الخميس 31 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

ليلة سقوط الملك.. «20 سنة مع عبدالناصر».. شهادة مؤرخ فرنسى عن «23 يوليو»

حرف

- كان من المخطط قيام الثورة أوائل أغسطس ومكالمة «الملك هيعتقلكم» قدمت موعد التنفيذ

- الملك تلقى تحذيرًا يوم 20 يوليو: «الجيش غاضب.. ومجموعات تشكلت بهدف القضاء عليك»

- حوصر فى الفالوجة مع رجاله وصمد حتى النهاية

فى آخر حواراته الصحفية، قبل وفاته فى 2015، أكد المؤرخ والصحفى وكاتب السير الذاتية الفرنسى، جان لاكوتور، أنه أحب مصر مثلما أحب جمال عبدالناصر، معتبرًا أن البلاد كانت تتحرك نحو التقدم والنمو فى بداية عهد الزعيم الراحل.

ولعل هذا الرأى ما دفع «لاكوتور» لاختيار «حركية مصر» أو «مصر تتحرك» (L›Égypte en movement)، عنوانًا لكتابه عن ثورة 23 يوليو 1952، وصعود جمال عبدالناصر إلى الحكم، والذى صدر عام 1956، عن دار النشر الفرنسية «دو سوى/ Éditions du Seuil».

عمل جان لاكوتور فى بداية حياته المهنية محررًا دبلوماسيًا فى صحيفة «كومبات» الفرنسية، عام 1950، ثم مراسلًا فى صحيفة «لوموند» بعدها بعام، وصولًا إلى عمله بمكتب صحيفة «فرانس سوار» فى القاهرة، هو وزوجته «سيمون».

كانت تلك البداية على انخراطه فى الأحداث على أرض الواقع، حيث كان شاهدًا على ما جرى فى مصر، خلال واحدة من أهم فتراتها الأخيرة، ليكتب بإسهاب عن مصر و«عبدالناصر»، سواء فى الصحف والمجلات الفرنسية الكبرى، أو من خلال الكتب والسير الذاتية.

وإلى جانب «مصر تتحرك»، لدى الصحفى المخضرم كتابان عن الزعيم المصرى الراحل، وهى الكتب الثلاثة التى تستعرضها «حرف» فى السطور التالية بالتزامن مع الذكرى الـ73 لثورة يوليو 1952.

مصر تتحرك.. يوميات الثورة من «حفنة أوباش» إلى بيان «بنى وطنى»

يحلل الكتاب المهم «حركية مصر» أو «مصر تتحرك»، للصحفى والمؤرخ جان لاكوتور، والذى شاركته فى تأليفه زوجته «سيمون»، المشهد الاجتماعى والسياسى والاقتصادى لمصر أثناء وبعد ثورة ٢٣ يوليو.

ويقدم الكتاب، المكون من ٤٧٦ صفحة، تحليلًا شاملًا لمصر، بداية من انطلاق شرارة ثورة ٢٣ يوليو، التى أفرد لها المؤلف مساحة كبيرة، موضحًا أسبابها ونتائجها والشخصيات المحركة لها، وأهدافها المتمثلة فى إنهاء الحكم الملكى، وإقامة نظام جمهورى، ثم إنهاء الاحتلال البريطانى الذى دام ٧٤ عامًا.

ويستكشف الكتاب كذلك السنوات الأولى من حكم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، والتغيرات التى أعقبت ثورة يوليو، خاصة ما يتعلق بصعود القومية، والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، فإلى أبرز ما جاء فى الكتاب:

حنفة من الأوباش!

فى بداية صيف عام ١٩٥٢، كانت مصر تتأهب للثورة، هل نذكر شهر يوليو عام ١٧٨٩ فى فرنسا، عندما انحاز أونوريه جابرييل ريكويتى، المعروف باسم «الكونت دى ميرابو»، إلى جانب «الطبقة الثالثة»، متحديًا الطبقتين الأولى والثانية من رجال الدين والنبلاء، وأشعل فتيل الثورة الفرنسية، لكن هنا فى مصر كانوا يرتدون الزى الرسمى.

لم يخف سخط الناس على الملك فاروق عن الجميع، حتى فى محيط دائرته المباشر، فقد انتقد الأمراء وكبار الشخصيات تصرفاته علنًا. تصرفات «فاروق» التى كانت فى السابق تثير سخرية الشعب المصرى، لا تثير الآن سوى الاشمئزاز، ورحلاته فى أوروبا، حيث يتنقل من «كازينو» إلى آخر، وحيث يصبح هدفًا مفضلًا لسخرية وسائل الإعلام، تثير غضب المصريين.

فى القصر، تنظم مجموعة رثة من الوسطاء والخدم ليالى الملك، وتواصل إفساد الوزارات، وضمان التعيينات فى الجيش. ومن المعلوم أن الحقائب الوزارية ولقب «الباشا» وغيره تُدفع لها أثمان باهظة، ولا يتم البت فى أى أمر مهم إلا بمشاركة الملك. لم يعد هناك رجل فى القاهرة لديه زوجة جميلة، لا يخشى أن يأخذها إلى المكان الذى قد يأتى إليه «فاروق»، من الخطورة مقاومة نزوات الملك المتوج، الذى يبدو أنه يسكر بالفضائح، وينتحر بأفعاله، ويفقد كل أوهامه.

فى ٢ يوليو ١٩٥٢، أقال الملك حكومة أحمد نجيب الهلالى، متهمًا إياها بالسعى لبدء تنفيذ «برنامج التطهير». أصبحت الحياة السياسية المصرية فى هذا اليوم مجرد دوامة خيالية وسخيفة، مع صف من السيارات الفاخرة التى تتجول ذهابًا وإيابًا على طول الكورنيش، من كازينو «سان ستيفانو» إلى فندق «سيسيل»، ومن فيلات الزعماء السياسيين إلى مساكن الرؤساء السابقين والمستقبليين.

فى المقدمة سيارة حافظ عفيفى باشا، رئيس الديوان الملكى، الذى يبحث عن رجل يتولى رئاسة الوزراء، ويأتى بعد ذلك موظفو مجلس الوزراء، والنواب الذين يبحثون عن حقيبة وزارية، والصحفيون، وعدد قليل من السيدات من طبقة النبلاء. تتجول تلك الثلة من الباشوات والوسطاء والسياسيين وفاتحى الأبواب فى حيرة من أمرها إلى أن تولى رئاسة الوزراء حسين سرى للمرة الخامسة.

سمح حسين سرى بتعيين كريم ثابت، المستشار المفضل لدى الملك فاروق، فى منصب وزارى، وفى المقابل، حاول الحصول من الملك على تعيين جنرال غير معروف للعامة، لكنه محبوب من قبل الجنود ومُحترَم من قبل الضباط، كوزير للحربية، وهو اللواء محمد نجيب. 

لكن «فاروق» رفض اقتراح حسين سرى بشكل قاطع، وقال له إنه سيعهد بهذه المهمة إليه، ليمنحه الملك بذلك رئاسة الوزراء، ووزارتى الخارجية والحربية، رغم تورطه بشكل خطير فى قضية «الأسلحة الفاسدة»، ما جعله مكروهًا للغاية من قبل الضباط الشباب فى الجيش المصرى.

فى يوم ٢٠ يوليو، حذر حسين سرى الملك فاروق من أن مثل هذا القرار من شأنه تعريض النظام للخطر، وأن الجيش غاضب منه، وأن مجموعات من «المتآمرين» تشكلت بهدف لا يقل عن القضاء عليه، وأن إحدى هذه الحركات، التى أطلقت على نفسها اسم «الضباط الأحرار»، كانت على اتصال أكثر تحديدًا بالجنرال «نجيب».

كان «فاروق» يعلم هذا، بالتزامن مع قراره بإغلاق نادى الضباط بسبب انتخاب محمد نجيب رئيسًا له. وقال له حسين سرى: أمامك حلان لا ثالث لهما، إما تهدئة الجنرال الساخط من خلال عرض وزارة الحربية عليه، أو اعتقاله هو وأصدقائه، ليهز الملك كتفيه ويقول باستخفاف: «مجرد حفنة من الأوباش!»، وهو ما دفع «سرى» للتقدم باستقالته.

العقيد شيرين

فى ٢١ يوليو، زار الملك فاروق نجيب الهلالى مرة أخرى، لا بد أنه يشعر الآن باليأس، لأنه يعلم أن رئيس الوزراء السابق لن يعود إلا لتنفيذ برنامجه التطهيرى بشكل نهائى، وإخراج كريم ثابت من الحكومة. وبالفعل، بدأ رئيس الوزراء العائد، بعد ظهر هذا اليوم، مشاوراته انطلاقًا من رؤيته تلك.

على الجانب الآخر، ينظر الملك فاروق، وهو مستلقى على شاطئ «المنتزه» الرائع الذى أفسده بنزواته وحفلاته المسيئة، إلى البحر، وقد استشعر الهواء الكئيب، بعد أن استسلم لمعظم مطالب رئيس الوزراء، لكنه يفكر فى فرض قريبه، العقيد إسماعيل شيرين، على وزارة الحربية. ورغم افتقار الرجل إلى الموهبة والهيبة فى الجيش، اعتقد الملك أن هذا سيكون بمثابة تحد للساخطين والغاضبين.

تظاهر الملك فى البداية بأنه يريد أن يتولى مرتضى المراغى، وزير الداخلية، منصب وزير الحربية مؤقتًا، وفى ٢٢ يوليو، فى الرابعة والنصف عصرًا، دخل أعضاء حكومة «الهلالى» إلى قصر رأس التين لأداء اليمين الدستورية أمام الملك، لكن الـ١٥ رجلًا الذين يرتدون معاطف رمادية فجأة يرون سترة سوداء تظهر بينهم، وهى سترة العقيد «شيرين».

- سيدى، ماذا يفعل العقيد بيننا؟.. يسأل «الهلالى» الملك فاروق.

- سيكون وزيرًا للحربية.. رد الملك بضحكة عالية

هكذا فرض «فاروق» قريبه على وزارة الحربية. وعندما غادر الوزراء بعد ٢٠ دقيقة، كانوا مشغولين ويتحدثون عن «الأوقات الحرجة» و«الوضع المتوتر»، ومع ذلك مقتنعون بأنهم يحكمون مصر، دون أن يدركوا أن السلطة على وشك التغيير الكامل.

ففى منتصف ظهيرة هذا اليوم، انتقل محور السياسة المصرية فجأة من كورنيش الإسكندرية إلى ضواحى القاهرة، ففى حين أن الملك البدين، الذى يرتدى زى «أميرال»، يلهو بمرارة من خلال تدشين وإلغاء الوزارات، ويتقاتل ١٦ من السياسيين على الحقائب الوزارية، كانت مجموعة صغيرة من الضباط مشغولة فى صمت عند أبواب القاهرة المليئة بالدخان.

فى يوم ٢٢ يوليو ١٩٥٢، الخامسة عصرًا على وجه التحديد، وبينما الملك فاروق يأخذ حمامه، كان على بعد ٢٠٠ كم، فى منزل صغير بمنطقة منشية البكرى، إحدى ضواحى شرق القاهرة، يقف ٨ شبان يرتدون قمصانًا، أحدهم يقرأ بصعوبة مذكرة مطبوعة من ٦ صفحات، مليئة بالمصطلحات التقنية والشطب والتعليقات: «خطة الانتفاضة العسكرية»، المخطط لها ليلة الأول والثانى من أغسطس، قبل أن تدفع التطورات الأخيرة فى الإسكندرية لتقديم موعدها إلى الليلة التالية: ٢٢- ٢٣ يوليو.

فى السادسة مساءً، جمع نجيب الهلالى وزراءه فى فيلته الساحرة بالقرب من «المنتزه»، والتى كانت تتمتع بإطلالة هادئة على البحر. وفى العاشرة مساءً، وبينما كان سكان الإسكندرية يتناولون وجبة العشاء، ويتبادلون أطراف الحديث على الشرفات، بدأ «الضباط الأحرار» العمل فى القاهرة.

دخل ٣ ضباط من «سلاح الفرسان» إلى المنطقة، وأخرجوا بعض المركبات المدرعة بشكل سرى. وفى منتصف الليل، دخل اثنان من «الضباط الأحرار» إلى مكتب رئيس الأركان، وبعد صراع قصير، نزعا سلاحه واستوليا على المقر. وفى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، استولى ٧ من «الضباط الأحرار» على الإذاعة.

فى الرابعة فجرًا وصل محمد نجيب منتصرًا بعد المعركة، إلى ما أصبح الآن مقره الرئيسى، حيث يقف حوله «مجلس حرب» أولى يضم الضباط الذين عرضوا عليه للتو تولى السلطة.

فى الإسكندرية، ينبثق النهار فوق البحر، وكان هناك توتر غريب جعل الجميع مستيقظين، ثم فجأة، يأتى صوت من راديو السيارة: «بنى وطنى اجتازت مصر فترة عصيبة فى تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون والمغرضون فى هزيمتنا فى حرب فلسطين...» إلى آخر البيان الشهير.

مكالمة الإنقاذ

اختار «الضباط الأحرار» تنفيذ ثورتهم فى الأيام الأولى من شهر أغسطس لسببين، الأول هو الانتظار حتى بعد بداية الشهر بقليل لتلقى رواتبهم، والثانى هو انتظار عودة الوحدة الأساسية «فوج المشاة الـ١٣» من فلسطين. لكن العقيد ثروت عكاشة، أحد «الضباط الأحرار» يروى حكاية مغايرة مهمة.

يقول «عكاشة»: «فى ٢٠ يوليو، كنت أتناول الغداء فى منزلى مع المقدم حسين الشافعى، عندما رنّ الهاتف بنغمة بعيدة مميزة: كان صهرى ورئيس تحرير صحيفة (المصرى)، أحمد أبوالفتح، من الإسكندرية، يُبلغنى بأن الملك أعطى أمرًا باعتقال ١٤ منا (الضباط الأحرار)، توجهتُ فورًا إلى منزل عبدالناصر، الذى كان، كالعادة، يعجّ بالضباط، وحذرته، فتقرر حينها التحرك خلال ٤٨ ساعة».

فى يوم ٢٢ يوليو، كان الجميع هادئين، اللقاء الأخير من بين العديد من اللقاءات التى جمعت ١٠ أو ١٢ أو ٢٠ رفيقًا بشكل عشوائى أثناء الأزمات أو النقل أو المراقبة البوليسية. كان ذلك فى الرابعة عصرًا، فى منزل خالد محيى الدين بمنطقة منشية البكرى. ضم الاجتماع جمال عبدالناصر، وخالد وزكريا محيى الدين، وعبدالمنعم أمين، وكمال الدين حسين، وعبداللطيف بغدادى، وحسن إبراهيم، وعبدالحكيم عامر، الذين قرأوا الخطة الموضوعة بناءً على التوجيهات العامة لـ«عبدالناصر».

أنور السادات، الذى تم استدعاؤه بشكل عاجل من رفح، حيث يتمركز، يصل بالقطار فى المساء، ويتولى الشقيقان صلاح وجمال سالم، المتمركزان فى العريش، القاعدة المصرية الرئيسية المواجهة لإسرائيل، مسئولية العملية هناك. وفى السادسة مساءً، انقسم الضباط الأحرار، من أجل بدء العملية المنتظرة عند منتصف الليل.

لكن بعد ساعة، حذر النقيب سعد توفيق جمال عبدالناصر من أن رئيس الأركان، اللواء حسين فريد الذى كان اعتقاله أحد بنود الخطة دعا على وجه السرعة إلى مؤتمر استثنائى بالمقر الرئيسى، فى العاشرة صباحًا، وكان على ما يبدو على علم بما يجرى؟

- حسنًا.. سنبدأ قبل ساعة.. سنصطادهم جميعًا معًا.. قالها «عبدالناصر».

ينطلق فى سيارته الصغيرة «موريس ماينور» ليحذر رفاقه واحدًا تلو الآخر من أن تنفيذ الخطة قد تم تقديمه ساعة واحدة.

روى «عبدالناصر» منذ ذلك الحين، وبشىء من الفكاهة، كيف أنه مع خطتهم الجميلة بين أيديهم، لم يكد هو وعبدالحكيم عامر يغادران مكتبهما لبدء العملية، بعد الحادية عشرة صباحًا بقليل، إلا وصادفا حشدًا قويًا من المركبات المدرعة تتدحرج وتهدد، وكل أنوارها مطفأة، لقد وجدوا أنفسهم مكتشفين، ضائعين، وكانوا يستعدون لإطلاق النار فى حالة من اليأس، عندما ناداهم صوت مألوف فى الليل:

- مرحبًا أيها الإخوة، لقد أسرت بالفعل بعض السجناء.

كان المقدم يوسف صديق، المسئول عن التحكم بالمركبات الآلية، هو الذى تقدم بفارق بسيط. وبخلاف ذلك، فإن العملية سارت وفقًا للخطة إلى حد ما.

تحت قيادة العقيد أحمد شوقى، هاجم «الفوج ١٣ مشاة» المقر، الذى هاجمته الكتيبة الآلية الأولى بقيادة المقدم يوسف صديق نفسه، ودخل هذا الضابط إلى مكتب رئيس الأركان حسين فريد، برفقة عبدالحكيم عامر، ومسدسه فى يده، فرفض «فريد» الاستسلام، وقفز خلف ستار وأطلق ٣ رصاصات لا أكثر.

لكن مدرعات خالد محيى الدين حاصرت منطقة العباسية- القبة- منشية البكرى- مصر الجديدة، ونزلت دبابات حسين الشافعى إلى داخل المدينة، واحتلت نقاطًا استراتيجية، بما فى ذلك الإذاعة «حوالى الساعة ١:٣٠ فجرًا»، ومركز الاتصالات الهاتفية، والمطارات، ومحطة القطار، باستثناء معركة قصيرة عند مدخل المقر، قُتل فيها جنديان، انتقل الجيش والمدينة من أيدى «فاروق» إلى أيدى «الضباط الأحرار» دون قتال.

ناصر «الخجول» الذى تحدى العالم بضحكته

يعد جان لاكوتور من أبرز الصحفيين الفرنسيين المناهضين للاستعمار، وأشدّ المؤيدين لثورة ٢٣ يوليو، حتى إنه وقف فى مواجهة سياسات بلاده خلال العدوان الثلاثى على مصر، وتعلّق بشخصية جمال عبدالناصر إلى حدّ اعتبر فيه أن «الثورة وناصر» وجهان لحدث تاريخى واحد، وأن يوليو ١٩٥٢ تمثل لحظة ميلاد مصر الجديدة. 

فى نظر «لاكوتور»، تجسّد تراث «عبدالناصر» فى عبارته «ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد»، والتى ترمز إلى إنهاء الملكية والاستعمار وبداية عهد التحرر الوطنى، وكرّس جزءًا مهمًا من كتاباته لسرد سيرتين ذاتيتين عنه، استعرض من خلالهما رؤيته الخاصة لزعيمٍ أعاد تشكيل تاريخ المنطقة.

حصار الفالوجة

فى سيرته الذاتية «ناصر» التى صدرت عام ١٩٧١ عن دار «دو سوى»، يُقدّم جان لاكوتور، الذى عاش تفاصيل مصر كمراسل مخضرم، قراءة متعمقة لجذور ثورة ٢٣ يوليو من خلال شخصية جمال عبدالناصر. 

ويتناول الأسباب التى دفعت «ناصر» ورفاقه إلى التغيير، بدءًا من إخفاقات المحاولات المتكررة لنيل الاستقلال، مرورًا بالفساد المستشرى، ووصولًا إلى الاستغلال الممنهج لفلاحى مصر الذين كانوا يُعدّون من بين أكثر طبقات الريف فقرًا وخضوعًا، فى ظل سلطة نخبوية متواطئة مع الاستعمار البريطانى، وغير ذلك من الجوانب التى نستعرضها بقلم «لاكوتور» فى السطور التالية:

نشأ «ناصر» ابن ساعى بريد ريفى، فى هذه البيئة، وبرز فى نهاية الحرب العالمية الثانية ضابطًا عسكريًا شابًا هادئًا، ومنعزلًا تمامًا، ملتزمًا بالفعل بما أسماه «الهدف الأعظم»، وهو جعل مصر «قوية وحرة»، وبدأ بتجنيد أتباع له.

فجأة، فى ربيع عام ١٩٤٨، وجد «ناصر» نفسه فى حرب مع الإسرائيليين بفلسطين، وهو تدخل طالبت به الأغلبية العربية هناك بعد انسحاب البريطانيين، لكنه، على ما يبدو، جاء نتيجة نزوة مفاجئة من الملك فاروق المتلهف لتقاسم الغنائم.

كان المصريون غير مستعدين تمامًا، وغير منظمين، وقد تفوق اليهود عليهم مرارًا وتكرارًا فى المناورة والقتال، إلا أن «ناصر» الذى انعزل وحوصر فى حصار الفالوجة مع رجاله، صمد حتى النهاية، وكسب احترام العدو والصديق على حد سواء، هنا، وتحت قيادته، تشكلت حركة الضباط الأحرار، لتنفذ بعد أربع سنوات، فى يوليو ١٩٥٢، تحركها السريع وغير الدموى.

وكتب «ناصر» نفسه لاحقًا: «كنا نقاتل فى فلسطين.. لكن قلوبنا كانت فى وطننا، متروكة للذئاب التى حكمته.. كانت فالوجة أخرى على نطاق واسع.. مصر أيضًا كانت محاصرة بالصعوبات والأعمال العدائية، معرضة للخطر، ومُجبرة بخيانة على خوض معركة غير مستعدة لها، لعبة الجشع والمؤامرة والشهوة، متروكة بلا سلاح تحت نيران العدو».

لكن من اللافت للنظر أيضًا أن ندرك أن «ناصر»، الوطنى المصرى فى بداياته، لم تكن القضية الفلسطينية قضيته بعد، وأن اهتمامه الرئيسى كان معرفة كيفة التخلص من البريطانيين.

كانت خطة إصلاح «الضباط الأحرار» غامضة للغاية، وكانت هناك ٦ مبادئ متفق عليها: 

١- التخلص من البريطانيين وأتباعهم، ٢- القضاء على الاستبداد الإقطاعى لأقلية صغيرة تملك معظم الأرض، ٣- إنهاء سيطرة رأس المال على الحكم، ٤- إرساء المساواة الاجتماعية، ٤- إنشاء جيش شعبى قوى، ٦- إرساء ديمقراطية سليمة ونزيهة.

كان كل ذلك جديرًا بالثناء، وإذا قيست الإنجازات من حيث هذه الأهداف، فإن السجل ليس سيئًا للغاية فقد تم التفاوض مع البريطانيين للخروج من مصر عام ١٩٥٤ فى الوقت نفسه، واجه النظام الجديد تحديات داخلية خطيرة لسياسيى النظام القديم والرجعيين الدينيين المسلحين والراديكاليين، مثل جماعة الإخوان.

وتم تحقيق النقطتين ٢ و٣ بشكل كبير من خلال الإصلاح الزراعى الذى حدّ من الملكية الفردية للأراضى- ثروة مصر الحقيقية- مع توزيع مساحات شاسعة على صغار المزارعين، وفى عام ١٩٦١ تم تأميم البنوك وشركات التأمين والنقل والصناعات الثقيلة وتجارة القطن الحيوية، وكانت هذه الإجراءات خطوةً طويلةً نحو المساواة الاجتماعية.

تأميم القناة

فى الليلة التى أمم فيها «ناصر» القناة كنت حاضرًا ضمن الحشود أقوم بواجبى الصحفى، وفى السابعة مساءً، كان الليل يخيم ببطء على ميدان محمد على الشاسع بالإسكندرية، حيث تحيط حواجز أمنية بحشد من الناس، وهبت نسمةٌ لطيفة، ترفع معنويات جميع الحاضرين هنا، خاصة وأننا مررنا بواحدٍ من أشد الأسابيع حرارةً على الإطلاق. 

كنا نقف بالقرب من شرفةٍ سيلقى فيها الرئيس جمال عبدالناصر خطابًا قريبًا، ويبعد المكان عشرين مترًا فقط عن المكان الذى أطلق فيه محمد عبداللطيف، عضو جماعة «الإخوان»، ثمانى رصاصات على «ناصر» قبل عامين.

ظهر «ناصر» ومر من أمامنا، وصعد إلى المنصة، على ما يبدو، غير مكترثٍ بأى ذكرى للهجوم، ابتسم ابتسامةً خفيفة، أخذ الميكروفون وبدأ يخاطب الحشد، هذا ليس نوع الخطاب الذى اعتاده الناس. 

كان لـ«ناصر» نبرة شعبية، ويتحدث باللغة العامية، ويعلق الجمهور الحاضر على كل كلمة وكل فارق بسيط من كلماته، نبرته المتفائلة تأسرهم، جئنا إلى هنا متوقعين خطابًا ذا إيحاءات مأساوية، لكننا نجد بدلًا من ذلك خطابًا به لمسة من الدعابة.

اندهش بعض الصحفيين المصريين من هذا الأسلوب، فأخذوا يتمتمون «كويس أوى» فى سرهم. هذا الرجل الخجول، اكتشف أخيرًا كيف يخاطب الناس بروح الدعابة، وتصاعدت موجات من الضحك، لا صرخات الغضب، من ظلمة الميدان، وبدأت نبرته تتغير وهو يستعرض المشاكل التى واجهها مع يوجين بلاك، رئيس البنك الدولى، وأدلى بملاحظة غريبة: «ذكّرنى السيد بلاك بفرديناند ديليسبس».

وبلغ الخطاب ذروته، بمرارة وعنف وغضب، هاجم ناصر «الإمبرياليين الذين رهنوا مستقبلنا»، فى البداية، كان رد فعل الجمهور مترددًا، لكن فى لحظة إعلان «ناصر» تأميم القناة، غمر الحشد الحماس والذهول والحيرة فى آن واحد.

وكان رد فعل الناس من حولنا وفى الظلام الدامس فى الأسفل حماسيًا، ووقف الصحفيون الذين كانوا متشككين فى نظام «ناصر» على كراسيهم وصرخوا. غمر «ناصر» فجأةً ضحك لا يُقاوم، كان إعلانه صادمًا للغاية، وجرأته لا تُصدق.

وقناة السويس كانت ستمول مشروع سد أسوان. قبل ٤ سنوات، لكن فر الملك فاروق. والليلة أنتزعُ السيطرة على الشركة نيابةً عن الشعب المصرى. والليلة ستُدار القناة بأيدى المصريين! وردت الهتافات والصراخ على كلمات «ناصر» وضحكاته. ثم انسحب من المنصة، ونظر إليه المراقبون الأجانب القلائل بدهشة. لم يسبق لرجل أن زج بنفسه فى مهمة محفوفة بالمخاطر بهذه البهجة.

قبل ٣٠ دقيقة، بثت الإذاعة المصرية تلك الجملة: «ذكّرنى السيد بلاك بفرديناند ديليسبس». استجابت وحدات الجيش للإشارة المتفق عليها مسبقًا، واحتلت مقر شركة قناة السويس فى القاهرة، ومكاتبها فى الإسماعيلية، وبورسعيد، وبورتوفيق، والسويس، واتسمت العملية العسكرية بدقة تفوق التوقعات وركض سكان الإسكندرية المبتهجون على طول الكورنيش، بينما كانت الشاحنات المزودة بمكبرات الصوت تجوب الشوارع، وهى تبث الخطاب بصوت عالٍ.

وشهدنا الحماس فى القاهرة بعد يومين عندما عاد بطل مصر، يا له من تناقض بين التكنوقراطى الخجول سابقًا والرجل الذى وقف الآن فوق الحشد المبتهج، يلوّح بذراعيه، كان كبطل ملاكمة عائدًا منتصرًا إلى منزل طفولته. 

وسمعنا التعليقات نفسها فى كل مكان، من المقاهى الفقيرة إلى صالونات الطبقة المتوسطة: «ناصر فعلها! لقد هزم الدول التى حاولت تدميره. لقد انتظرت مصر هذا طويلًا! يجب أن نُظهِر دعمنا!» وعبّرت جميع أطياف الشعب المصرى عن مشاعر مماثلة لدعم «ناصر».

جمال عبدالناصر.. بطل يقود ويحلّق فى فضاء الإلهام والخيال

لم يكتف «لاكوتور» بكتابه عن «ناصر» الذى نشره عام ١٩٧١ بعد عدة أشهر من وفاته، لكن تبعه بكتاب آخر حمل عنوان «جمال عبدالناصر»، صدر عن دار النشر الفرنسية «بايار»، عام ٢٠٠٥، ضمن مجموعتها التى أصدرتها بعنوان «رجال الدولة العظماء».

فى هذا الكتاب الصغير الذى لم يتجاوز عدد صفحاته ٦٥ صفحة، قال «لاكوتور» إنه التقى جمال عبدالناصر فى مناسباتٍ عديدة، وراقب أفعاله عن كثبٍ لـ٣ أو ٤ سنوات، ثم عن بُعد -ولكن باهتمامٍ بالغ- لـ١٥ تالية، مؤمنًا بأنه بطل لكنه على الرغم من إنجازاته كان يخطئ أيضًا.

وقال المؤرخ الفرنسى: «إذا طُلب منى الحديث عن فضائل جمال عبدالناصر، فسأضعه فى فئةٍ مختلفة عن رجال الدولة التقليديين، هى فئة (الأبطال) بمعناها الإيجابى والسلبى. فرجل الدولة يُرسى ويُنظِّم، أما البطل فيقود ويحلّق فى فضاء الإلهام والخيال. ما يجعل عبدالناصر شخصية استثنائية هو أن نهجه كرجل دولة سبق دافعه البطولى، خلافًا لما اعتدنا عليه فى التجارب التاريخية المشابهة».