الأحد 15 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز

خريجو «مع الأدباء الشبان»: هدى العجيمى وضعتنا على أول طريق النجومية

هدى العجيمى
هدى العجيمى

لم تكتفِ بجلوسها فى المكتب، وسِحر ألباب وقلوب المستمعين بصوتها الأثير، بل راحت، بحس ثقافى واجتماعى فريد، وإيمان قوى بأهمية أدوار الإذاعة، «تنقب» عن المواهب فى كل مجالات الأدب، ثم استضافتها فى برنامجها الأشهر «مع الأدباء الشبان» الذى ظل لسنوات طويلة منجمًا يزيل التراب عن لآلئ المحروسة فى «الشعر والرواية والقصة القصيرة».

إنها الإعلامية الكبيرة هدى العجيمى التى رحلت عن دنيانا قبل أيام، بعد مسيرة إذاعية حافلة، تحولت خلالها إلى ما يشبه «كشاف» المواهب، ليس فى كرة القدم كالمعتاد، بل فى الأدب بكل أنواعه، ليتخرج فى «مدرستها» الكثير من المبدعين الذين أصبحوا بمرور الوقت نجومًا ملء السمع والأبصار. 

فى السطور التالية، يتحدث عدد ممن استضافتهم الإعلامية الكبيرة فى برنامجها الإذاعى الأشهر.

 زين عبدالهادى: اكتشفت الكثير من نجوم الأدب

زين عبدالهادى

أصلنا البورسعيدى كان سببًا فى محادثات كثيرة عن تاريخ المدينة الباسلة، وفى العام الماضى تواصلت معى هاتفيًا للاتفاق على مناقشة عملها الروائى الأخير «سنوات الحرب والحظ»، وهو ما تم بالفعل، ثم أقمنا ندوة أخرى تحية وتقديرًا لها على منجزها الثقافى خلال أكثر من نصف القرن من الإبداع.

هى من أوائل المتخصصين الذين انضموا للإذاعة، بعد تخرجها فى قسم «اللغة العربية» بكلية الآداب جامعة القاهرة فى مقتبل الستينيات، حين اختيرت كفتاة وحيدة ومعها ١٩ شابًا للعمل بالإذاعة، كمحررة أخبار تحديدًا.

هى من كبار المثقفين المدركين الدور الاجتماعى للإذاعة، وكانت ترى فى الإذاعة المصرية قناة ومنصة اجتماعية يمكن أن تصل بين الموهوبين ونقادهم، وبناءً على ذلك قدمت برنامجها الشهير «مع الأدباء الشبان» الذى أصبح بوابة أدبية هائلة وشعرية لكل من الشعراء والروائيين وكُتاب القصة القصيرة.

فى هذا البرنامج، كانت تستضيف كاتبًا أو ناقدًا كبيرًا، وتدع الأديب الشاب يقول بعضًا من إنتاجه، ليعلق الناقد الكبير عليه، وهو ما سمح بإبراز كثير من المواهب المصرية فى السبعينيات والثمانينيات، منهم الشاعر عزت الطيرى، والراحل العزيز سعد عبدالرحمن، والكاتبة العزيزة هويدا صالح، والدكتور حاتم رضوان.

شاركت أيضًا الإذاعية الكبيرة صفية المهندس فى تقديم فقرات من البرنامج الشهير «إلى ربات البيوت»، وأخرجت واحدًا من أطول البرامج عمرًا فى تاريخ الإذاعة، وهو «عيلة مرزوق أفندى»، ولا أنسى لها كذلك برنامج «مشوار حياتى».

أصبحت هدى العجيمى واحدة من كبار النقابيين بانضمامها إلى مجلس إدارة اتحاد الكتاب، وظهر حب الجميع لها بحصولها على أعلى نسبة أصوات فى الاتحاد، قبل أن تختتم حياتها بعدة كتب، منها «قصة عشق» عن فترة عملها فى الإذاعة.

محمد حلمى حامد: أُم حنون.. ورحيلها خسارة لمصر

محمد حلمي حامد

يوم الخميس الماضى، نشر الناقد عادل ضرغام، عبر حسابه الشخصى فى «فيسبوك»، نعيًا للإذاعية والكاتبة هدى العجيمى، قال فيه «إن الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور، كتب فيها ديوانه الناس فى بلادى».. لكن هذا غير حقيقى بالمرة.

وفى كل الأحوال، عرفت الإذاعية الكبيرة الراحلة منذ عام ١٩٧٧، وقابلت معها شعراء كبار، مثل طاهر أبوفاشا وفاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة، ونقاد نقدونى فى الإذاعة، من بينهم وزير الثقافة الأسبق، الدكتور أحمد هيكل، والدكتور محمد حماسة عبداللطيف، والشاعر الغنائى عبدالفتاح مصطفى، والدكتور يسرى العزب، وفى المقابل، نقدت عشرات الأدباء فى عشرات الدواوين، عبر عقود من الزمن والمحبة.

هى سيدة فاضلة، وكانت أمًا حميمية تتابعنا بشكل يومى، خاصة بعد تطور وسائل الاتصال الحديثة. نحن جميعًا نفتقدها، نفتقد حنانها وقدرتها على متابعتنا جميعًا فى كل أنحاء مصر، بحب ودون تمييز، سنفتقد قدرتها على التحكم فى الذوق العام، وفيما يمكن أن يُقال أدبيًا لكل الناس، وما يمكن أن نتداوله ونناقشه فى الغرف المغلقة.

لقد فقدنا سيدة عظيمة حاول «بيت الشعراء العرب»، الصيف الماضى، تكريمها من خلال إقامة دورته السنوية تحت رئاستها، لكنها تغيبت لدخولها المستشفى، فوقفت وسط الحاضرين وذكرت مآثرها الجميلة.. خسارة السيدة الفاضلة هدى العجيمى خسارة لمصر كلها وللأدب وللأدباء.

هويدا صالح:حيادية فى اختيار المواهب ولم تخضع لـ«الشللية»

هويدا صالح

حينما قدمت من قريتى «أسمو العروس»، التابعة لمركز دير مواس بمحافظة المنيا، لم أكن أعرف فى عالم الإبداع والثقافة فى القاهرة سوى اسمين وقفا داعمين وبقوة للأدباء الشبان القادمين من أعماق مصر وقراها ومحافظاتها النائية.

الاسم الأول هو الأستاذ الصحفى والروائى محمد جبريل، عبر الصفحة الثقافية فى جريدة «المساء»، والندوة الأسبوعية التى داوم على إقامتها كل أربعاء فى مقر الجريدة، ثم انتقل بها بعد ذلك إلى نقابة الصحفيين.

سافرت وراء حلمى من المنيا إلى القاهرة، وتعرفت على الأستاذ محمد جبريل فى ندوته الأسبوعية، وصرت أحد أعضائها المواظبين على حضورها أسبوعيًا، ولسنوات طويلة، وبقى أن أقابل هدى العجيمى، وأحل ضيفة على برنامجها الداعم للأدباء والمبدعين.

مرت الأيام، وبإصرارى على الوجود فى الصفحات الثقافية بالصحف والمجلات، وجدت تليفون منزلى الأرضى يدق، وجاء صوتها رقيقًا وراقيًا وهى تدعونى لأن أذهب إلى الإذاعة ضيفة على برنامج «مع الأدباء الشبان».

خجلت أن أسألها من رشح اسمى لها، وجلست برفقتها، شابة صعيدية نحيفة فى ضيافة نجمة كبيرة عند الأدباء. برفقها ولينها وطريقتها الراقية أذابت كل مساحات الخجل. بدأنا الحديث الثقافى، وقرأت نصًا قصصيًا لى.

ما ميز هدى العجيمى وأسهم فى استمرار اسمها حتى الآن، رغم توقف البرنامج عام ١٩٩٦، هو حيادها فى البحث عن المواهب، ومهنيتها، وعدم خضوعها لمبدأ الشللية الذى أصاب الحياة الثقافية. كانت تبحث جادة عمن يستحق الوجود، إضافة إلى إنسانيتها ورقيها وتعاطفها مع الشباب الباحثين عن دعم.

لم تكن الإذاعية هدى العجيمى مجرد مقدمة برامج إذاعية شهيرة، أو واحدة من أبرز الأصوات الإذاعية المصرية فقط، بل امتد أثرها إلى العشرات من المبدعين والكتاب، شعراء وروائيين وكُتاب قصة، ممن قدمتهم إلى الملايين من القراء فى مصر والعالم العربى.

لم يكن لديها حسابات ولا مصالح، عند اختيارها ممن تقدمهم فى برنامجها «مع الأدباء الشبان» الذى كان بمثابة الضوء الذى يُسلَط على الكاتب الشاب فيعلن عن ميلاد نجم فى دنيا الثقافة والكتاب والإبداع. 

فى كل زيارة للقاهرة كان لا بد أن نزورها فى الإذاعة، بعدما استخرجت لنا تصريحًا دائمًا بدخول المبنى. وفى عام ١٩٨٤ دُعينا معها إلى بغداد لحضور «مهرجان الأمة الشعرى للشعراء الشباب»، وكانت فخورة بوجود تلاميذها معها، وفى المقابل كنا نتقاتل على حمل حقيبتها لنثبت لها محبتنا. 

خليل الجيزاوى: كانت تبادر بنفسها إلى الموهوبين

خليل الجيزاوي

الإعلامية الرائدة هدى العجيمى أسهمت فى تقديم معظم الكتابات الأولى لشباب الأدباء: رواية ومجموعة قصصية وديوان شعر، عبر برنامجها الأشهر: «مع الأدباء الشبان».

كانت تبادر بالاتصال بالأدباء الشباب لمناقشة أعمالهم الإبداعية، أو تسأل كبار الأدباء والنقاد عن أحدث الإصدارات اللافتة للشباب، وهو ما حدث معى شخصيًا، فى مجموعتى القصصية الأولى: «نشيد الخلاص». قرأت معظم قصص المجموعة فى ندوة الأستاذ الكبير محمد جبريل، إلى جانب ترشحها من قبل الدكتور مجدى توفيق كأفضل مجموعة قصصية صدرت عام ٢٠٠٠، فى استفتاء إذاعة «الشباب والرياضة».

بعدها، فوجئت باتصال من الأستاذة هدى العجيمى على تليفون منزلى، وبعد التهنئة بصدور المجموعة، أخبرتنى بأنها قرأت فى جريدة «المساء» مقال الأستاذ محمد جبريل الذى أشاد بها، وطلبت منى مناقشتها فى برنامجها «مع الأدباء الشبان».

سألتنى: «مَنْ الذى قرأ هذه القصص؟» فأجبت: «الأستاذ جبريل»، سكتت قليلًا، ثم أضافت: «طبعًا الأستاذ جبريل كاتب كبير. لكننى سجلت معه حلقتين، ولا أحبّ تكرار الناقد كثيرًا».

رشحت لها الدكتور مجدى توفيق، فقالت: «ممتاز، سأخبره الليلة وأتفق معه»، ثم سألتنى: «هل تحبّ أن تكون ضيفًا على البرنامج الأسبوع المقبل مع الدكتور مجدى»، فأجبتها مؤكدًا: «أنا أتابع البرنامج منذ أكثر من ٥ سنوات، ومن أحلامى أن أناقش أول أعمالى به»، فطلبت منّى اسمى كاملًا حتى تستخرج تصريح الزيارة ودخول مبنى الإذاعة والتليفزيون.

هذه هى الإذاعية العَلم التى تبحث وتسأل بنفسها عن الكتابات الأدبية الواعدة وتُقدّمها للحركة الأدبية من خلال برنامجها، وأشهد للتاريخ الأدبى أنّها قدمت مجموعتى القصصية برؤية نقدية واعية.

رغم مرور أكثر من ٢٥ عامًا على اشتراكى فى هذا البرنامج، أظل مدينًا لهذه الإعلامية الرائدة، التى سعت وراء البحث عن مجموعتى القصصية الأولى وقرأتها، ثم سألت الكاتب محمد جبريل عنها، قبل أن تناقشها عبر أثير الإذاعة، ويقدّمها الدكتور مجدى توفيق بدراسة نقدية متميزة. 

أحمد فضل شبلول: لم تترك أى مؤتمر لأدباء الأقاليم 

أحمد فضل شبلول

كنت واحدًا من المحظوظين بين شعراء جيلى، الذين أُذيعت بعض قصائدهم وتحدَّث عنها النقاد، فى البرنامج الإذاعى الشهير «مع الأدباء الشبان»، من إعداد وتقديم الإذاعية الكبيرة هدى العجيمى.

عندما صدر ديوانى الأول «مسافر إلى الله» عام ١٩٨٠، طلب منى الشاعر الكبير أحمد سويلم عدة نسخ لتوزيعها على المهتمين بالشعر فى القاهرة، ومن بينهم الإذاعية هدى العجيمى، فوجدتها تنوه عن الديوان فى إحدى حلقات برنامجها «مع الأدباء الشبان»، بل تعد حلقة عنه شارك فيها «سويلم».

زاد التصاقى أكثر بهذا البرنامج، قبل أن ألتقى مُعدته ومقدمته فى مقر اتحاد الكتاب، بعد التحاقى بعضويته عام ١٩٨٣، لأجدها إنسانة فى غاية اللطف والبساطة والحميمية، وعلى قدر كبير من الثقافة والمعرفة والإنسانية. كنا نلتقى دائمًا فى مؤتمرات أدباء الأقاليم، وتسجل معى ومع عدد كبير من المشاركين، ثم تذيع اللقاءات فور عودتها إلى القاهرة.

لم تكتفِ بالشعر إبداعًا ونقدًا، بل كانت تستضيف النقاد المتخصصين لمناقشة ما كنا نصدره من مجلات أيضًا، ومن بينها مجلة «فاروس للآداب والفنون»، التى أصدرتها مع عدد من الأصدقاء فى الإسكندرية، بداية الثمانينيات، وكانت الإذاعية الكبيرة تناقش ما فيها من شعر وقصة ومقال.

من خلال برنامج «مع الأدباء الشبان»، عرفت الكثير من الأسماء اللامعة التى أصبح أصحابها نجومًا فى ساحة الأدب والثقافة، من بينهم عزت الطيرى وجميل عبدالرحمن وفوزى خضر وفولاذ عبدالله الأنور وسامح درويش ودرويش الأسيوطى وحسين على محمد وصابر عبدالدايم ومحمد سعد بيومى ومحمد خليل ومحمد الراوى وسمير الفيل وفؤاد حجازى والسماح عبدالله، إلى جانب أسماء كبيرة فى الحركة النقدية، كانت هدى العجيمى تستضيفهم للحديث عن هؤلاء الأدباء الشبان، مثل الدكتور محمد حسن عبدالله ومحمد محمود عبدالرازق وأحمد محمد عطية ويسرى العزب وغيرهم.

لقد كان تأثير برنامج «مع الأدباء الشبان» علىّ كبيرًا، لدرجة أننى كتبت قصيدة بعنوان: «نحن الشعراء الشبان»، نُشرت فى مجلة «الجديد» عام ١٩٨٠، أقول فى مطلعها:

نحن الشعراء الشبان

نأتى كى نرعى هذا العالم

فى آخر أيامِ الإنسان

نأتى كى نبدأَ رحلتنا

داخل أغصانِ الزيتون

كى نكتب آهات المحزون

فوق عناقيد الماء

نحن الشعراء الشبان

وعندما التحقنا بعالم «فيسبوك»، كان للإذاعية الكبيرة صفحتها الخاصة، وسرعان ما تواصلنا معًا فى هذا العالم الافتراضى، فكانت تقرأ ما أكتبه على صفحتى، وأقرأ ما تكتبه على صفحتها، وتحكى ذكرياتها فى مدينتها الباسلة بورسعيد، وفى أروقة الإذاعة وعالم «ماسبيرو»، وكنت أحد الذين طالبوها بضرورة إصدار تلك الحكايات والذكريات الإعلامية المهمة فى كتاب يحفظها من النسيان، فكان كتابها الحكائى أو سيرتها الذاتية «سنوات الحرب والحظ».