الذاكرة المثقوبة.. الجريمة الكبرى فى تسجيلات عبدالناصر

- التسجيلات الموجودة مع أسرة الزعيم الدولة لا تعرف عنها شيئًا
لم يكن ما سمعته فى تسجيلات الرئيس جمال عبدالناصر جديدًا.
ولم يكن فيما قاله عن القضية الفلسطينية وإسرائيل مدهشًا بالنسبة لى.
فمن يقرأ - مجرد يقرأ- لا يمكن أن يكون هناك شىء غريب عليه أبدًا، فكل شىء متاح، لكننا فى زحمة الأحداث وتوالى الحوادث، ووسط فوضى الأفكار والنقاشات والاهتمام بما هو تافه فى غالب الأحيان تتوه منا الحقائق، وعندما يكشفها أحد أمامنا نقول ببراءة: من أخفى عنا كل ذلك؟
شىء من هذا حدث عندما استمعنا إلى حديث الرئيس عبدالناصر الطويل مع معمر القذافى، الذى شعرنا معه بأننا أمام عبدالناصر آخر تمامًا.
كانت الصورة التى رسمها دراويش عبدالناصر تتشكل من خطوط وظلال تشير إلى أنه ظل إلى يومه الأخير قابضًا على الجمر فيما يتعلق بالحل مع إسرائيل، وهو حل يقوم على الحرب ولا شىء غير الحرب، لم يكن للسلام مكان، ولا يمكن للتفاهم مساحة.
تم تصوير عبدالناصر على أنه الخصم الكامل لإسرائيل، يريد أن يلقيها فى البحر- وهو ما لم يقله أبدًا- يتعلق بما قاله مَن يرفعون الشعارات المطلقة دون عقل أو تأمل فى الواقع أو العواقب، فجاء ما قاله عبدالناصر ليسحق كل ذلك.

من الحكمة أن نضع ما قاله عبدالناصر فى سياقه.
فما تحدث به كان فى أغسطس ١٩٧٠، قبل وفاته بشهر واحد، وبعد ما يقرب من ثلاث سنوات على الهزيمة فى يونيو ٦٧، لاقى خلال هذه السنوات ما تعجز عن حمله الجبال، خذلان من الحلفاء، وإمعان فى الحصار من الأعداء، إحباط واكتئاب ورغبة فى أن ينتهى كل شىء لأنه لم يصل إلى شىء.
منذ سنوات والحقائق تتراكم أمامى.
لم أركن إلى تجربة عبدالناصر فيما كتبه هيكل فقط، فما جاء عن الرئيس فى كتابات كاهنه الأعظم يدخل تحت بند الدعايات الفجة، أكثر منه تأريخ أمين ودقيق لما جرى.
ولم أركن أيضًا إلى ما كتبه خصومه، فقد قرروا أن يهيلوا عليه كل تراب الدنيا، وينزعوا عنه كل فضل، ويضيفوا إليه كل نقيصة، وهو كلام لا يمكن أن يعول عليه أو يتبناه باحث يحاول أن يكون منصفًا.
كانت الوقفة الأولى مع قصة عبدالناصر وإسرائيل مع كتاب «عبدالناصر فى تل أبيب.. القصة الكاملة لمشاريع التفاوض مع إسرائيل».
اقتنيت هذا الكتاب فى حدود العام ٢٠٠٣ تقريبًا عندما صدر عن دار الخيال.
وكانت المفاجأة أن الطبعة الأولى منه صدرت فى العام ١٩٩١، أى أن القصة التى يدور حولها الجدل الآن كانت ملقاة على الأرصفة وفى أرفف المكتبات منذ أكثر من ٣٥ عامًا، وبطبيعة الحال كانت متداولة قبلها بسنوات، فقد اعتمد رشاد كامل فى كتابه الجرىء فى عنوانه وطرحه ومعالجته على مصادر حية وأخرى مكتبية كانت موجودة ومتاحة أيضًا.
كانت هناك إشارات عابرة لعلاقة عبدالناصر بشخصيات إسرائيلية، لكن هذه الإشارات ورغم تسربها مبكرًا، إلا أنها عادت لتسكن فى المنطقة الصامتة الخرساء لعدة عقود.
فى مجلة آخر ساعة وفى العام ١٩٤٩ كان القائد المصرى السيد طه يكتب يومياته فى حرب فلسطين لمجلة آخر ساعة، وقد مر مرورًا سريعًا على اجتماعات تمت بين عبدالناصر وإسرائيليين وقت حصار الفلوجة.
وفى مارس ١٩٥٣ كتب هيكل فى مقال نشره فى مجلة آخر ساعة أيضًا أشار فيه إلى القائد اليهودى الذى التقى به عبدالناصر أثناء حصار الفلوجة.
لم يعد هيكل إلى هذه القصة ضمن ما كتبه عبدالناصر، لكن فعلته هدى جمال عبدالناصر فى كتابها «٦٠ عامًا على ثورة ٢٣ يوليو»، الذى صدر فى العام ٢٠١٢.

عرضت هدى فى كتابها بعضًا من مذكرات أبيها، وجاء فيها: تم استقبالنا جيدًا على يد القائد اليهودى، حيث لم تكن إسرائيل قد أعلنت بعد، وقال هذا القائد إنه يرغب فى وقف إراقة الدماء، وطلب هذا القائد منا الاستسلام والانسحاب من عموم فلسطين، وهو ما أدى إلى اعتراضى، كنت أرغب فى سحب القوات المصرية إلى غزة أو رفح لالتقاط الأنفاس ومعالجة الجرحى.
ويضيف عبدالناصر، كما نقلت هدى: طلبنا إجلاء الجرحى إلى غزة، ولكن اليهود رفضوا ذلك، وقالوا إنهم على استعداد لإعطائى الدواء الذى أحتاجه، وعرضوا علينا عصير البرتقال وشطائر وشيكولاتة وحلوى وبسكويت.
لم يفصح أحد عن اسم هذا القائد اليهودى، حتى كان العام ٢٠١٨ عندما عرض فيلم تسجيلى أخرجه المخرج الإسرائيلى «عاموس جيتاى»، وتناول فيه لقاء عبدالناصر مع إسحق رابين.
وقتها كان رابين برتبة عقيد وعبدالناصر برتبة رائد، وفى الفيلم بعض التفاصيل التى رواها المخرج الإسرائيلى على مسئوليته.
منها مثلًا أن عبدالناصر قال لرابين إن الحرب التى نخوضها هى حرب خاطئة ضد العدو الخطأ فى الوقت الخطأ.
وعلق رابين على كلام عبدالناصر بقوله: اعتقدت من كلامه أننا الآن قريبون جدًا من السلام.
يقول مخرج الفيلم: لم يسفر هذا اللقاء عن اتفاق، إلا أن الإسرائيليين المشاركين فيه لمسوا من التعامل مع عبدالناصر أنه يحمل ميلًا للسلام، وهو ما دفع العسكريين الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأن فرص السلام ستكون أفضل عقب قيام ثورة ١٩٥٢، التى كان عبدالناصر واحدًا من قياداتها الأساسيين.
فى كتابه «يوميات جمال عبدالناصر فى حرب فلسطين.. النصوص الكاملة بخط يده» رسم عبدالله السناوى صورة كاملة لمفاوضات عبدالناصر مع اليهود.
كنت قريبًا من عبدالله السناوى وقت نشره الكتاب من دار «جزيرة الورد»، وسألته عن مصدر هذه اليوميات التى كتبها عبدالناصر بخط يده، فأشار إلى أنه حصل عليها من الأستاذ هيكل، الذى خصه بها، وطلب منه أن يُصدرها فى كتاب، وكان هيكل قد حصل على هذه اليوميات المخطوطة فى بداية الخمسينيات.
قدم السناوى لمفاوضات عبدالناصر مع اليهود بقوله: كانت المفاوضات التى دخلتها القوات المصرية المحاصرة مع القوات اليهودية، كما كان يطلق عليها فى أدبيات ذلك الوقت، من أهم المحطات التى تعرض لها وعكست طبيعة نظرته للعدو الذى يقاتله.
كتب عبدالناصر بخط يده يوم الأحد ٣١ أكتوبر: القائد اليهودى يحضر فى عربة عليها علم أبيض، ذهبت لمقابلته، يطلب منا التسليم، نرفض، يطلب أخذ جثث قتلاه.
وفى اليوم التالى كتب: جمع جثث قتلى اليهود حسب الاتفاق، العدو ينقض اتفاقية إيقاف القتال بعد استلام جثث القتلى بساعة.
فى يوم الأربعاء ٣ نوفمبر كتب بالحرف: نقاتل.. ولا نستسلم.
وفى الأربعاء التالى ١٠ نوفمبر كتب: حضرت الساعة ١٥٠٠ مصفحة يهودية من الشرق، عليها علم أبيض، طلب الضابط الموجود فى العربة أن يحدد ميعادًا ليتقابل فيه قائد الفرقة اليهودية مع قائد قواتنا الأميرالاى السيد طه، الذى اشتهر بـالضبع الأسود.
وبعد يوم واحد كتب: تقابلت مع الضابط اليهودى الساعة ١٠٠٠، وبلغته بأن القائد وافق على مقابلة القائد الصهيونى بين الساعة ١٥٠٠ والساعة ١٦٠٠، فقال إنه يأسف لعدم اتفاقنا على المكان، وإن هذا المكان بين الخطوط فى الشمس غير مناسب، إذ إن قائده يرغب فى أن نتناول فنجانًا من الشاى معًا، وهو يخيرنا بين جات وبيت جبرين، اتفقنا على الاجتماع فى جات، وسيقابلنا منتصف الطريق الساعة ١٥١٥، توجهنا السيد على طه، ورزق الله الفسخانى، وجمال عبدالناصر، وإبراهيم بغدادى، وخليل إبراهيم إلى الجات، قوبلنا مقابلة حسنة، وكان الفرق شاسعًا بين جات وعراق المنشية، فإن الشخص يشعر بأنه بين قوم متمدنين، الآلات الزراعية الميكانيكية والنظافة والنساء فى ملابس زاهية يلبسن الشورت، واجتمعنا مع اليهود.

ويضيف عبدالناصر: تكلم القائد اليهودى، وقال: إنه يرغب أن يمنع سفك الدماء، وإن موقفنا ميئوس منه، وطلب أن نسلم، فاعترض القائد المصرى وطلب الانسحاب إلى غزة أو رفح، فمانع اليهود وقالوا إنهم يوافقون على شرط أن يخرج الجيش المصرى من كل فلسطين، وطلبنا إجلاء الجرحى إلى غزة، لكنهم رفضوا ذلك، قالوا إنهم مستعدون أن يعطونا ما نرغب من أدوية، وأخيرًا خرجنا وقد قدموا لنا عصير «برتقال، وبرتقالًا، وساندوتش، وشيكولاتة، وملبس، وبيتى فور، وبسكويت»، أبلغتنا الرياسة بأن قافلة ستحضر، كلمة السر حسان، وأن جلالة الملك أرسل تليغرافًا يشكر فيه الجميع، ويشجعهم، وقد رقى السيد طه إلى أميرالاى مع رتبة البكوية.
أشار عبدالناصر إلى التفاوض إذن، لكن ظلت هذه القصة مخبوءة حتى كشف عنها عبدالله السناوى بعد أن حصل على يوميات عبدالناصر التى كتبها بخط يده، والتى كان هيكل يحتفظ بها كل هذه العقود، فقد صدر كتاب عبدالله السناوى فى حدود العام ٢٠١٠.
وفى العام ٢٠١٩ صدر كتاب «عبدالناصر الأضواء والظلال» للباحث عمرو صابح، وفيه فصل كامل عنوانه «عبدالناصر وسيناء ١٩٦٧- ١٩٧٠».. وفيه سرد طويل وعميق لما قاله عبدالناصر عن سيناء وموقفه من استعادتها بالطرق السلمية.
وما دمنا وصلنا إلى عمرو صابح، فلا بد أن نشير إلى أنه كان فى قلب ما تردد عن تسجيلات عبدالناصر التى تحدث فيها إلى القذافى، وهى التسجيلات التى قال فيها للعرب بوضوح «حلوا عننا.. ومَن يريد أن يحارب فليذهب إلى الحرب».
على حسابه الخاص بفيسبوك حكى عمرو قصة هذه التسجيلات، قال: فى عام ٢٠١٨ بدأنا التفكير فى إطلاق قناة خاصة بنشر تراث الرئيس جمال عبدالناصر المرئى والمسموع، وعندما عرضنا الفكرة على المهندس عبدالحكيم عبدالناصر أبدى ترحيبه ودعمه الفكرة، وبعد موافقته أطلقنا قناة Nasser tv، وهى القناة الرسمية للرئيس جمال عبدالناصر.
ويؤكد عمرو: جميع الوثائق والتسجيلات الصوتية والمرئية للرئيس جمال عبدالناصر، التى قمنا بنشر أجزاء منها، منشورة على موقع الرئيس جمال عبدالناصر التابع لمكتبة الإسكندرية منذ سنوات، بعد أن قامت د.هدى جمال عبدالناصر بجمع وتوثيق تراث الرئيس جمال عبدالناصر السياسى والفكرى والمرئى والمسموع.

ويشير صابح إلى أن الكاتب الصحفى مصطفى بكرى فى كتابه «ناصر ٦٧.. هزيمة الهزيمة»، الذى صدر فى ٥ أجزاء عن المكتبة الأكاديمية، قام بنشر الكثير من هذه التسجيلات لاجتماعات الرئيس جمال عبدالناصر.
يقول عمرو: أمدنا المهندس عبدالحكيم جمال عبدالناصر بنسخة من اجتماعات ولقاءات الرئيس عبدالناصر من أجل نشرها على القناة، وعندما بدأنا مؤخرًا فى نشر بعض تلك الاجتماعات واللقاءات فوجئنا بحجم ردود الأفعال على ما نشرناه.
ويضيف: قمنا بانتقاء أجزاء معينة من لقاءات واجتماعات الرئيس جمال عبدالناصر فى أعوامه الأخيرة بعد نكسة ١٩٦٧، وكان هدفنا هو تحطيم بعض المسلمات التى شاعت عن عبدالناصر مثل سعيه الدائم للحرب وعلاقاته الطيبة بنظام حكم الرئيس الجزائرى هوارى بومدين وأنظمة حكم البعث فى سوريا والعراق والفصائل الفلسطينية.
ويذهب عمرو إلى أن عبدالناصر لم يرفض مطلقًا الحل السلمى للصراع العربى- الإسرائيلى، ولكن رؤيته لهذا الحل كانت قائمة على شرطين الأول أن يكون الحل شاملًا كل الجبهات، والثانى ألا يجعل هذا الحل من مصر دولة هامشية فى محيطها العربى، لذا فالتسجيلات لا تقدم جديدًا بالنسبة لتاريخ عبدالناصر، ولكنها تكشف المسكوت عنه فى تاريخ عبدالناصر.
مكتبة الإسكندرية كان لها رأى آخر، وهو ما ظهر من بيانها الذى أشارت خلاله إلى أنها غير مسئولة عن أى مواد متداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعى تخص الرئيس جمال عبدالناصر بخلاف الموقع الرسمى للرئيس الراحل، الذى كان نتاج تعاون منذ عام ٢٠٠٤ بين المكتبة ومؤسسة جمال عبدالناصر التى تديرها ابنته السيدة هدى عبدالناصر.
بيان المكتبة أشار أيضًا إلى أنها تسلمت مواد رقمية من المؤسسة، وقامت بتنفيذ الجانب التقنى للإتاحة؛ بهدف الحفاظ على الإرث الثقافى والسياسى للرئيس الراحل، فهى لا تتبنى أو تروج لأى محتوى لا يتماشى مع مهمتها الأكاديمية والبحثية.
بيان المكتبة لم يقل كل شىء، فهناك دائمًا تفاصيل أخرى.
فصحيح أن المكتبة تعاونت مع مؤسسة عبدالناصر فى العام ٢٠٠٤ لأرشفة وحفظ وثائق عبدالناصر، ووقتها أعلنت المكتبة عن أنها حصلت على صور ضوئية لما يقرب من ٥٠ ألف وثيقة وصورة من أهم الوثائق الخاصة بالرئيس الراحل.
لكن فى العام ٢٠١٨ تطور المشروع، وبدأ إطلاق قناة رسمية على اليوتيوب باسم ناصر، وكان الاتفاق القانونى بين المكتبة وأسرة عبدالناصر أن تتولى إدارة الموقع الإلكترونى، بينما تدير الأسرة صحف السوشيال ميديا بما فى ذلك القناة، وطبقًا للاتفاق فإن المكتبة غير مسئولة عن نشر المقاطع المصورة التى تخص عبدالناصر.

لا يوجد خطأ فى نشر تسجيلات عبدالناصر مهما كان ما فيها، فهى جزء من التاريخ الذى نملكه جميعًا.
لكن الجريمة الكبرى التى تكشفها هذه التسجيلات والتى لا بد أن نتوقف عندها، هى من يملك وثائق مصر؟
فهذه التسجيلات كانت فى حوزة الأسرة، لا تعرف الدولة عنها شيئًا، فهل يمكن أن يستقيم الأمر على هذه الصورة، مات هيكل ولديه آلاف الوثائق التى لا يعرف عنها أحد شيئًا.
إخفاء هذه الوثائق واستمرارها فى يد الأفراد والأسر جعلنا نعيش تاريخًا مشوهًا، وهو ما وصفه مبكرًا الباحث والكاتب مصطفى عبدالغنى بالذاكرة المثقوبة، وأصدر كتابًا بهذا الاسم فى العام ٢٠٠٠، فضح فيه معاناة الباحثين من غياب الوثائق.
ليقل عبدالناصر ما يشاء، وليغير بتسجيلاته الجديدة فى التاريخ ما يريد، لكن ما يهمنا هو السؤال عن وثائقنا التى هى ملك للشعب، فإلى متى تظل فى حوزة أفراد أو أسر أو جماعات؟
أعتقد أن الدولة لا بد أن تتدخل، وتستعيد هذه الوثائق لتكون فى حوزة دار الوثائق، والقانون يتيح لها ذلك.. على الأقل حتى لا تظل ذاكرتنا مثقوبة.