الجمعة 31 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

على هامش فوزه بجائزة أحد أعضاء تحكيمها إسرائيلى

اعتذر يا إبراهيم.. لا تكن وشاحًا لتجميل القبيح

إبراهيم نصرالله
إبراهيم نصرالله

- صار المثقف الفلسطينى أداة لتمرير أسوأ المشاريع التى يتخيلها العقل لتصفية القضية الفلسطينية

- أصحاب الجائزة يريدون الحوار مع ثقافة التطبيع والذوبان المعولم الذى يبقينا ذيلًا للمركزية الغربية

- أدعوه لرفض جائزة «نيوستاد» الأمريكية وألا يشارك فى غسل أيدى مموليها من دماء شعبنا التى لم تجف فى غزة

عرفت الشاعر إبراهيم نصرالله متأخرًا قياسًا بأبناء جيلى الذين كانوا يأتون من الكويت إلى الأردن للدراسة، أو المرور فى زيارات إلى الضفة الغربية، جاءنى أحدهم بعلبة أشرطة كاسيت لفرقة «بلدنا» التى كانت ذائعة الصيت فى ثمانينيات القرن الماضى، قال لى «بإمكانك إهداء محتوياتها لمن تحب» وشكرته على هديته.

كنت مشدودًا كغيرى من أبناء ذلك الجيل إلى ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وجدت فى كلمات نصرالله وصوت الفنان كمال خليل ما يحاكى تلك التجربة الفريدة فى الغناء الملتزم بقضايا شعوبنا، شغّلت شريط الكاسيت فى مكتبى صباح اليوم التالى، ورحت أستمع للأغنيات، أذكر أنها لفتت نظر السياسى الكويتى عبدالله النيبارى، وكان صاحب النصيب فى أول أشرطة العلبة.

زاد علمى بقرب ثنائى فرقة بلدنا من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من احترامى للفرقة وثنائيها، فقد كانت الجبهة ولم تزل التنظيم الأكثر تأثيرًا على رؤيتى للقضية الفلسطينية، قد أختلف مع سياساتها أحيانًا من موقع الحريص عليها، لكن الاختلافات تبقى حول التفاصيل لا الجوهر. 

أذكر لإبراهيم ديوانه «الفتى والنهر والجنرال» الذى وصلنى فيما بعد، لفت نظرى يومها أنه صاحب صوت شعرى مختلف، وجدت عمقًا إنسانيًا فى تجربته، ووعيًا للهم الوطنى والقومى، تعاملت مع الديوان بحماسة، وكتبت عنه محتفيًا فى مجلة الطليعة التى كنت أعمل فيها.

وجدته هادئًا، مهذبًا حين التقيته فى عمان مع بدايات التسعينيات، عززت دماثته احترامى له، ورأيت فى بداياته الروائية نتاجًا مختلفًا عما كان ينشر فى ذلك الوقت، يليق بشاعر متمرد على النمط، يمتلك صوتًا مختلفًا عن الموجود. 

كرسته إصداراته اللاحقة التى عنى من خلالها بالذاكرة الفلسطينية روائيًا مختلفًا عما أفرزه الزمن البيروتى الذى يثير حساسيتى، واستحق بإبداعاته حضوره الفلسطينى، والتقدير الذى لقيه فى الوطن العربى، والاهتمام العالمى بتجربته مع ترجمة كتاباته لعدد من اللغات. 

نصر الله مبدع عصامى، استطاع شق طريقه بجهده الذاتى، ووعيه، كان نتاجًا حقيقيًا لمخيمات اللاجئين، قدم مساهمات مهمة فى حفظ الذاكرة الفلسطينية، لم يتم تصنيعه فى المختبرات كما جرى مع البعض، أو الزج به لملء فراغ ما، أو لقطع الطريق على شاعر واعد أو روائى صاعد، ولهذه المعطيات اعتباراتها التى لا يجب أن نسقطها من الحسبان عند قراءة مساره الإبداعى.

تفرض هذه المعطيات على الذين ينظرون لتجربته بجدية التعامل معه بحرص عليه، وليس التطبيل له بوعى أو من غير وعى، ما أجبرنى على تعليق الجرس بعد الإعلان عن فوزه بجائزة نيوستاد الأمريكية. 

كان لدى عند تحذيرى له ودعوته إلى رفض الجائزة ما يكفى من الأسباب التى أراها منطقية، يتمثل أولها فى التوقيت، لم تجف دماء الأهل فى غزة بعد، ما زالت الأشلاء تحت الأنقاض، ولا يستطيع عاقل تجاهل الدور الأمريكى عند التطرق لجرائم حرب الإبادة، سواء كان ذلك بالدعم العسكرى أو الغطاء السياسى.

الحديث عن تورط الإدارتين الأمريكيتين فى تقتيل أهلنا يقودنا إلى حديث آخر حول الداخل الأمريكى، أعنى الإجراءات التى تتخذها السلطات الأمريكية بحق طلبة الجامعات الذين وقفوا ضد الحرب، والتضييق على نشطاء التواصل الاجتماعى المتضامنين مع الفلسطينيين الذى يأتى ضمن الحملة الإعلامية التى تشنها الإدارة الأمريكية وحكومة الكيان فى الداخل الأمريكى لتغيير الرأى العام.

سياقات الموقف تضعنا أمام تفسير محدد، لا يمكن تجاوزه بأى حال من الأحوال، وهو محاولة أصحاب الجائزة زعنى هنا ممولها وليس ستارها غسل أيديهم من دماء اأناء شعبنا فى قطاع غزة، الأمر الذى لا أقبله لروائى عربى يحترمه شعبه ويحترم قضايا أمته، ما بالنا بصاحب رواية الذاكرة الفلسطينية.

جاء فى إعلان الجائزة أنها تفتح المجال أمام التفاعل مع «الثقافة الفلسطينية»، وأضع تحت مصطلح الثقافة الفلسطينية خطًا أحمر، لا أؤمن بالثقافات الفرعية، هى ثقافة عربية واحدة تتفرع منها كتابات تجارب الناطقين باللغة عن قضايا بلدانهم التى لها امتداداتها فى البلاد الشقيقة المجاورة وغير المجاورة، يتداخل الهم الفلسطينى فيها مع المصرى والسورى والعراقى. 

يفتح الحديث عما يسمى بـ«ثقافة فلسطينية» جاءت نتاج عقود من القطرنة المبرمجة الباب أمام أسئلة أخرى لا حصر لها، من بينها ماهية «الثقافة الفلسطينية» التى يمكن الحديث عنها فى هذا المقام، صار لدى الفلسطينى ثقافات سياسية متعددة، متضادة فى بعض الأحيان، تستند إلى بنى اجتماعية واقتصادية، وفى هذا السياق أرجح أن أصحاب الجائزة يريدون الحوار مع ثقافة التطبيع والذوبان المعولم الذى يبقينا ذيلًا للمركزية الغربية ويعزلنا عن ثقافة الشرق التى انقطعنا عنها بفعل الهيمنة وليس ثقافة المقاومة التى تتيح لنا الاحتفاظ ببعض خصوصيتنا.

تكشفت معلومات أخرى بعد مخاطبتى لإبراهيم نصرالله عبر وسائل التواصل، أبلغنى أصدقاء من الاكاديميين والمترجمين اطلعوا على موقع الجائزة أنَّ فى لجنة تحكيمها لهذا العام كاتبة من الكيان الصهيونى ما زالت تحمل الجنسية الإسرائيلة مقيمة فى الولايات المتحدة، مولودة فى مستوطنة ريشون عتصيون، عاشت فى كيبوتس ناحل عوز، وخدمت فى جيش الاحتلال، اسمها مايا عاراد «Maya Arad»، تكفى مثل هذه المعلومات التى جرى تداولها لاحقًا عبر وسائل التواصل الاجتماعى والذكاء الصناعى لإعطاء جرع كبيرة من الريبة.

يعنى ذلك أن المتفاعل مع ما يسمى بـ«الثقافة الفلسطينية» سيكون من المستوطنين، ويعرف قارئ العربية والنشطاء الأجانب الذين يأتون للتطوع فى قطف زيتون الضفة الغربية ما الذى تعنيه الممارسات العدوانية للمستوطنين، ما يفتح بابًا للسؤال عن الإفرازات التى يمكن تتمخض عن التفاعل المنشود، الذى يراهن عليه المتحمسون لقبول الجائزة دون تدقيق فى خطورة الموقف، ويضعنا أمام خطر تحولها إلى جواز سفر لتسريع خطوات التطبيع مع الكيان. 

لم تفاجئنى ردود الأفعال على الدعوة التى توجهت بها إلى نصرالله من موقع الحرص على تجربته وإدراك قيمتها لأجيال من الفلسطينيين والعرب باعتبارها منجزًا من منجزات حفظ الذاكرة الفلسطينية المسباحة لكل أشكال التشظى والتغييب المقصود وغيرالمقصود، جاء بعضها من واقع انحياز البعض لنصرالله، ولا يمكننى إلا أن أقدر هذه الفئة من المنتقدين لأننى منحاز مثلهم لتجربته، وفى المقابل هناك بعض الردود المحكومة بمعطيات أخرى، أرصدها منذ تسعينيات القرن الماضى ولدى ما يكفى من الحجج والمعلومات للرد عليها، لكنى أتريث حتى لا افتح الباب أمام معارك جانبية تشغلنى عن مشروعى الروائى.

شرحت مقالات واشتباكات المرحوم غالب هلسا حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضى حالة نمط من المثقفين الفلسطينيين، أظهرتهم دون حجم قضيتهم الوطنية، لكن المياه الكثيرة التى جرت فى النهر خلال العقود الثلاثة الماضية أفرزت مثقفًا فلسطينيًا أكثر بؤسًا وإثارة للأسى، بعض ملامحه البحث عن مبررات لوهم التعايش مع المشروع الصهيونى المدجج بأدوات القتل والدمار، أو تحويل الكوفية الى وشاح يخفى شهية تسويق المحتل فى الشارع العربى، وربما شيطنة حق الشعوب فى مقاومة محتليها، وبالتالى صار المثقف الفلسطينى خلال العقدين الماضيين أداة لتمرير أسوأ المشاريع التى يتخيلها العقل لتصفية القضية الفلسطينية، تكريس القطرية، وتشويه حق الفلسطينيين فى مقاومة الاحتلال، وغيبت الانتهازية والخفة صورة المثقف المشتبك دفاعًا عن قضيته الوطنية وفضاءاتها القومية والإنسانية.

لم يكن إبراهيم نصرالله من هؤلاء المتهافتين، احتفظ الرجل برؤية نقدية، علمى به أنه من لون آخر، خامة مختلفة، تستحق الرهان عليها، وفى ذلك ما يدفعنى للرهان عليه حتى اللحظة الأخيرة، وتوقع ركله الجائزة، وإلقاء القفاز فى وجوه أصحابها، أتمنى ألا يخيب ظنى فيه.