الأربعاء 30 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

محمود أبورية.. عملية إخفاء سيرة مجدد عظيم (ملف)

حرف

لم يرتكب محمود أبورية جريمة. 

لكنه تعرض لتنكيل وحصار وانتقام كأنه ارتكب جريمة الجريمة. 

لو كنا نعيش فى عالم يعرف العدل، ولو كنا ننتمى إلى مجتمع يتسم بالإنصاف، لكان محمود أبورية واحدًا من قادتنا الفكريين الكبار، يعرف الجميع اسمه، ويحفظون سيرته، ويقبلون على كتبه، ويأخذون منه قدوة ودليلًا. 

لكن ولأن الدنيا كما نعرفها، فقد ضاع محمود أبورية كما ضاع كثيرون غيره، وتبدد تراثه الفكرى كما تبددت أشياء كثيرة مهمة فى حياتنا، ولم يكن الضياع فقط هو مصيره، بل زاد عليه الإساءة لاسمه، والتشويه لصورته، والانتقاص من قدره.

يكفى وأنا أحدثك عنه الآن أنك لا تعرف عنه شيئًا تقريبًا. 

فى العام 2007 كان كل ما أعرفه عن محمود أبورية أنه صاحب كتاب «أضواء على السنة المحمدية»، وأنه بسبب هذا الكتاب طورد واتهم فى دينه، أصبح منفيًا فى مكانه، منبوذًا فى زمانه. 

حاولت الحصول على نسخة من الكتاب، لم أستطع، وكان هذا طبيعيًا أيضًا، فكتب أمثاله تطبع مرة وبالكثير مرتين، ثم يتبرأ منها الجميع، فلا يعودون لطباعتها، ربما اعتقادًا منهم أن طباعتها قد تعرضهم لغضب من الله، رغم أن الله هو من أمرنا بأن نعمل العقل ونفكر، ومستحيل أن يعاقبنا على الاستجابة لما طالبنا به. 

وقتها كنت قد نشرت عرضًا مطولًا لكتاب زكريا أوزون «جناية البخارى» فى جريدة الفجر، وأخذت من العرض سبيلًا لعرض فكرتى بضرورة إعادة النظر فى الأحاديث المنسوبة كذبًا وزورًا للنبى، صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك نقرأها ونحفظها ونرددها على أنها من ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم. 

هاجت الدنيا وماجت، وتعرضت لحملة هجوم صاخبة، صاحبتها حملة من الدعاوى القضائية من ضيقى الأفق، الذين اعتبروا المطالبة بتنقية سنة الرسول مما لحق بها من شوائب وزوائد إساءة إلى الرسول ومحاولة للنيل من الإسلام. 

فى قلب هذا الصخب كنت أجلس مع الصديق الكاتب والباحث الراحل أيمن عبدالرسول على مقهى زهرة البستان فى وسط القاهرة، وإذا به يخرج لى من حقيبته التى كان يحملها على كتفه دائمًا كتاب «أبوهريرة.. شيخ المضيرة» الذى كتبه محمود أبورية. 

قال لى أيمن: إذا كنت تريد أن تستكمل عرض أفكار من طالبوا بتنقية السنة النبوية فلا بد أن تعرض أيضًا لكتاب محمود أبورية، فقد تعرض إلى ظلم كبير، وأعتقد أن هذه مناسبة لرد اعتباره. 

أخذت من أيمن نسخة الكتاب التى ما زلت أحتفظ بها حتى الآن، وعرضت له عرضًا زاد نار المعركة اشتعالًا، وظل فى عنقى دينًا لمحمود أبورية نذرت يومًا أن أوفيه، أن أعرف الناس به، وأن أزيل طبقات التراب من فوق سيرته، وهو ما أفعله هنا الآن. 

فى أرشيف الصور المصرى لا توجد سوى صورة واحدة لمحمود أبورية، يبدو فيها شيخًا أزهريًا معممًا. 

ولد فى العام 1889 بكفر المندرة مركز أجا محافظة الدقهلية

والمعلومات المتاحة عنه نادرة وشحيحة، لا يمكننا أن نرسم له من خلالها صورة كاملة. 

فطبقًا من المتاح من المعلومات، فقد ولد فى العام ١٨٨٩ بكفر المندرة مركز أجا محافظة الدقهلية، وتوفى فى العام ١٩٧٠ فى بيته بمحافظة الجيزة، ٨١ عامًا قضى منها ما يقرب من ٦٨ عامًا فى مدينة المنصورة، ثم انتقل إلى محافظة الجيزة ليقضى فيها ما تبقى من عمره. 

عندما تبحث عنه ستجد من يقول إنه اشتهر بنقده للسنة القولية وانتقاده لبعض المحدثين

تلقى تعليمًا اختلط فيه الدينى والمدنى بين المدارس العامة والمعاهد الأزهرية، ومن بين ما اشتهر به كانت مراسلاته مع الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعى، وهى المراسلات التى نشرها فى كتابه «رسائل الرافعى» وضمنها الرسائل التى كان يبعث بها إليه الرافعى ردًا على أسئلته، وقد تنوعت ما بين الأدب والسياسة والفكر والرجال. 

لم يكتب أحد ممن أيدوا محمود أبورية سيرته، ولكن اجتهد خصومه فى ذلك، ولذلك عندما تبحث عنه ستجد من يقول إنه اشتهر بنقده للسنة القولية، وانتقاده لبعض المحدثين، وهو أحد أركان المدرسة الإصلاحية التجديدية التى بدأت بالأستاذ الإمام محمد عبده، واختلف فيه وفى كتبه الناس، ما بين محب ومبغض، وذلك لآرائه الجريئة فى موضوع السنة النبوية، وموضوع الصحابى أبوهريرة على وجه الخصوص، حيث أفرد كتابًا عنه، عده بعض العلماء والباحثين انتقاصًا وتجنيًا على أبوهريرة، فمنهم من هاجمه شخصيًا، ومنهم من اخترع بعض القصص عنه، ومنها أنه وهو يسلم الروح كرر اسم أبوهريرة بفزع، وكأن الصحابى الجليل جاء مع ملك الموت ليقبض روحه، انتقامًا منه لما فعله به، وتأكيدًا أنه لم يكن على صواب فيما كتبه عنه. 

تقول الرواية التى روج لها محمد بن محمد المختار الشنقيطى ولا دليل واحد عليها أن أبورية عندما كان فى النزع الأخير وساعة الاحتضار، حضره نفر من الناس، ورأوه وقد أسود وجهه، وكان يصرخ مرعوبًا فزعًا بصوت عال وهو يقول: آه.. آه .. آه.. أبوهريرة أبوهريرة.. حتى مات على تلك الحال. 

والحقيقة أن محمود أبورية لم يكن صاحب الكتاب الواحد وهو «أبوهريرة.. شيخ المضيرة» وهو الكتاب الذى اشتهر به، ولكن له مؤلفات عديدة أهمها على الإطلاق كتابه «أضواء على السنة المحمدية» وهو الكتاب الذى كان كتاب أبوهريرة مجرد جزء منه، كان قد اقتطعه منه بعد ذلك وأصدره منفردًا، وله كتب أخرى من أهمها «السيد البدوى» و«حياة القرى» و«صيحة جمال الدين الأفغانى» و«قصة الحديث المحمدى» و«على وما لقيه من أصحاب الرسول» و«دين الله واحد على ألسنة الرسول.. محمد والمسيح أخوان». 

وما يؤكد أنه لا توجد ترجمة كاملة عن محمود أبورية ما قرأته على أحد المنتديات منذ سنوات، وكتبته باحثة عراقية. 

كتبت تقول: أنا طالبة الماجستير جنان عباس إسماعيل حسام من العراق محافظة بغداد، أدرس فى جامعة بغداد كلية التربية قسم علوم القرآن والتربية الإسلامية، نظرًا لما تتمتعون به من روح التعاون العلمى والعلم الواسع، أرجو التفضل بتزويدى بترجمة أو مؤلفات أو معلومات عن الكاتب المصرى محمود أبورية الذى توفى فى العام ١٩٧٠، صاحب كتاب «أضواء على السنة المحمدية» أو جهة يمكننى التواصل معها لإفادتى فى موضوع رسالتى وعنوانها «جهود الشيخ محمود أبورية فى نقد الحديث». 

وتضيف الباحثة: إذا كانت لديكم معرفة بهذا الموضوع، حيث إننى بحثت عن ترجمة له فلم أجد سوى ترجمة واحدة للسيد الرضوى فى كتابه «مع رجال الفكر فى القاهرة» ولا يحتوى على معلومات كافية له، كالمكان الذى تخرج منه أو عمل فيه أو شيوخه وتلاميذه، ولم أعثر على كل مؤلفات أبورية عدا ما وجدته فى دار الكتب والوثائق العراقية وهو «أضواء على السنة المحمدية» و«شيخ المضيرة أبوهريرة» و«دين الله واحد» و«جمال الدين الأفعانى»، أما بقية المؤلفات وهى «حياة القرى» و«السيد البدوى» فلم أعثر عليها، كما أن هناك معلومات قليلة عنه متناثرة هنا وهناك فى المواقع الإلكترونية لكن دون مصادر. 

بحثت عن كتاب السيد الرضوى «مع أعلام الفكر فى القاهرة» فوجدته يعرض لجوانب بسيطة عن إنجاز محمود أبورية الفكرى، ولم يتعرض لحياته أو مسيرته العلمية. 

ينقل الرضوى فى كتابه عن محمود أبورية قوله: عندما أخرجت كتابى «أضواء على السنة المحمدية» الذى أرخت فيه للحديث، وكشفت كيف روى وما شابه رواية من الموضوعات ومتى دون وما إلى ذلك مما يجب بيانه، فإنهم ما كادوا يقرأونه حتى هبت أعاصير الشتائم والسباب من كل ناحية، من مصر والحجاز والشام، فلم أبال كل ذلك، بل أستعذ به، لأنى على سبيل الحق أسير، فلا يهمنى شىء يلاقينى فى هذا السبيل مهما كان. 

ويوثق الرضوى علاقته بمحمود أبورية وكيف عرفه فى كتابه. 

يقول: فى ٥ نوفمبر ١٩٦٩ وصلتنى رسالة من الأستاذ أبورية تاريخها ٢٦ أكتوبر ١٩٦٩ من القاهرة يقول فيها: كتاب «قصة الحديث المحمدى» الذى كانت وزارة الثقافة قد طلبته منى منذ عشر سنين، ووقف الأزهر فى سبيله حتى لا يظهر، قد أراد الله أن يظهر رغم أنف الأزهر بعد ما قرأه الدكتور طه حسين وشهد بقيمته شهادة فائقة، وسأرسل لك نسخة منه هدية ومعها بعض نسخ لأصدقائنا الأعزاء ومع كل نسخة بيان مطبوع منا. 

ويضيف الرضوى: وفى ٢٠ نوفمبر ١٩٦٩ جاءنى البريد ويحمل ملفًا فيه ثلاث نسخ من الكتاب: «قصة الحديث المحمدى» إحداها باسمى، والثانية باسم السيد العسكرى، والثالثة للأستاذ رشيد الصفار، وفى كل نسخة بيان هذا نصه: للحقيقة والتاريخ كان من حق هذا الكتاب «قصة الحديث المحمدى» أن يخرج للناس مطبوعًا منذ أكثر من عشر سنين، ذلك بأن وزارة الثقافة المصرية كانت قد طلبت منا مختصرًا لكتابنا «أضواء على السنة المحمدية» عندما ظهرت طبعته الأولى فى سنة ١٩٥٨، لتجعله حلقة فى سلسلة مكتبتها الثقافية، وقبل نشره عرضته على الأزهر ليبدى رأيه فيه، وما كاد يقف عليه حتى أرصد له من كيده فرماه بأن فيه ما يخالف الدين، وطلب عدم نشره وتداوله بين المسلمين، ولم تستطع هذه الوزارة أن تخالف أمره، لأنه ما يربطه على الرضا يكون مربوطًا فى السماء، وظل هذا الكيد يلاحق الكتاب هذه السنين الطويلة لكى يحول دون نشره بين الناس، إلى أن علم أخيرًا بالأمر نصير الدين والفكر الدكتور طه حسين، فطلب أصول الكتاب من وزارة الثقافة، ولما اطلع عليه أعاده علينا مع خطاب، دحض فيه ما رماه الأزهر به، وصرح فى جلاء بأنه موافق للدين كل الموافقة، لا يخالفه ولا ينبو عنه فى شىء مطلقًا، وأنه مفيد فائدة كبيرة جدًا فى علم الحديث، وأن فى نشره الخير كل الخير والنفع كل النفع، وبذلك انحسم الأمر، وحصحص الحق، واتخذ الكتاب سبيله إلى الناس مطبوعًا لينتفعوا به، ولأهمية خطاب الدكتور طه حسين نشرنا صورته على غلاف الكتاب تبصرة لأولى الألباب». 

وتوقيع البيان: محمود أبورية فى ١٣ أكتوبر ١٩٦٩. 

لم يشر السيد مرتضى الرضوى إلى ما فعله الأزهر مع كتاب أبورية، لكنه أخبر بعض تلاميذه بأن الشيخ محمد أبوزهرة وكان من علماء الأزهر وأستاذًا للشريعة والقانون بجامعة الأزهر هو من تولى إعلان الحرب على «قصة الحديث المحمدى»، وأنه من كتب التقرير عنه، وبتأثير هذا التقرير تعطل نشر الكتاب لما يقرب من عشر سنوات. 

لم يكتف الدكتور طه حسين بكتابة خطابه إلى وزارة الثقافة لتفرج عن الكتاب، لكنه تولى الدفاع عنه من خلال مقال نشره فى جريدة الجمهورية أثناء رئاسته لتحريرها، وهو المقال الذى قال فيه إنه قرأ الكتاب مرتين ووصفه بأنه جهد وعبء ثقيل لا يقوم به فى هذه الأيام إلا القليلون. 

الجهد الذى بذله محمود أبورية فى دراسته للسنة المحمدية والحديث النبوى له جذوره، فقد صدر كتابه «أضواء على السنة المحمدية» فى العام ١٩٥٨، وبعد ذلك بعام واحد طلبت منه وزارة الثقافة أن يقدم لها كتابًا فيه ملخص له، وهو ما أنتجه تحت اسم «قصة الحديث المحمدى»، لكنه تعطل لعشر سنوات حتى صدر بدعم من الدكتور طه حسين.

المفاجأة أن محمود أبورية كان قد بدأ فى نشر رؤيته عن الحديث المحمدى قبل صدور «أضواء على السنة المحمدية» بما يقرب من ١٣ عامًا كاملة. 

فعندما كنت أبحث فى أرشيفه، وجدت له مقالًا فى مجلة الرسالة فى أغسطس ١٩٤٥ بعنوان «الحديث المحمدى»، قدم له بقوله: لنا أن نبحث عن تاريخ الحديث، وبعد درس طويل تهيأ لنا من هذا التاريخ كتاب سنقدمه للطبع، وهذه كلمة صغيرة عنه. 

فى هذه الكلمة الصغيرة بدأ أبورية بقوله: لما أنشأت أدرس دينى درس العقل والفكر، بعد أن أخذته تَلَقِّيًا من نواحى العاطفة والتقليد رأيت أن أرجع إلى مصادره الأصلية ومراجعه الأولى، ولما وصلت من دراستى إلى كتب الحديث كنت أجد فيها بعض أحاديث لا تسكن نفسى إليها، ولا يطمئن قلبى لصحتها، ذلك بأنها تحمل من المعانى ما لا يقبله عقل سليم أو يقر به علم ثابت، أو يؤيده حس ظاهر أو كتاب متواتر، وكنت أجد مثل ذلك فى كثير من الأحاديث التى شحنت بها كتب التفسير والتاريخ وغيرها. 

ويخبرنا أبورية بدافع آخر للبحث فيما وراء الحديث. 

يقول: وكان أكثر ما يثير عجبى أنى إذا قرأت كلمة لأحد أجلاف العرب أهتز لبلاغتها وتعترينى أريحية من جزالتها، وإذا قرأت بعض ما ينسب إلى النبى من قول لا أجد له هذه الأريحية ولا ذلك الاهتزاز، وكنت أستبعد أن يصدر مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة عن النبى الذى كان أفصح من نطق بالضاد، وما كان عجبى هذا إلا لأنى كنت أسمع من شيوخ الدين عفا الله عنهم: أن كل الأحاديث التى وردت فى كتب السنة قد جاءت بألفاظها ومعانيها، وإن على المسلمين أن يسلموا بكل ما حملت ولو كان فيها ما فيها. 

عندما قرأ أبورية حديث «من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» غمره الدهش لهذا القيد الذى يبعد أن يأتى من رسول جاء بالصدق وأمر به، على أن الكذب كما قال الحافظ بن حجر هو «الإخبار بالشىء على خلاف ما هو عليه سواء أكان عمدًا أم خطأ». 

يقول أبورية: ظللت على ذلك زمنًا طويلًا إلى أن حفزنى حب عرفان الحق إلى أن أنقب عن تاريخ الحديث من مصادر الدين الصحيحة، والأسانيد التاريخية الوثيقة لعلى أقف على شىء يذهب بما فى صدرى من حرج، ويصرف ما فى نفسى من ضيق، وذلك لأن هذا الأمر الجليل لم يفرد من قبل بالتأليف المستقصى أو التدوين المستفيض. 

كان هناك ما يشبه الخطة غير المعلنة لمحو سيرة محمود أبورية

لبث أبورية- كما يقول- فى البحث زمنًا طويلًا إلى أن انتهى من أمر الحديث النبوى إلى حقائق غريبة ونتائج خطيرة، ذلك أنه وجد أنه لا يكاد يوجد فى كتب الحديث كلها ما سموه صحاحًا وما سموه سننًا حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، حتى قال الإمام الشاطبى فى «الاعتصام»: «أعوذ أن يوجد حديث عن رسول الله متواتر»، ووجدت أن الصحيح منه على اصطلاحهم إن هو إلا معان مما فهمه الرواة من أقواله صلى الله عليه وسلم، وقد توجد بعض ألفاظ مفردة بقيت على حقيقتها فى بعض الأحاديث، ولكنك لا تجد ذلك إلا فى الفلتة والندرة، ومن أجل ذلك جاءت أحاديث الرسول وليس فيها من نور منطقه أو ضياء بلاغته إلا شعاع ضئيل. 

وصل محمود أبورية إلى قناعته تلك من خلال مجموعة من الشواهد، يمكن أن نشير إليها على النحو التالى:

أولًا: لم يجعل النبى لحديثه كتابًا يكتبونه عندما كان ينطق به، كما فعل ذلك بالقرآن، وبذلك تفكك نظم ألفاظه وتمزق سياق معانيه من أذهان السامعين. 

ثانيًا: نهى النبى عن كتابة غير القرآن أو تدوينه، فقال: لا تكتبوا عنى شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عنى غير القرآن فليمحه، وقد اتبع أصحابه طريقه وأطاعوا أمره فلم يكتبوا أقواله كما كتبوا القرآن. 

ثالثًا: ثبت عن الصحابة أنهم كانوا يرغبون عن رواية الحديث وينهون الناس عنها، وينتقد بعضهم بعضًا فيما يأتى منها، ويتشددون فى قبول أخبارها حتى لقد كان عمر رضى الله عنه لا يقبل الخبر من أى صحابى إلا إذا جاء بشاهد يشهد أن النبى قاله. 

بدأت رحلة محمود أبورية فى البحث عن أصول السنة النبوية مبكرًا إذن، وقد ترجم هذه الرحلة فى كتبه الثلاثة «أضواء على السنة المحمدية» و«قصة الحديث المحمدى» و«أبوهريرة.. شيخ المضيرة»، وهو ما عرضه لانتقادات كثيرة، وتم التضييق على هذه الكتب حتى لا يعرفها أحد وهو ما حدث بالفعل. 

لقد كان هناك ما يشبه الخطة غير المعلنة لمحو سيرة محمود أبورية والتعمية على كتبه ودراساته. 

على أحد المنتديات وجدت ما يشبه الفضح لهذه العملية. 

أزهريون تصدوا لكتاباته ولعنوها فى تقاريرهم وتدخلوا لحجبها ومنع نشرها

كتب أحدهم ويسمى نفسه «فتى الأدغال» يقول: من أعجب العجب أن يشتهر كتاب أبورية، فيصل إلى جميع جامعات أوروبا وأمريكا، وتنتهى طبعته الأولى ثم الثانية فى فترة وجيزة، ثم يموت الرجل، ولا تجد له ترجمة واحدة ولو يسيرة فى كتب التراجم، وقد نقبت فيها، وبحثت واستعنت بأهل الخبرة والبحث، فلم أقف له على أثر فى كتب التراجم مطلقًا، فانظر كيف عامله الله بنقيض قصده، وأخمل ذكره بعد إمعانه فى طلب الشهرة والبحث عن المنزلة والمكانة. 

ما يقوله فتى الأدغال لا يعكس حكم الله، بقدر ما يحكم تخطيط البشر. 

فقد تحالف على أبورية الجميع. 

أزهريون تصدوا لكتاباته ولعنوها فى تقاريرهم وتدخلوا لحجبها ومنع نشرها. 

وسلفيون انحازوا لرؤيتهم ورأوا أن ما يقوم به يعطل مسيرتهم ويخصم من أرصدتهم عند الناس، وعلى يديه تبور تجارتهم. 

وإخوان أيضًا، فمن بين من حاربوه كان مصطفى السباعى وهو مرشد الإخوان فى سوريا، فقد قال عنه: هذا هو أبورية على حقيقته، جاهل يبتغى الشهرة فى أوساط العلماء، وفاجر يبتغى الشهرة بإثارة أهل الخير، ولعمرى إن أشقى الناس من ابتغى الشهرة عند المنحرفين والموتورين بلعنة الله والملائكة والناس أجمعين. 

إننا أمام عملية إخفاء سيرة مجدد عظيم، كان يمكن البناء على ما قدمه فى دراسات السنة النبوية، وقد يكون ما نفعله هنا محاولة لرد اعتباره وتذكير الناس به، وأعتقد أن أفضل ما يمكننا أن نقدمه له ولمن يريدون أن يتعرفوا على أفكاره أن نعيد عرض بعضها هنا كما صاغها فى مقالاته وكتبه. 

سيكون بين أيدينا هنا عرض لمضمون مقالاته التى نشرها فى مجلة الرسالة فى الأربعينيات، ثم تقرير مطول عن كتابه الأشهر «أضواء على السنة المحمدية».. ثم نختم بعرض لكتابه المهم والمتجدد «دين الله واحد» وهو من الكتب التى لم تأخذ حقها لا فى عرضها ولا فى الاستفادة منها. 

لن نستطيع أن نوفى صاحب السيرة المخفية حقه، لكن على الأقل نحاول أن ننصفه ممن خذلوه وتآمروا عليه، واعتقدوا أنهم بذلك يمكن أن يدفنوه ويدفنوا كل ما أنجزه لخدمة الإسلام وتخليصه مما لحق به من افتراءات ما زلنا نعانى من تأثيرها حتى اليوم.

اقرأ في الملف:

دين الله واحد.. كشف الستار عن المعنى الحقيقى للإسلام

قصة الحديث المحمدى... «كعب الأحبار».. الصهيونى الأول فى التاريخ الإسلامى

أضواء على السنة المحمدية.. الغامض والواضح فى تدوين أحاديث الرسول