة شعر. 

وينتقل يوسف من مهمته ككاتب إلى مهمة عموم القراء والرأى العام. 

يقول: إنها نار تحرقنا، وتجتاح وجودنا، وفى حاجة لأن نهب جميعًا، كتابًا وقُراء، لندفع ذلك الحريق، لننقذ أنفسنا وأولادنا وأهلنا، ونفعل هذا الآن وفورًا وليس غدًا، وكلى أمل من القارئ حين يقرأ أن يفكر بدوره ماذا يستطيع أن يفعل ويسهم به فى إطفاء الحريق أو الذود عن النفس والعرض، فالكارثة أن المؤامرة تتم فى جو من التجهيل والتدهور الثقافى والفكرى. 

ما رأيكم أن نقرأ الآن مقال يوسف إدريس كاملًا، دون أن نتدخل فى عرضه بقليل أو كثير، التدخل الوحيد الذى أطالبكم به هنا أن تتأملوا كل حرف كتبه، وتقارنوا بينه وبين ما نعانيه الآن على المستويين المصرى والعربى، ولكم بعد ذلك أن تحكموا... هل تغير شىء، أو أن ما كتبه يوسف إدريس منذ أربعين عامًا لا يزال صالحًا لتوصيف من نعانيه من داء. 

هذا هو المقال الذى أعتبره واحدًا من وثائق حياتنا الثقافية التى تديننا قبل أن تدين أى شىء من حولنا. 

الآن يتحدث يوسف. 

جاء علينا حينٌ من الدهر كانت كلمة مثقف فيه علامة أن المواطن هو فعلًا صاحب مقام رفيع، كان احترام الثقافة والمثقفين جزءًا لا يتجزأ من قيم شعبنا وتقاليده الراسخة، بحيث إن عامة الشعب حين كانت تريد أن ترفع من قيمة المتعلم أو المثقف تميزه بكلمة أفندى وتُسمى العامل الكفء المثقف أُسطى أو بمعنى حقيقى أستاذ.

وهذا الحين من الدهر كان مستمرًا طوال حياة الشعب المصرى حين كان المثقف فى العصور الوسطى هو الشيخ أو مولانا أو سيدنا، ومن نفس المشايخ برزت الفئة المثقفة الجديدة مع بداية مصر الحديثة فى عصر محمد على، ومن رفاعة رافع الطهطاوى إلى محمد عبده وخالد محمد خالد، تلك الكوكبة من العقول المضيئة التى ظل مجتمعنا ينظر إليها كما ينظر إلى مصادر الضوء تنير له وجوده وحياته ويرفعها إلى مستوى التبجيل العظيم والقيمة الخالدة.

ولم يكن حظ المثقفين من خريجى الجامعة المصرية بأقل، فقد كانوا علماء فى تخصصاتهم، هذا صحيح، ولكنهم كانوا أيضًا من كبار مثقفى عصرهم، والذين يدهشون كيف كان الجراح العظيم على باشا إبراهيم عضوًا مؤسسًا ومسئولًا عن البرامج فى المجلس الأعلى للإذاعة المصرية عند إنشائها ربما لا يعرفون شيئًا عن على إبراهيم «المثقف» الملم، العالم.

ولا أعتقد أن بلدًا من بلاد العالم جُبل شعبه على تقديس الثقافة والمثقفين مثل بلادنا، إن المكانة التى رفع إليها طه حسين والعقاد وأحمد حسن الزيات والمازنى ومحمود عزمى وسلامة موسى وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزى ولويس عوض وأحمد أمين وأحمد زكى وهيكل ومشرفة وزكى نجيب، القائمة الطويلة، المكانة التى رفعنا لها هؤلاء وغيرهم تثبت أننا بالسليقة شعب يقدس المعرفة والثقافة، شعب فى أساسه متحضر وعميق الصلة بالقيم الحضارية العليا.

بل إن الاحترام الذى يحظى به «حكماء زمانهم» من الفلاحين الأُميين والعمال وسكان النجوع والحارات، احترام لا يمكن للإنسان أن يخطئه إذا أُتيح له الاحتكاك الكافى بالحياة اليومية فى أقل مستوياتنا الاقتصادية والمعيشية.

دائمًا نقدر الذكاء والاطلاع وخصوبة التجربة، للمعروفين وغير المعروفين، حتى إن أمثالنا الشعبية معظمها قوانين حياة مصاغة بمنتهى الحكمة، وتكاد فى مجملها تشكل نظرية حياة كاملة مليئة بالحلول وساطعة المدلول.

ماذا حدث إذن فقلب أمورنا رأسًا على عقب، حتى أصبحت كلمة أفندى تقال للسخرية، وكلمة مثقف تذكر من باب التوبيخ و«التريقة»، وكلمة ثقافة يتحسس لدى ذكرها بعض المواطنين أنوفهم وكأنما هى شىء لا يُطاق؟

ماذا بالضبط حدث؟

ليس فقط للمواطنين وإنما حتى للقيادات الفكرية والفنية، وإذا كان برنامج «الجائزة الكبرى» قد كشف جهل بعض الممثلين، فلو أُجرى امتحان لمقدمى البرامج فى الإذاعة والتليفزيون ولكثير من أصدقائنا المعلقين فى الصحف والمجلات، وهذا فى حد ذاته وباء اجتاح صحفنا ومجلاتنا بحيث أصبحت جميعها تعتمد على الأعمدة الثابتة الممضية والأبواب، بحيث إنى عن عمد حاولت أن أعثر فى مجلة فنية مصورة تصدر عندنا عن موضوع صحفى واحد غير ممضى، فلم أجد، دليل أن المجلة كلها لا صحافة فيها وإنما هى مجموعة من المقالات تشكل رأيًا عامًا منخفض المستوى. 

لو أُجرى امتحان لهؤلاء القادة جميعهم لما اختلفت النتيجة كثيرًا عن نتيجة «الجائزة الكبرى»، وإذا كان هذا هو حال الأسماء الإعلامية المشهورة، فماذا يكون حال مستهلكى الصحافة والإذاعة والتليفزيون؟

كان التليفزيون عندنا يقدم منذ بضع سنوات برنامجًا ثقافيًا على هيئة امتحان فى المعلومات، وقد كنت عن عمد أُتابعه، وراعنى أن المشتركين فيه جميعًا معلوماتهم العامة تكاد تساوى صفرًا، ولا ينجحون إلا فى إجابة السؤال الخاص بالأمثلة الشعبية، ومعنى هذا أنهم لا يقرأون، وإنما يتلقون المعرفة سماعًا وربما من أمهاتهم وخالاتهم فقط.

كان كل شىء يسير على ما يُرام إلى أن قامت ثورة ١٩٥٢، وثورة ٥٢ أساسًا ثورة الطبقة المتوسطة الصغيرة التى لم تنل من مكاسب ثورة ١٩ شيئًا، وظل الوفد يقودها على أمل أن يصلح أحوالها، واكتشف الجناح العسكرى فى الحركة الوطنية «الضباط الأحرار» أن هذه الأحوال لن تنصلح إلا بإزالة الملك والإقطاع وكبار الرأسمالية.

وكل ثورات العالم تنشأ هكذا بهدف إزالة طبقات وإحلال طبقات محلها، ولكن لأن معظم الثورات يقودها سياسيون مثقفون، فإنهم يفرقون بين إزاحة الطبقة واستكمال التراث الثقافى للأمة.

فالثقافة التى أفرزها المجتمع المصرى خلال النصف الأول من قرننا الحالى «١٩٠٠ - ١٩٥٠» هى ثقافة الشعب المصرى كله وليست ثقافة الطبقة الإقطاعية أو الرأسمالية فقط، فمعظم المثقفين والكتاب الذين أفرزوا هذه الثقافة كانوا يأتون أصلًا من صميم الطبقات الشعبية، كانوا أبناء عمال وفلاحين، حتى إن أحدًا منهم لم يكن فى أصله ابن عمدة.

والتمسك بتراث الأمة الروحى والثقافى جزء لا يتجزأ من مهمة أى ثورة وطنية، لأنه دون هذا التراث قد تنتعش المصالح الاقتصادية للعمال والفلاحين والطبقات الشعبية الثائرة، ولكن العمود الفقرى الثقافى الذى يحمل تراث الأمة الروحى إذا لم يحافظ عليه يتحلل وتنشأ طبقات عريضة جديدة دون محتوى روحى أو ثقافى أو حضارى مثلما حدث عندنا.

فقد دفعت ثورة يوليو إلى الساحة الوجودية جماهير غفيرة من الطبقة المتوسطة الصغيرة التى كانت تحيا على هامش الحياة، وفرت لها التعليم والماء والنور والمستشفيات وفتحت لها أوسع المجالات للكسب، ولكنها أبدًا لم توفر لها ما هو فى رأيى أهم من هذا كله، وهو الإشعاع الثقافى الذى يحيلها إلى كائنات متحضرة منظمة، ويجعلها كلما ارتقت اقتصاديًا ارتقت سلوكيًا وتعامليًا وإنسانيًا وفكريًا، فالثقافة ليست مجرد تحصيل معلومات من كتب الثقافة بل هى أساسًا جزء مكمل بالضرورة للتعليم، فتعليم بلا ثقافة لا يتعدى خلق كائنات ميكانيكية لا تجيد إلا صنعة أو حرفة يد.

بل حتى هذه الحرف دون عقل يحتوى الحد الأدنى من الثقافة اللازمة للمواطن، العامل أو الفلاح يصبح عاملًا معوقًا فى نفس صميم حرفته أو صنعته، فإذا كان التعليم هو التدريب على المهارات، سواء كانت يدوية أم عقلية. 

فالثقافة هى تدريب العقل نفسه على السيطرة على تلك المهارات، تدريبه على الاختيارات سواء ما يمس منها صميم حياته الشخصية مثل اختيار زوجته ونوع حياته وتسليته وكيفية قضاء إجازته واختيار نوع التربية والتعليم والتوجيه لأولاده ومعاملة أهله وأصدقائه ورؤسائه وجيرانه وبقية المواطنين. 

الثقافة ليست ترفًا عقليًا ولكنها ضرورة بشرية، تمامًا مثل الخبز والحرية، فدون ثقافة يستحيل الإنسان إلى حيوان آكل شارب نائم متناسل، إذ الذى يصنع الإنسان والذى يفرق بين الإنسان العظيم والتافه هو الكم المضاف إلى عقله، ليس فقط من معلومات وإنما من قدرة على ترتيب هذه المعلومات، بحيث يستطيع الإنسان فى النهاية أن يعتنق فلسفة خاصة به يزاول بها حياته ووجوده، ويسعد بها نفسه ومواطنيه.

بل إنه بانعدام المحصول الثقافى للإنسان تصبح أى دابة أحسن منه، فهو دونًا عنها مزود بعقل لا بد أن يعمل، وإذا لم يعمل فى اتجاه صالح فلا بد أن يعمل فى اتجاه خاطئ وأحيانًا إجرامى.

أطلقت ثورة يوليو، إذن، العنان للطبقة المتوسطة تتناسل بلا حدود وتسكن المدن والشوارع والأزقة والمقابر كما يحلو لها وتهاجر كما تشاء، وتعود بعربات تتكدس فى الشوارع كما تريد وحتى هذا كله لم يكن كافيًا، فبعصر الانفتاح والانفلات حلت جميع الصواميل الباقية، استيراد كما تشاء، سوق سوداء، رشاوى، اختلاسات، ما دمت شاطرًا ولا تستطيع أن تقع تحت طائلة القانون فافعل ما بدا لك، وحتى لو وقعت تحت طائلة القانون، فتح مخك يا أخى، تفوت.

والطبقة المتوسطة بطبيعة تشكيلها وتكوينها طبقة متمردة تخاف ولا تختشى، هوايتها الخروج على القانون، والتنافس الرهيب الذى يسود بينها، بطبيعة تكوينها كما قلنا، يجعل الأنانية عندها هى القاعدة والانفلات هو القانون، ولهذا فالدول حتى الرأسمالية منها تسن القوانين الباترة لتنظيم حركة هذه الطبقة ومنع بعضها من الطغيان على بعضها الآخر، وفى نفس الوقت تحاول الدول باستمرار أن ترفع المستوى الثقافى لتلك الطبقة، إذ إن رفع المستوى الثقافى يحد كثيرًا جدًا من نهم تلك الطبقة وجشعها وجبروت كثير من أفرادها.

وقد تنبهت ثورة يوليو بعد سنوات من قيامها إلى أهمية الثقافة فى حياة الأمة الجديدة، وبدأت فى تكوين شركات قطاع عام للسينما وهيئات للمسرح والكتاب وأكاديمية للفنون. 

وما كادت تلك المؤسسات تقف على أقدامها حتى تكفلت الهزيمة العسكرية عام ٦٧ وما تلاها من أزمات بإغلاق أبوابها أو كادت. 

وهكذا بقيت روح هذا الشعب الثقافية وديعة غير محافظ عليها كلية فى أيدى القطاع الخاص، الذى أحال المسرح إلى كباريه، وأحال مسلسلات التليفزيون إلى وسيلة لإنقاص وزن العقول والاستخفاف بها، ومات الكتاب وماتت المجلات الثقافية والعلمية، وتحولت الجامعات من دور للثقافة العليا إلى مدارس متوسطة يتخرج فيها أنصاف حرفيين بدرجة بكالوريوس وليسانس، وتحول جنون التناسل إلى مواسير هائلة الضخامة تصب على البنية الأساسية الضعيفة من البداية لمجتمعنا كميات هائلة من البشر تولد ولا بد أن تتعلم ولا بد ومن المحتم أن تتخرج فى الجامعة، وما دام لا قانون هناك ولا قاعدة، فليصبح الاستثناء هو القاعدة، وعشرات الاستثناءات تسمح لعشرات الفئات بصب بناتها وأولادها ليحشروا ضمن زمرة الجامعيين بلا أى مؤهل أو ذكاء.

وكأنما أصبحت الحكومة تنافق الشعب، كما تعود الشعب أن ينافق الحكومة ويتملقها، ونفاق بنفاق أصبحت حياتنا الآن على ما هى عليه: بشر بشر بشر، كميات هائلة من البشر، ولا نظام ولا احترام لأى شىء، الأرض الزراعية تجرف، أرض الحكومة ينهبونها، البنوك الأجنبية فاتحة أفواهها تبتلع مال المصريين القليل وتضخه إلى بنوك أوروبا وأمريكا.

فى مثل هذا المجتمع، الذى لم تعد تنطبق عليه قوانين المجتمعات، إذ القوانين فى المجتمعات موضوعة لتطبق على الأفراد ونحن لم نعد أفرادًا، نحن الآن «كميات» من البشر، لا بد أن نخترع لها قوانين «كم» لتحفظ النظام والنظافة والوجود بين «الكميات»، وبما أن الثقافة دائمًا مسألة فردية، مسألة اجتهاد من الفرد فى التحصيل يقابله اجتهاد من الدولة لتقديم السلع الثقافية، وبما أن الدولة مشغولة تمامًا «بطعام» تلك الكميات من البشر، مجرد ملء حلوقهم وكسائهم، ولا وقت لديها، ولا حتى إمكانات لإطعام عقولهم، فلنترك المسألة نهائيًا للصدف المحضة تقرر كم ونوع الثقافة التى يتغذى بها شعبنا.

ولكن السؤال هو: هل فعلًا ليست لدى حكوماتنا إمكانات ثقافية متاحة لترفع بها المستوى الثقافى لشعبنا؟

إن لدينا بالتأكيد إمكانات، ولكنها مهدرة تمامًا.. والمثل قريب وساخن. 

فالمتتبع للانتخابات الأخيرة، وللتهم المتبادلة بين حزب الحكومة وأحزاب المعارضة، يجد أن الفاعل الحقيقى فى كل ما حدث كان هو الجهل والتخلف وانحطاط المستوى الثقافى، يقابله فى نفس الوقت تخلف أجهزتنا الإعلامية، على رأسها التليفزيون والإذاعة والصحافة عن التصدى للمعركة الانتخابية تصديًا جادًا حقيقيًا، بدل هذه المسلسلات الهابطة الواردة لنا من عجمان والسعودية واليونان، كان مفروضًا أن يتحول التليفزيون بالذات إلى مدرسة للديمقراطية تعلم جماهير الشعب وشبابه التى حرمت من الانتخابات الحرة ردحًا طويلًا من الزمن تعلمهم هذا الشىء الخطير تمامًا، حق الانتخاب وضرورته وأهميته، بدل أن تخاف من هذا الحزب أو ذاك حتى لا ينال بعض الأصوات فى الانتخاب نتيجة لتأثر جمهور المشاهدين بمثل هذا الحزب أو ذاك.

كان من الممكن، منتهزين فرصة الانتخابات، أن يخرج الشعب لا بمجلس جديد فقط، وإنما يتخرج شعبنا ديمقراطيًا ويكتسب باعًا طويلًا يستطيع بواسطته أن يساند كل ما يتمخض عنه المجلس الجديد من تشريعات ومناقشات، وإذا كانت بلوانا الرئيسية فى سلبية المواطن، فشكرًا لأجهزة إعلامه، لأنها تحرضه على السلبية تحريضًا وتكاد تقول له خلى عنك أنت، نحن نفكر لك، وننتخب لك ونختار، وإذا أردت الانبساط، فنحن أيضًا الذين سنبسطك.

ولكنها سياسة نفاق الشعب وتحويل الشعب إلى منافقين سلبيين.

نعم لدينا إمكانات.. مسارحنا بعد أن كانت الرئة الروحية للأمة، تسلط عليها القطاع الخاص بالرشوة أحيانًا وبالحرق وبالغلق، ليتاح لأربعة أو خمسة أفراد من ملاك المسرح الخاص أن يصبحوا مليونيرات على حساب كل قيمة بشرية وإنسانية.

وبنفس الإمكانات التى «جملنا» بها القلعة، كان ممكنًا أن ننقذ بيوتنا الروحية المسرحية بل حتى نبنيها من جديد، وببضعة آلاف من الجنيهات كان ممكنًا أن ننقذ ممثلينا وجمهورنا ومخرجينا وكتابنا من التلطع فى استديوهات الخليج ونريح بها شعبًا قويًا لا يأكل الدود روحه فى تلك المسلسلات الساقطة.

نعم لدينا إمكانات.. فمطابع الهيئة العامة للكتاب أكبر مطابع فى مصر، والموظفون والعمال فى تلك الهيئة يعدون بالآلاف، ومع ذلك فإن كتابنا الشبان والكبار لا يجدون مكانًا للنشر هنا، وتفتح لهم بيروت وبغداد ودمشق أذرعها.

نعم لدينا إمكانات.. هذا المسمى بالمجلس الأعلى للثقافة الذى لا يفعل شيئًا بالمرة إلا أنه يحجب الجوائز عن مستحقيها، أو أنه يجتمع فى العام مرة ليحلل بدل حضور الجلسات، هذا المجلس الذى اختيرت أغلبيته من الموظفين، والمتعلمين الذين هم بلا لون أو طعم أو رائحة أو حتى تاريخ، وكأن كل أجهزتنا الثقافية والعلمية قد عقمت تعقيمًا شديدًا حتى لا يتسرب لها نبض أو رأى أو وجهة نظر جريئة تقتحم العنكبوت المخيم على تلك الأجهزة، وتقهر البيروقراطية وتسمح للنور والهواء أن يدخل معاقل الغباء والتخلف تلك.

نعم لدينا إمكانات.. إن التليفزيون وحده يكفى فى عام واحد أن يرفع مستوى شعبنا الفكرى والروحى والثقافى بما يعادل عشر سنوات من التربية والتعليم، ولكنه حتى وهو ينهى الناس عن الضجة أو عن إلقاء القاذورات، يتصور أن الناس أنعم من أن يقول لهم: لا.. لا بد أن يقولها راقصة ضاحكة مشخلعة حتى يبتلع المشاهدون كلمة «لا» المرة.

نعم لدينا إمكانات.. وشكوانا المستمرة من السلبية والفوضى وانعدام الضمير والقيم وتفشى الفساد والمحسوبية، شكوانا من الازدحام الحيوانى والهرجلة والارتجال فى المشروعات والحلول، شكوانا من الضعف القيمى الذى ساد أفرادنا ومؤسساتنا.

تقريبًا كل شكاوانا الخاصة بالإنسان سببها أننا تحولنا إلى مجتمع جاهل؛ حتى وإن كان بعضه متعلمًا، مجتمع غير واعٍ أو مدرك، أى غير مثقف، مجتمع همه على بطنه وأقصى متعة للمليونير فيه أن يأكل كبابًا ويشرب ويسكى، مجتمع ليست له صفوة قائدة مثقفة محترمة تتمسك بالقيم وتدافع عنها وتدعو إليها، مجتمع نجومه ونجماته أشد ظلامًا وخمولًا من السماء الملبدة بالغيوم.

ولدينا إمكانات النهضة.. ولكن المشكلة هل لدينا الهمة؟ 

أعرفنا لماذا نطالب ونلحّ بالتغيير؟!

من أجل أن يتولى أمورنا أناس ذوو همة.

إننا ننحدر ثقافيًا، وبالتالى سلوكيًا بدرجة خطيرة، والغوغائية- نتيجة لانعدام الثقافة- تسود إلى درجة تهدد فيها باكتساح وجودنا كله، ومع وجود هذه الكميات المخيفة من البشر فى هذا الحيز الضيق للوجود، فإننا ذاهبون إلى كارثة محققة- لا قدر الله - إذا لم نول رفع المستوى الفكرى والثقافى للشعب الأهمية القصوى الجدير بها.

فالثقافة أخطر من أن تكون من كماليات الحياة.

فالحياة نفسها هى الوجود المثقف للكائنات.

ملاحظة عابرة على هامش المقال. 

عندما نشر يوسف إدريس مقاله فى جريدة الأهرام فى ٩ يوليو ١٩٨٤ كتب نصًا: من نفس المشايخ برزت الفئة المثقفة الجديدة مع بداية مصر الحديثة فى عصر محمد على، ومن رفاعة رافع الطهطاوى إلى محمد عبده وخالد محمد خالد والشيخ متولى الشعراوى. 

وعندما أعاد نشر مقاله فى كتاب يحمل نفس اسم المقال فى سبتمبر ١٩٨٤ حذف اسم الشيخ متولى الشعراوى، واكتفى فقط من جملته بقوله: ومن رفاعة رافع الطهطاوى إلى محمد عبده وخالد محمد خالد. 

لم يتحدث يوسف إدريس عن حذفه لاسم الشيخ الشعراوى من القائمة أو يبرر لذلك، وأعتقد أن أحدًا لم يلحظ ذلك من قبل، ويظل سر ذلك عند يوسف وحده، وإن كانت المعارك التى جمعت بينهما يمكنها أن تفسر لنا هذا التصرف. 

وقد يكون الفارق بين موضعية المقال فى صحيفة وموضوعيته فى كتاب، هو السبب فيما فعله يوسف، فالمقال فى صحيفة لن يعود إليه أحد؛ اللهم إلا لأسباب بحثية، أو من باب التطفل على التراث الصحفى، أما المقال فى الكتاب فيظل موجودًا ومتاحًا ما بقى الكتاب، وهو بالفعل باقٍ، ولا يزال هناك من يبحث عنه ويطالعه. 

ما الذى توقعه يوسف إدريس بعد نشر مقاله؟ 

توقع الكاتب الكبير أن يكون المقال بداية لحوار مفتوح بين المثقفين المصريين وبين مؤسسات الدولة الثقافية، حوار يكون هدفه هو البحث عن حل، عن طريق للخروج من المأزق الكبير الذى رصده، وأعتقد أننا ما زلنا نعانى تبعاته وآثاره حتى الآن. 

حدث حوار بالفعل، لكنه كان فى اتجاه آخر تمامًا. 

بعد أيام، وعلى صفحات جريدة الأهرام، نشر وزير الثقافة وقتها محمد عبدالحميد رضوان مقالًا جعل عنوانه هتافًا صاخبًا وهو «مصريتنا حماها الله». 

وقبل أن تربط عنوان المقال بالأغنية الشهيرة التى غناها محمد ثروت من ألحان الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب «مصريتنا وطنيتنا حماها الله»، سأقول لك إن الوزير كان سباقًا، فقد كتب مقاله فى يوليو ١٩٨٠، بينما قدم ثروت أغنيته فى العام ١٩٩١. 

كان يمكن أن يكون رد الوزير هادئًا عاقلًا منطقيًا، لكنه اختار الطريق الخطأ، فقد هاجم يوسف إدريس هجومًا لم يسبقه إليه أحد. 

ترك عبدالحميد رضوان كل ما كتبه يوسف فى توصيف حالتنا الثقافية، واستهدفه شخصيًا. 

قال رضوان عن إدريس إنه كاتب مخدور ومفكر بلورى، نفسه مريضة وقلمه مسعور، ثم فى وصلة تجريد من الوطنية يقول وزير الثقافة: حاشا لله أن يكون هذا الإدريسى من أبنائك وأربابك يا كنانة الله، أو أن يكون هذا المخلوق قد رضع لبنك الحلال وتربى على ثرى أرضك الطاهرة، أستغفر الله، بل أعوذ به من شر ما خلق ومن شر النفاثات فى العقد، وأذهب إلى أبعد من ذلك فأهمس فى أذن الكاتب الألمعى والمفكر البلورى بأن مصر لم تهن على أحد من أبنائها ومفكريها مثلما هانت عليك. 

أصيب يوسف إدريس بصدمة مما كتبه الوزير، فلم يفكر فى الرد عليه، اكتفى بأن ذهب إلى مكتب النائب العام ورفع عليه دعوى اتهمه فيها بالسب والقذف. 

تصدى كبار الكتاب والمثقفين للرد على وزير الثقافة، ولك أن تتخيل أن أسماء مثل نجيب محفوظ وسهير إسكندر وسكينة فؤاد، وغيرهم كثيرون تصدوا لما قاله الوزير وانتصروا ليوسف إدريس. 

لكن فى أرشيف هذه القضية توقفت عند ما كتبه فرج فودة، الذى كان أكثر شجاعة وجرأة وصراحة. 

تحت عنوان «وزير الثقافة ويوسف إدريس»، كتب فرج فى جريدة الأحرار فى ١٦ يوليو ١٩٨٤: شعرت بالأسى والغضب وأنا أقرأ مقالًا لوزير الثقافة فى جريدة الأهرام، انهال فيه بالهجوم على الدكتور يوسف إدريس مستخدمًا عبارات لم نعهدها من قبل فى بيانات الوزراء أو ردودهم. 

ويوضح فرج أسباب أساه، فيقول: أما الشعور بالأسى فمبعثه سابق الإعجاب بكثير من أعمال الوزير وتوجيهاته بشأن حماية الآثار المصرية وتجديدها، وأما الغضب فمبعثه ما آلت إليه تقاليد العمل الوزارى على يد السيد الوزير الذى استخلص من قواميس اللغة عبارات شديدة الجدة والعنف فى آن واحد من نمط وصف الدكتور يوسف إدريس بأنه الكاتب المخدور، غير مبالٍ بأن يرد الدكتور يوسف عليه واصفًا إياه بعبارات على نفس الدرجة من العنف، وتكون النتيجة فقدان المقعد الوزارى هيبته، وهو أمر كان يجب أن يضعه السيد الوزير فى حسبانه قبل أن يتطوع باستعراض بلاغياته. 

وينتقل فرج إلى يوسف، فيقول إنه لم يلتق به فى حياته، ويصفه بقوله: هو واحد من قمم الحياة الأدبية فى مصر، بل هو أحد القمم الثلاثة الكبار فى حياتنا الأدبية، سواء اتفقنا معه فى آرائه أو اختلفنا، وهو أمر له علاقة بآراء الدكتور السياسية التى قد يختلف معها الكثيرون، والتى لا تؤثر فى كثير أو قليل على مكانته الثقافية، لأنها تعكس فى مجملها طبيعة الفنان الانفعالية، وليس مطلوبًا من الدكتور يوسف إدريس أن يكون سياسيًا قديرًا، حسبه وحسبنا نحن أنه فنان قدير وعظيم، وأنه واحد من سفراء مصر العظام إلى الناطقين بالعربية، أدباء وفنانين ومثقفين، الذين يعرفون الدكتور يوسف نسيجًا وحده فى ذلك، أكثر بكثير مما نقدره وبين كل عشرة من هؤلاء يصعب أن تجد واحدًا لا يعرف الدكتور يوسف إدريس. 

ويعيب فرج فودة أن الدكتور يوسف إدريس لم يحصل على جائزة الدولة التقديرية فى مصر بعد، وليس فى هذا انتقاص من شأنه، ويقول: أنا لا أشك فى أن مثقفًا واحدًا فى مصر لا يرى أن مكانة الدكتور يوسف الأدبية أكبر بكثير من مكانة الكثيرين ممن حصلوا عليها، بل إن فى ذلك وحده دلالة على أن الثقافة فى وادٍ وأجهزة الثقافة الرسمية فى وادٍ آخر، وليس الدكتور يوسف نسيجًا وحده فى ذلك، بل هناك الكثيرون الذين أذكر منهم على سبيل المثال الدكتور جمال حمدان صاحب السفر العظيم المسمى «شخصية مصر»، والذى أشك فى أن جيلنا سوف يعاصر عملًا ثقافيًا على نفس مستواه، والذى تصر جوائز الدولة التقديرية على تجاهله، مؤكدة معنى من اثنين، إما أنها جوائز مخدورة، أو أننا مثقفون مخدورون. 

عبدالحميد رضوان

ويعود فرج إلى وزير الثقافة مرة أخرى- ولاحظوا معى أنه لم يذكر اسمه فى مقاله- فيقول: أفهم أن يتطوع وزير الثقافة بالدفاع عن الدكتور يوسف إذا هاجمه أحد بهذا الأسلوب، لكننى لا أفهم أن يكون وزير الثقافة نفسه هو كاتب المقال، ولا أفهم أن يتطوع السيد الوزير بإدانة الدكتور يوسف تطبيقًا لقانون العيب السيئ السمعة، دون أن ينبهه أحد إلى أن هناك فرقًا كبيرًا بين أسلوب المعارك الانتخابية فى دوائر مجلس الشعب، وأسلوب المعارك الفكرية فى خلافات الرأى مع كبار الكتاب. 

تصادف أن فرج فودة عندما كان يقرأ مقال وزير الثفافة أنه كان يكتب الجزء الخاص بالثقافة فى برنامج حزب المستقبل، الذى كان وقتها تحت التأسيس، وكانت مقدمته تقول: إن عظمة الإنسان المصرى وأصالته تتجلى فى قدرته على العطاء الثقافى والفنى المؤثر فى المنطقة المحيطة به أن الموارد المالية تستطيع أن تقيم عمرانًا، لكنها تعجز عن مجاراة الأصالة والعراقة فى عطائها المتميز فى الفكرة والكلمة والنغم، وفى أحلك ظروف مصر وفى أشد أيامها معاناة لم يتوقف الإنسان المصرى المثقف والفنان عن العطاء والريادة. 

ويختم فودة مقاله بقوله: وأشهد أن أعمال يوسف إدريس العظيمة مثل أرخص ليالى والفرافير والحرام كانت جزءًا من دوافعنا الوجدانية ونحن نكتب هذه العبارات.

وعلى صفحات جريدة الأحرار، أيضًا، كتبت الدكتورة سهير إسكندر فى ٢٦ يوليو ١٩٨٤ عن أصحاب المقام الرفيع، معلنة عن أن وزير الثقافة ارتكب خطأ جسيمًا فى حق الأدب والأدباء والثقافة والمثقفين والمهتمين بقضايا الرأى العام والفكر المستنير بشكل عام؛ بهجومه الممعن فى الإساءة فى الرد على مقال الدكتور يوسف إدريس. 

تشتبك سهير مع رضوان مباشرة، تقول بوضوح: يقول السيد وزير الثقافة فى مواجهة يوسف إدريس «أستغفر الله بل أعوذ به من شر ما خلق»، وأنا أقولها معه «قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات فى العقد، ومن شر حاسد إذا حسد»، أردد هذه الآية الحبيبة كثيرًا ومن كل قلبى كلما خشيت أن يقتل القبح الروحى الجمال، كلما خفت أن يستبد البطش بالحق، كلما أسفر العطاء عن جحود. 

وفى ٢٨ أغسطس ١٩٨٤ يكتب حسام عيسى على صفحات جريدة الأهالى «حول أزمة الثقافة فى مصر»، وهو الذى كان قد عاد إلى مصر بعد سنوات من العمل خارجها، ولذلك يبدأ مقاله بقوله: ليغفر لى القارئ جهلى بقواعد الحوار الفكرى والسياسى فى مصر اليوم، فلعل غيبتى الطويلة عن أرض الوطن قد أنستنى، أو لعله التغيير الكبير الذى شهده مجتمعنا فى السنوات العشر الماضية قد أصاب فيما أصاب ما كان قد استقر عليه الحال فى هذا المجال، أقول ذلك بمناسبة مقال قرأته فى صحيفة الأهرام تحت عنوان «مصريتنا حماها الله» لوزير الثقافة يرد بها على مقال سابق للكاتب الكبير يوسف إدريس كان قد نشر بالأهرام نفسها تحت عنوان «أهمية أن نتثقف يا ناس». 

ويضيف عيسى: هالنى فى مقال السيد وزير الثقافة ليس فقط نبرته الحادة وغضبه المبالغ فيه، ولكن أولًا وقبل كل شىء خروجه الصارخ على كل قواعد الحوار الفكرى والسياسى المتعارف عليها، صحيح أنه من حق أى وزير، كما أنه من حق أى مواطن أن يختلف مع يوسف إدريس بما له صلاحيات فكرية، وحتى لو لم يكن له ما ليوسف إدريس من دور فى حياتنا الثقافية. 

ولكن ليس من حق أى مواطن ولو كان هذا المواطن وزيرًا للثقافة فى معرض خلافه مع يوسف إدريس أن يصفه حينًا بالكاتب المخدور، وحينًا آخر بصاحب القلم المسعور، أو صاحب النفس المريضة، أو أن يمن عليه بالديمقراطية التى سمحت له بالكتابة ونشر فكره، أو لغوه على حد تعبير السيد الوزير، أو أن يهدد فى نهاية المطاف بتطبيق قانون العيب عليه، باستخدام تعبير السيد الوزير. 

ويؤكد حسام ما يذهب إليه، فيقول: أقول إنه ليس من حق أى مواطن أن يستخدم مثل هذه العبارات فى أى حوار ثقافى أو سياسى، ليس فقط لأنها تضعف حجة صاحبها إن كانت لديه حجة، ولكن لأنها نقيض الحوار، فهى تلغيه ابتداء وتحيله إلى لغو وهراء. 

وفى ١ أغسطس ١٩٨٤ يكتب الفيلسوف الكبير فؤاد زكريا فى جريدة الأهالى معلقًا على الجدل بين الأديب والوزير. 

بدأ بقوله: إذا كان يوسف إدريس قد أخطأ فى شىء، فى تلك المعركة التى نشبت بينه وبين وزير الثقافة على صفحات «الأهرام»، فهو أنه رفع الأمر إلى القضاء وشكا الوزير والصحافة بتهمة القذف العلنى فى حقه، ذلك لأن المقال الذى رد به الوزير على يوسف إدريس ليس من ذلك النوع الذى يرفع إلى القضاء، وإنما هو مقال يرد على نفسه بنفسه، ويحمل فى طياته جميع عناصر إدانته، وأفضل ما كان ينبغى على يوسف إدريس أن يفعله هو أن يترك المقال لحكم القراء، ويستمتع برؤية ردود الأفعال السلبية التى يثيرها فى نفس كل إنسان يفهم معنى الثقافة ويحترمها. 

يقترب فؤاد زكريا أكثر من مقال عبدالحميد رضوان. 

يقول عنه: إن مقال الوزير ينطوى على مجموعة من المعانى الخطيرة التى لا ينبغى أن تمر دون مناقشة، ودون احتجاج، لا سيما أن الوزير قد اختار أن يدخل بنفسه طرفًا فى معركة خاصة بالثقافة، ومن ثم فإن عليه أن يتحمل مسئولية اختياره، وقد ترددت بضعة أيام قبل أن أكتب هذه الكلمة انتظارًا لأنباء التشكيل الوزارى الجديد، فلو كان وزير الثقافة فد خرج لقيل إن كلمة كهذه التى أكتبها، إنما هى من قبيل ممارسة الشجاعة على من فقدوا سلطانهم، أما وقد عاد الوزير إلى منصبه، فقد أصبح فى استطاعتى أن أقول كلمتى وأنا آمن من سوء التأويل. 

ما يصدم القارئ فى مقال الوزير- كما يرى زكريا- هو لهجة السباب الحاد التى امتلأ بها، وإنى لأشهد أن وزير الثقافة كان فى هذه الناحية مجددًا، فعهدنا بالوزراء أنهم يزنون كل كلمة ينطقون بها، وينظرون إلى منصبهم الخطير على أنه قدوة ونموذج يحتذى به المواطنون، ومن ثم كان من المحتم أن تتسم لهجتهم بالوقار والاتزان وانتقاء أرفع الألفاظ وأكثرها تهذيبًا. 

ويقول زكريا: عهدنا بالوزراء أنهم لا يخوضون المعارك الصحفية إلا على شكل بيان موجز إذا ظهر خبر أو مقال يمسهم مساسًا مباشرًا، وهم عادة يعهدون إلى أحد مرءوسيهم بكتابة هذا البيان، والتوقيع عليه، ويوصونهم بالابتعاد عن التشنج والانفعال حتى لا يمس البيان وقار الوزارة، ومن جهة أخرى فعهدنا بوزراء الثقافة بالذات أن يكونوا على وعى بالارتباط الوثيق بين الثقافة وبين ضبط النفس والاتزان والتماسك واستخدام اللغة الرفيعة. 

وبالنسبة لفؤاد زكريا فإن وزير الثقافة استن صفة جديدة، فخاض المعركة ببيان يحمل اسمه، ولا بد أن المعانى التى يفهم بها أمثالنا كلمة الثقافة قد طرأ عليها تغير لم نكن ندرى عنه شيئًا، بحيث أصبح أكبر مسئول عن الثقافة فى البلد يستخدم فى حواره ألفاظًا مثل: هذا المخدور – هذا المخلوق - هذا الإدريس– هذا المجون الفكرى– الغرور القاتل– ينهش فى سعار مجنون– نفسه المريضة– قلمه المسعور– صاحب الأذى– اللى اختشوا ماتوا» 

ويسأل فؤاد زكريا: أهى ثقافة المسلسلات التليفزيونية الرخيصة، التى وصل طغيانها إلى حد أن تؤثر حتى على لهجة بعض الوزراء، أم هى ثقافة الانفتاح بقاموسها الجديد وقيمها المقلوبة وانتهاكها لكل الأعراف والمقدسات؟ 

ويجيب زكريا: لست أدرى، ولكن ما أجزم به هو أننا هنا أمام تجديد ضخم فى ميدان الثقافة، وعلى أمثالنا من أصحاب الأفكار العتيقة عن الثقافة التى يحرسها رضوان. 

ويختم زكريا تعليقه المباشر على مقال وزير الثقافة بقوله: الشىء الوحيد الذى أستطيع أن أؤكده من وجهة نظرى العتيقة، هى أن لغة الوزير نفسها هى أفضل دليل على صحة ما قاله يوسف إدريس عن ثقافة مصر الحالية، بل إنها دليل أقوى من كل الحجج والشواهد التى قدمها يوسف إدريس نفسه. 

ويدخل أديبنا الكبير نجيب محفوظ على خط الأزمة، فيكتب محتجًا على ما جرى، ومدافعًا عن يوسف إدريس فى مواجهة الوزير، معتبرًا أن ما كتبه يوسف صحيح، ولا يشكل جرمًا فى توضيح الانهيار الكبير الذى أصاب المسرح وهيئة الكتاب والمجلس الأعلى للثقافة. 

لم يستسلم وزير الثقافة محمد عبدالحميد رضوان لحملات ومقالات الهجوم عليه، بل قرر أن يتحدث. 

فى ١١ أغسطس ١٩٨٤ تحدث فى حوار مطول نشرته جريدة الأخبار وأجرته سناء السعيد، وكان عنوان الحوار: من حقى كمواطن أن أنتقد يوسف إدريس وأقول له قف إذا أخطأ. 

الحوار فى حد ذاته وثيقة صحفية وثقافية مهمة، من حقنا أن نطلع عليها كاملًا وقد دار على النحو التالى: 

سناء: انشغل الرأى العام مؤخرًا بمعركة جدلية بينكم وبين الدكتور يوسف إدريس كانت محصلتها اتهامًا موجهًا مفاده بأنكم كسلطة حكومية مارستم الاعتداء على السلطة الرابعة من خلال ما وجهتموه للدكتور يوسف إدريس؟ 

رضوان: بداية أقول أنا لم أرد كسلطة فقط، ولكننى تناولت فى ردى أساسًا الكلام الذى ورد فى المقال «أهمية أن نتثقف يا ناس» للدكتور يوسف إدريس عن مصر والمجتمع المصرى بأكمله، ولم يكن فى ردى هذا مساس بشخص يوسف إدريس بقدر ما كان موجهًا إلى الأسلوب الذى تناول به نقد وضعية الثقافة فى مصر، ونقد المجتمع المصرى بصورة أصابتنى بحالة إحباط عند قراءتى للمقال، أحسست بأن المجتمع المصرى فعلًا يضرب فى صميمه، لا قيمًا ولا قيمة ولا حدودًا، فمقالى لم يستهدف شخص يوسف إدريس وإنما استهدف أسلوبه. 

سناء: ولكنكم فى ردكم عليه جردتموه من مصريته، والتساؤل: هل نصبتم من أنفسكم المدافع الأول والأوحد عن مصر؟ 

رضوان: أنا لم أنصب نفسى كمدافع أول وأوحد عن المجتمع المصرى بأكمله، ولكننى أحد أفراده، ومن حقى أن أتناول بالرد والتفنيد أسلوب أى إنسان يتعرض للمجتمع المصرى، فأنا جزء من هذا المجتمع وإليه أنتمى، وبحكم موقعى كفرد من حقى أن أرد على أى إنسان كان يتناول هذا المجتمع بصورة مسيئة استفزازية، فهذا واجبى كعضو ينتمى إلى المجتمع المصرى. 

سناء: ولكنكم تعديتم ديمقراطية الحوار عندما أسرفتم فى ردكم على الدكتور يوسف إدريس إلى حد الطعن والتشهير لدرجة أوصلتموه معها إلى أن يلجأ متظلمًا من الحكومة فى شخصكم، الأمر الذى لم يكن مفروضًا فهو معادلة يصعب تمريرها.

رضوان: ليست معادلة صعبة التمرير، فالقانون والدستور رسما حدود الفصل بين السلطات، ومن حق الصحافة كسلطة رابعة أن تلجأ إلى القضاء، ولكنى أنبه إلى أن الدكتور يوسف إدريس لم يتناول الموضوع كمقالة صحفية، وإنما كمقالة تحليلية صارخة لاذعة حيال المجتمع المصرى، وأيًا كان أقول مرحبًا بالقضاء، وليقل القضاء كلمته وسأنزل عند كلمة القضاء، فنحن جميعًا أمام القانون سواء، ومن حقى كفرد فى هذا المجتمع أن أدافع عن وجهة نظر مواطن فى مجتمع قوامه البشرى خمسون مليون فرد، وقوامه الحضارى ما يربو على سبعة آلاف سنة. 

سناء: الحوار يعد عادة للوصول إلى فهم مشترك، ولكن وللأسف ظهر من حملتكم المضادة على يوسف إدريس أننا مجتمع فقد القدرة على الحوار العقلانى، فما جرى فى الساحة كان أشبه ما يكون بالسب العلنى والمطاحنات الكلامية؟ 

رضوان: لم يكن الأمر بهذا القدر الذى تصورينه، فأنا قد قصدت من خلال إضفاء بعض القسوة فى الحوار، لأن أرد كمواطن مصرى هو محمد عبدالحميد رضوان على مواطن مصرى هو الأستاذ الدكتور يوسف إدريس، فى الوقت نفسه يجب ألا ننسى بأن قسوة الحوار كانت واردة أيضًا فى مقال يوسف إدريس، فكان لا بد أن تكون هناك وقفة لكى نراجع حساباتنا جميعًا، لأن تناول المجتمع المصرى بالمنظور الذى تناول به يوسف إدريس كان غير منصف، ومن الوارد أن أكون قد فهمته خطأ، وبالتالى من الوارد أن يكون الدكتور إدريس فهم ردى خطأ على غير محمله، ولكن الفيصل فى هذا، كما قلنا وأسلفنا هو القانون والقضاء. 

سناء: ولكن هذا لا ينفى بأنكم قد ضربتم صفحًا عن ديمقراطية الحوار والتبارز بالرأى، ذلك أن ردكم قد حمل ضمنًا معنى مصادرة حق الكاتب فى أن يعرب عن وجهة نظره ومعنى الحجر عليه، فردكم نحى جانبًا سلاح المنطق والعقل واستخدم سلاح القهر للتفرد والفردية من عمد.

رضوان: حاشا لله أن يكون ردى قد تضمن هذا أو حواه أو مسه من قريب أو بعيد، لأننى أربأ بنفسى من خلال موقعى أولًا ثم من خلال شخصى وموقفى كمواطن عن أن ألجأ إلى هذا الأسلوب، بل على العكس، لقد رددت فى هذا ردًا آمنت به كمواطن، وقد يكون قد ورد فى كلامى نوع من القسوة الوصفية لشخص الأستاذ يوسف إدريس، ولكننى لم أقصد من وراء هذا الوصف إهانته أو الانتقاص من قدره، فهو كاتب كبير أعترف بوزنه وثقله، فما قصدته هو أن ألفت نظره كمواطن وشقيق إلى أنه عاب فى المجتمع المصرى وهو ما لم أقبله. 

سناء: هل تناسيتم أنه كاتب لا بد أن ينفث روح الصحوة فى الآخرين بما يملك من عين ناقدة باحثة، فهو كاتب يتأمل الأحداث والوقائع كظواهر ويتحدث عنها بتلقائية وعفوية وبلا تردد أو مواربة؟ 

رضوان: إطلاقًا لا.. ولكن أربأ بأى كاتب مصرى وليس الدكتور يوسف إدريس فقط عن أن يضع عقبات اليأس والإحباط وتثبيط الهمم أمامنا فى الوقت الذى لا يشاركنا فيه بوضع الحلول، وهو أمر ليس منوطًا بالجهاز الحاكم فحسب، وإنما منوط أيضًا بكل مواطن فى مصر، وتأتى الصدارة فى هذا لمفكر ومحلل كيوسف إدريس، له وجهات نظر فى القضايا الاجتماعية وهو ما نرحب به، ولكنى أتساءل: ما هى الحلول التى يرتئيها؟ وما هو السبيل للخروج من أى أزمة؟ ليس من قبيل حرية الرأى أبدًا أن يحبط الإنسان كل ذرة وكل بادرة أمل لدى الشعب المصرى، فنغمة التيئيس نفسها هى التى لا نريدها، نريد نغمة الأمل والبناء، إن الشباب المصرى الذى يحمل الأحجار فى أى موقع أثرى لكى يعيد لمصر وجهها الحضارى ليمثل أملًا، فلماذا لا نتناول القضية من منطق الأمل لا التيئيس؟ 

سناء: ما كتبتموه قد يستوجب الاعتذار علنًا من قبلكم للدكتور يوسف إدريس على صفحات الجرائد وبكل وسائل الإعلام، وذلك بغية تصفية الخلاف الناشئ ولإصلاح ذات البين، فهل أنتم على استعداد؟ 

رضوان: القدرة على الخطأ تستوجب بالضرورة القدرة والشجاعة على تصحيح هذا الخطأ، وأنا لا أرى ضيرًا أو ضررًا فى أن أعتذر إذا كان هناك ما يبرر الاعتذار، بشرط أن يعتذر الدكتور يوسف إدريس عما بدر منه فى حق المجتمع المصرى، فأنا فى هذه الحالة على أتم استعداد لأن أعتذر الاعتذار اللائق الذى يوازى ويتوازن مع اعتذار الدكتور يوسف إدريس على خطئه فى حق المجتمع، فلا يمكن قبول وصف المجتمع المصرى بأنه مجتمع همه على بطنه وبأنه مجتمع يخاف ما يختشى. 

سناء: ولكن هذا ورد كتوصيف لحالة أو ظاهرة مرضية من وجهة نظر كاتب يراقب العملية عن كثب، فما أورده قد يكون موجودًا كظاهرة فى المجتمع المصرى وشائعًا، وعليه كان لا بد له ككاتب أن يلفت النظر ويهز المجتمع ليفيق، إذ كيف سيهز المجتمع إذا لم يسم الظواهر بأسمائها ويذكرها على حقيقتها؟ 

رضوان: وهل ننسى وينسى هو أنه جزء من هذا المجتمع، فإذا أعطى لنفسه هذا الحق فليعط لغيره الحق فى أن ينتقده فى تكوينه كشخص وفرد، ذلك أن ما صور عنه بهذا الأسلوب لا يمكنه أن يكون أبدًا بالأسلوب السوى، وهذا يكفل لى حق نقده ككاتب، فهو كمفكر ليس فردًا عاديًا، وإنما شخصية عامة، فمن حقى أن أسوى هذه الشخصية العامة لأنه جزء من مجتمعى وجزء يسهم بشكل أو بآخر فى تكوين قريحته الثقافية، من حقى أن أنقده وأقول له قف هذا خطأ. 

ما تعجبت منه وله فى هذه المعركة هو موقف يوسف إدريس، الذى لم يكن يصمت أبدًا على أى معركة، بل كان يخوضها وهو مسلح بكل أدواته، لكن فى هذه المعركة صمت تمامًا، واكتفى بأن يذهب إلى القضاء. 

لم يتركنا يوسف لنخمن السبب، فقد تحدث عن ذلك مرتين. 

المرة الأولى كانت فى ١٨ يناير ١٩٨٥ وكانت القضية لا تزال منظورة أمام القضاء. 

سأله الكاتب الصحفى محمد السيد محمد ضمن حوار كان يجريه لصالح مجلة اليقظة الكويتية: لماذا لجأت إلى القضاء، وكان يمكنك أن ترد على مقال وزير الثقافة بمقال؟ 

قال إدريس: عندما كتبت مقالى «أهمية أن نتثقف يا ناس» لم أضع فى اعتبارى أن يخص المقال وزير الثقافة من بعيد أو قريب، فقد كنت أتحدث عن الثقافة العامة فى مصر منذ عام ١٩٥٢ وحتى الآن، وفوجئت بأن الوزير رد علىّ بالقذف والتجريح الشخصى مبتعدًا عن الموضوعية التى تتناسب مع كونه وزيرًا للثقافة يقوم بالرد على أحد المفكرين الذين أفنوا حياتهم للشعب والثقافة، وأمام كل ما ورد بمقال الوزير من سب وتجريح قررت اللجوء للقضاء ورفع قضية قذف علنى، وقد حاول الوزير بعد ذلك أن يوهم البعض بأنه رد على المقال بمقال، ولكنى أقول له: هناك فرق بين أن ترد على المقال بمقال تفند فيه كل الآراء الواردة، وبين أن تسب وتشتم وتقذف صاحب المقال فتصفه بأنه كاتب مخدور وغير مصرى وصاحب قلم بللورى، وكاتب لا ينتمى لشعب بلاده، إلى آخر هذا القاموس من أوصاف وألفاظ. 

ويضيف إدريس: لقد كان من المفروض أن يحاسب هذا الوزير من مجلس الشعب أو مجلس الوزراء، وأن يفصل من منصبه لأن ما فعله يعتبر جريمة، جريمة محاولة اغتيال شخصية عامة بالقذف والشتائم، جريمة تساوى إطلاق الرصاص على هذه الشخصية العامة، وعندما لم تقم هذه الجهات بدورها فى محاسبة هذا الوزير لم يكن أمامى سوى اللجوء إلى القضاء. 

كانت القضية قد نظرت فى جلسة أولى فى ١٨ أكتوبر ١٩٨٤، وتم تأجيلها إلى شهر فبراير ١٩٨٥، وعندما تحدث إدريس كان متخوفًا. 

قال: طبعًا اللجوء للقضاء فى قضية قذف يحتم رفع الحصانة البرلمانية عن الوزير باعتباره عضوًا فى مجلس الشعب، وهذا قد يأخذ وقتًا طويلًا، وقد لا يتم لأن هذا الوزير ينتمى للحزب الحاكم الذى يتمتع بالأغلبية الساحقة فى مجلس الشعب، وهذه الأغلبية قد ترفض رفع الحصانة عن الوزير، وبهذا لم يبق لى سوى الإجراء الوحيد، وهو رفع قضية تعويض، لأن الحكم فى هذه الحالة سوف يحمل إدانة لموقف الوزير، وهذا هو الموقف الوحيد الذى يستطيعه إنسان أمام أى إهانة توجه إليه، لأن الإنسان السوى لا يرد على الإهانة بالمثل. 

فى ٢٩ يونيو ١٩٨٥ نشرت الصحف حكم المحكمة الذى كان فى صالح يوسف إدريس، وجاء نصًا: قضت محكمة جنوب القاهرة برئاسة المستشار محمد جمال الدين مصطفى بتغريم محمد عبدالحميد رضوان- بصفته الوزارية– مبلغ ٢٠ ألف جنيه تعويضًا للدكتور يوسف إدريس عن عبارات السب والقذف الواردة فى مقال نشره الوزير بجريدة الأهرام، ونص الحكم على نشر حيثيات الحكم ومنطوقه فى جريدة الأهرام مشمولًا بالنفاذ دون انتظار لاستئناف. 

وفى آخر حوار ليوسف إدريس أجراه معه محمود فوزى ونشره فى مجلة أكتوبر فى ٩ يونيو ١٩٨٩ قال إدريس كلمة أخيرة فى هذه القضية. 

قال: أما عبدالحميد رضوان فقد وجه لى شتائمه ولم أرد عليه نهائيًا، ورفعت عليه قضية قذف وكسبتها، فلأول مرة صحفى يكسب قضية ضد وزير، والآن هو فى ذمة الله، رحمة الله عليه، وكان رجلًا طيبًا وعذبًا، ولا أدرى كيف دست عليه هذه المقالة التى نشرت فى جريدة الأهرام؟

ما الذى نخرج به من هذه القضية التى حسمها القضاء بإدانة الوزير وتغريمه؟ 

لقد كان محمد عبدالحميد رضوان وزيرًا للثقافة استمر عمله بها من العام ١٩٨١ إلى العام ١٩٨٥، وكان له سجل حافل بالإنجازات، وأثنى مثقفون كثيرون عليه بسبب ما قدمه للثقافة المصرية، وهو ما لا ننكره عليه، لكن مع الأيام تبدد ذكره، فلا أحد يهتم بمقاله، وكل ما يقابله هذا المقال هو الهجوم والنقد والرفض. 

لكن يوسف إدريس الكاتب والأديب والمثقف الكبير، فقد تجدد مع الأيام، وأصبح مقاله «أهمية أن نتثقف يا ناس» أيقونة من أيقونات الكتابة العربية، نستدعيه بين الآن والآخر، ونستشهد بما قاله فيه، بل نستخدمه أحيانًا لإدانة ما نمر به من انحدار ثقافى وانهيار مجتمعى عام. 

وهذا هو الفارق بين المسئول السياسى والكاتب والأديب والمثقف. 

فما تقوله هذه المعركة إن الوزير يزول.. أما الكاتب فهو يبقى ويتجدد أبدًا.