باحث ألمانى زار مسقط رأس الأبطال وكتب شهادة تاريخية
أرض القديسين.. كتاب ألمانى عن «الشهداء الأقباط فى ليبيا»: من الذى منحهم كل هذه السكينة؟!

- الكتاب ليس توثيقًا صحفيًا فقط بل تأمل إنسانى ولاهوتى يمزج بين السرد الواقعى والتحليل الروحى
- المؤلف تناول المفارقة بين قوة إيمان الشهداء والفراغ الروحى فى الغرب المعاصر
- العمل لم يُكتب من خلف مكتب بل نتاج معايشة دقيقة لأهالى الضحايا
فى ذكرى استشهاد 21 قبطيًّا على يد تنظيم «داعش» فى ليبيا عام 2015، يطلّ علينا كتاب «رحلة إلى أرض شهداء الأقباط» كشهادة غربية نادرة تسجل الواقعة بعينى باحث أجنبى، وتكشف أبعادًا جديدة لهذه الجريمة التى هزّت ضمير العالم.
الكتاب، الذى صدر مؤخرًا بتقديم البابا تواضروس الثانى والأنبا دميان أسقف شمال ألمانيا، هو عملٌ للباحث الألمانى مارتن موزباخ، نقله إلى العربية وأثراه بتحقيقاته التوثيقية الدكتور ماجد عزت، الكاتب والباحث المتخصص فى الشئون القبطية.
وخلال حواره مع «حرف»، يكشف د. ماجد عن كواليس رحلة الكتاب، بدءًا من دوافع تأليفه فى الغرب، وصولًا إلى الجهد البحثى الذى بذله فى التحقيق والترجمة، والذى تجاوز مجرد النقل اللغوى إلى تحليلٍ لرؤية الغرب للحدث وتأثيره على الصورة النمطية للأقباط فى الإعلام العالمى.
كما يناقش دور الكتاب فى توثيق ملحمة الإيمان التى عاشها الشهداء، وكيفية تحوّل هذه الجريمة الوحشية إلى قصة إلهام عالمية، تطرح أسئلة حول التطرف والإنسانية، وتعيد تعريف معنى الشهادة فى العصر الحديث.

■ متى وكيف بدأت رحلة الكتاب حتى خرج من المطابع؟
- بدأت رحلة كتاب «شهداء ليبيا الـ٢١» للكاتب الألمانى مارتن موزباخ، كاستجابة لما وصفه كثيرون بلحظة مفصلية فى ضمير العالم: استشهاد ٢١ قبطيًا مصريًا على يد تنظيم داعش عام ٢٠١٥. ولم يكتفِ «موزباخ» بمشاهدة الحدث من بعيد، بل دفعه الفيديو الذى أراد له الإرهابيون أن يكون أداة رعب، إلى خوض رحلة شخصية لفهم عمق الثبات الروحى لهؤلاء الشهداء.
وبصفته رجل قانون، تساءل: من هم هؤلاء الرجال؟ من الذى منحهم هذه السكينة فى مواجهة الموت؟ ومن هنا بدأ رحلته. فسافر إلى مصر، عاش فترة فى القاهرة، التقى بمفكرين، وزار مقهى «ريش»، ثم توجه إلى قرية «العور» بمحافظة المنيا، حيث عاش معظم الشهداء. هناك أجرى مقابلات مع أسرهم، واستمع إلى شهاداتهم حول الحادثة، وشهد كيف امتزج الحزن بالفخر، والألم بالإيمان.
كما التقى برجال دين، من بينهم الأنبا بفنوتيوس، وكهنة ورهبان من الكنيسة القبطية، وبدأ يتأمل فى معنى الشهادة فى التقاليد المسيحية الشرقية، وهو بعد نادرًا ما يُتناول فى السياق الغربى.
الكتاب ليس توثيقًا صحفيًا فقط، بل تأمل إنسانى ولاهوتى، يمزج بين السرد الواقعى والتحليل الروحى والنقد الثقافى. تناول فيه «موزباخ»، بشكل خاص، المفارقة بين قوة إيمان الشهداء وما وصفه بـ«الفراغ الروحى فى الغرب المعاصر». وبعد عودته إلى ألمانيا، بدأ فى كتابة النص، واستغرق شهورًا فى مراجعته بدقة، حرصًا على احترام قدسية الشهادة وتجنّب أى إساءة أو استغلال.
وصدر الكتاب عام ٢٠١٨ عن دار نشر ألمانية مرموقة، وتُرجم لاحقًا إلى عدة لغات، منها الألمانية والإنجليزية. ولاقى اهتمامًا كبيرًا لما قدّمه من منظور نادر: كيف تتحول المأساة إلى شهادة، والموت إلى نور، والبسطاء إلى رموز عالمية للإيمان والشجاعة.
بهذا الشكل، غدا الكتاب أشبه بحجّ روحى إلى أرض الألم، خرج منه المؤلف بنص يمزج بين الوثيقة والتأمل، وبين التوثيق والإلهام. ونظرًا لما يحمله من قيمة فكرية وروحية وإنسانية، قمتُ بترجمته وتحقيقه إلى اللغة العربية، إيمانًا بأن رسالته تتجاوز الأطر الدينية والطائفية، وتتناول قضايا كبرى تمس واقعنا الاجتماعى والثقافى فى الشرق الأوسط. وشرفت النسخة العربية بمقدمة من البابا تواضروس الثانى، ومن نيافة الأنبا دميان، وطُبعت فى مطبعة دير مارمينا فى مايو ٢٠٢٥.

■ بجانب الترجمة توليت تحقيق الكتاب.. هل يمثل ما أجريته إضافة للنص الأصلى؟
- التحقيق فى هذا السياق لا يعنى إضافة أو تغييرًا فى النص الأصلى، بل جهد علمى وتوثيقى يضاف إلى الترجمة بهدف توضيح المعانى، شرح الخلفيات، وتيسير الفهم للقارئ العربى، خاصة أن الكتاب يتناول موضوعًا دقيقًا ومتشابكًا، دينيًا وثقافيًا وتاريخيًا.
«موزباخ» كتب يخاطب القارئ الغربى، يفترض أحيانًا معرفة مسبقة بتفاصيل غير مألوفة فى السياق العربى، سواءً فيما يخص التاريخ الكنسى، أو الرموز الطقسية، أو اللاهوتية أو السياق السياسى فى مصر وليبيا.
لذلك كان دور التحقيق يتمثّل فى: توفير هوامش توضيحية وخاصة للعديد من المصطلحات الألمانية التى كانت سائدة خلال القرون الميلادية الأولى فى ألمانيا، وأيضًا سياقات سياسية وتاريخية مرتبطة بمصر وليبيا أى تقاليد وعادات المجتمعات الشرقية. فالتحقيق أضاف للقارئ العربى الإشارات الضمنية للمراجع الدينية والأدبية والفكرية.
وفى الترجمة المحقّقة تم توضيح هذه الإشارات وإبراز مصادرها، ما يضيف قيمة أكاديمية وثقافية للنص المترجم، كذلك سد فجوات الفهم بين الثقافات الشرقية والغربية أو بمعنى أكثر دقة حاولت التقاء كليهما معًا والتقارب بينهما.
لذلك أسهم التحقيق فى تقديم تفسيرات رصينة وغير متحيزة تساعد على قراءة الكتاب بفهم أعمق وروح أكثر انفتاحًا. كما أن التحقيق حافظ على روح النص رغم كل الإضافات التوضيحية، الترجمة المحقّقة لم تمسّ بنية النص الأصلى أو نبرته، بل حرصت على نقل صوت الكاتب وأسلوبه وتأمله كما هو، مع توفير الأدوات التى تعين القارئ العربى على معايشة هذه الرحلة الإنسانية والروحية.
والتحقيق فى هذا العمل ليس إضافة إبداعية أو تأليفًا مشتركًا، بل جهد مصاحب لترجمة النص الأصلى بدقة ووفاء، يُسهّل فهمه ويعمّق أثره، خاصة حين يتعلق الأمر بكتاب يدمج بين الصحافة، والروحانية، والهوية الثقافية للمجتمع المصرى.

■ حدثنا عن مؤلف الكتاب مارتن موزباخ.. وهل سبق له أن تعاطى مع شئون عربية؟
- مارتن موزباخ وُلد فى مدينة فرانكفورت عام ١٩٥١، وبدأ حياته المهنية كمحامٍ، لكنه سرعان ما اتجه إلى الكتابة، ومنذ عام ١٩٨٣، نشر العديد من الروايات، إلى جانب القصص القصيرة، والقصائد، والنصوص الأدبية، بالإضافة إلى مقالات حول الفن والأدب، ورحلات السفر، فضلًا عن موضوعات دينية، وتاريخية، وسياسية.
وحصل على العديد من الجوائز، وهو عضو فى أكاديمية اللغة والشعر، والأكاديمية الألمانية للفنون فى برلين-براندنبورج، والأكاديمية البافارية لفنون شتاين.
وحاليًا، يعيش فى فرانكفورت. وكرجل قانون جذبته حادثة شهداء ليبيا، وهو من المهتمين بأمور الشرق الأوسط من حيث تاريخه، وسياسيته، ويعشق الفنون والآثار المصرية.

■ ما الجديد الذى قدمه الكاتب عن استشهاد ٢١ مصريًا فى ليبيا؟
- كتاب «موزباخ» لم يقدّم سردًا تقليديًا لحادثة استشهاد ٢١ مصريًا فى ليبيا، بل قراءة إنسانية عميقة لثبات الإيمان فى وجه العنف. رأى فى الشهداء رجالًا بسطاء من صعيد مصر، لا ضحايا خائفين، بل شهود لحقيقة روحية سامية. فى قرية العور، عايش الكاتب تفاصيل الحياة اليومية لعائلاتهم، وتوقف عند قوة الإيمان التى واجهوا بها الفقد، فطرح تساؤلات عن معنى الكرامة والمقاومة الهادئة. الكتاب لا ينحصر فى البعد الدينى، بل يتناول قضايا الفقر، الهجرة، والانتماء، ويقارن بين يقين الشرق وقلق الغرب.
ومن أبرز ما ركّز عليه الكاتب أيضًا هو رد فعل الدولة المصرية، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى جاء سريعًا وحاسمًا. ففى صباح اليوم التالى لبث الفيديو، نفذ الجيش المصرى ضربات جوية دقيقة على معاقل داعش فى سرت، ما ترك أثرًا نفسيًا عميقًا لدى المصريين، وأكد أن الدولة لا تترك أبناءها دون رد.
وأشاد «موزباخ» بدور القوات المسلحة فى حماية وحدة البلاد، واعتبر أن مصر واجهت وحدها الإرهاب، فى وقت تخاذلت فيه قوى كبرى، كما دعا من خلال تأملاته فى الشارع المصرى إلى إعادة الاعتبار للفنون، والموسيقى، والآثار، بوصفها مفاتيح للهوية وأدوات لمواجهة التطرف.
فى النهاية، يتحول الكتاب إلى شهادة حيّة على صلابة مصر، التى قاومت بالعقل والسلاح، وواجهت الظلام بالإيمان والثقافة.

■ إلى أى مدى تعكس نظرة مؤلف الكتاب رؤية الغرب عن استشهاد الـ٢١ مصريًا فى ليبيا؟
- يعكس كتاب مارتن موزباخ نظرة غربية نادرة تجاه حادثة استشهاد ٢١ مصريًا فى ليبيا، إذ تجاوز فيها السرد السياسى والإعلامى السائد، ليتأمل فى عمق التجربة الإنسانية والروحية لهؤلاء الشهداء.
لم يرَ فيهم مجرد ضحايا لعنف أعمى، بل شهودًا لحقيقة أسمى، واجهوا الموت بإيمان راسخ وكرامة صامتة. من خلال رحلته إلى قرية العور، اقترب الكاتب من واقع الناس وحياتهم، ولامس إيمانًا شعبيًا بسيطًا لكنه متجذر، قادر على الصمود فى وجه الوحشية دون أن يتحول إلى كراهية.
فى هذا السياق، بدأ موزباخ كرحالة حديث، يشبه كبار المستشرقين، لكنه تميز عنهم بنظرة منفتحة لا تبحث عن الفوارق، بل عن المشترك الإنسانى العميق. لم يكتب من خلف مكتب، بل استمع طويلًا، ونقل بدقة وأمانة ما عاشه، بعيدًا عن إسقاطات الغرب أو تفسيراته الجاهزة. وجه من خلال كتابه نقدًا ضمنيًا لمجتمعه، الذى بات يخجل من الإيمان، ويُفسر الشهادة كتطرّف لا كتجسيد للثبات. كما أبرز صورة مصر المتوازنة بين الفقر والكرامة، وبين التعدد الدينى والتعايش الواقعى، مؤكدًا أن هذا المشهد لا يُختزل فى الطائفية أو الخطابات المتشددة.

■ لك كتاب أيضًا عن الأب «متى المسكين» ما أبرز ما قدمته وكان مجهولًا عن هذا الراهب؟
- يقدّم هذا الكتاب الأب «متى المسكين» كشخصية فكرية وروحية لعبت دورًا محوريًا فى الحياة المصرية الحديثة، وليس فقط كرمز كنسى.
ويسعى العمل إلى نقل سيرته من الإطار الدينى إلى فضاء أوسع يتيح للقارئ العام التفاعل معها كتجربة مصرية شاملة، واستند الكتاب إلى وثائق ومصادر أرشيفية غير منشورة، وقدّم قراءة موضوعية بعيدة عن الانحيازات اللاهوتية.
وركّز على رؤيته لقضايا المواطنة، وتجديد الرهبنة، وعلاقته بالمثقفين وتفاعله مع السياسة والاقتصاد والثقافة، وعالج فكره الإصلاحى فى علاقة الكنيسة بالدولة وموقفه من الحداثة، وتعاملاته فى البرية مع الرهبان والبدو.
وأبرز الكتاب كيف انفتح الأب «متى المسكين» على العالم دون أن يتخلى عن أصالته الروحية، ويُعيد العمل قراءة تاريخ مصر الحديث من خلال شخصية أثرت فى السجال الفكرى والاجتماعى، فأسهمت أعماله فى تطوير الفكرين المسيحى والعربى، وأصبحت محل اهتمام أكاديمى دولى، والكتاب ليس سيرة دينية تقليدية، بل دراسة لفكر وتجربة إنسان أسهم فى تشكيل الوعى المصرى، إنه توثيق لشخصية جمعت بين التأمل الرهبانى والانخراط العميق فى قضايا العصر.
■ ألفت أيضًا كتاب «الأرمن على ضفاف النيل».. ما الذى يميز «أرمن مصر» عن غيرهم فى العالم؟
- الكتاب يُبرز خصوصية التجربة الأرمنية فى مصر، ويؤكد أن ما يميز أرمن مصر عن غيرهم فى العالم هو عمق اندماجهم الصادق فى المجتمع المصرى، دون أن يفقدوا هويتهم الوطنية أو الثقافية.
فمنذ أن فتحت لهم مصر أبوابها، سواء بدافع الاختيار أو نتيجة للظروف التاريخية القاسية، وجدوا فى مصر وطنًا آمنًا احتضنهم بكرم شعبه، فبادلوه بالإخلاص والعمل الجاد والمساهمة الفعالة فى جميع مناحى الحياة.
وتميّزوا بأنهم لم يعيشوا على هامش المجتمع، بل أصبحوا جزءًا أصيلًا من نسيجه الحضارى، مشاركين بفاعلية فى مجالات الاقتصاد، والفنون، والتعليم، والتجارة، والهندسة والطباعة، بل وشغلوا مناصب رفيعة بفضل كفاءتهم وولائهم.
■ ماذا عن كتابك «وثائق رهبان دير سانت كاترين»؟
- يُعد الجزء الأول من وثائق دير سانت كاترين «١٢٥٩–١٥١٦م»، الذى قمت بترجمته ونشره، إضافةً نوعية للمكتبة العربية، حيث يوثق التفاعل التاريخى بين الرهبان والدولة والمجتمع فى سيناء. ويتألف الكتاب من ٥٥٨ صفحة، ويكشف عن تفاصيل الحياة اليومية للرهبان، وعلاقاتهم بالسلطات المملوكية، والبدو، والحجاج، وتجارتهم فى بيئة صحراوية معقدة. وتبرز الوثائق الدور المتعدد للرهبان فى الحماية والتنقل والسياسة المحلية، ما يعكس تكامل البعد الدينى والاجتماعى والسياسى.