لا تسلموا المتطرفين مفتاح الكرار!..
انتفاضة المثقفين ضد إغلاق «قصور الثقافة»: المريض يُعالج.. لا نطلق عليه الرصاص! (ملف)

- المسئولية لا تقع على وزارة الثقافة وحدها بل على وزارة «التعليم» و «الشباب» أيضًا
- المواقع التى تشتمل على: نوادى أدب وفِرق مسرحية، لن تُغلق
لا حديث فى الوسط الثقافى الآن سوى عن «إغلاق قصور وبيوت الثقافة»، بعد قرار للدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، بإغلاق 123 بيتًا ومكتبة ثقافية مؤجرة، وإعادة توزيع العاملين الموجودين بها فى عدد من المواقع الثقافية.
المبررات التى ساقها وزير الثقافة لقراره تبدو منطقية، وعلى رأسها أن بعض هذه البيوت لم يؤد الدور الذى أُنشئ من أجله، بالإضافة إلى استئجار بعضها وفق قانون الإيجارات القديم، وسيتم إخلاؤه وتسليمه لملاكه خلال عامين، مع تشديده فى الوقت ذاته على أنه لن يتم إغلاق أى موقع ثقافى «نشط يؤدى دوره».
لكن فى المقابل، رفض عدد ليس بالقليل من المثقفين قرار وزير الثقافة، معتبرين أنه «انسحاب للدولة من أحد أهم ميادين المعركة ضد التطرف»، ومشيرين إلى الدور المهم لبيوت وقصور الثقافة فى اكتشاف عدد كبير من مشاهير الأدب والفن فى مصر على مدار سنوات طويلة.
كيف يرى المثقفون قرار الوزير؟ وما الحلول التى يرونها لمواجهة الأزمات التى تعانى منها بيوت وقصور الثقافة، ويمكن أن «تعالجها» بدلًا من «بترها»، خاصة مع إجماع منهم على تحولها إلى «رجل مريض» منذ سنوات؟!
صبرى فواز: نحتاج لمضاعفة أعدادها وإدارتها بالشباب

الثقافة الجماهيرية، التى تتمثل فى قصور الثقافة وبيوتها والمكتبات التابعة لها، موضوع مهم وخطير، لأنها الجدار الأخير فى حربنا ضد الظلام، ومن بين جدرانها خرج العشرات من المبدعين، فى شتى مجالات الإبداع والثقافة والفنون، من بينهم نجوم كبار فى تاريخ مصر.
الجدار الأخير فى حربنا ضد الظلام وخرّجت كثيرًا من نجوم مصر
لدينا ٥٦٣ بيت ثقافة ومكتبة ونادى أدب على مساحة الجمهورية كلها، يعمل منها بالفعل ٢٢٠ موقعًا فقط. بينما هناك ٣٤٣ موقعًا لا تعمل وعاطلة عن تقديم الخدمة المنوطة بها. هذه الــ٣٤٣ موقعًا لا تعمل لأسباب مختلفة، بينها ما هو مغلق من ٣ سنوات بحجة الصيانة، كما فى الفيوم، وبينها ما هو معطل بدون أسباب معروفة، كما فى المنصورة وكفرالشيخ.
من بين الــ٣٤٣ موقعًا، هناك ١٢٣ تريد وزارة الثقافة غلقها، وسمعت من وزير الثقافة عن أسباب هذا الغلق، ومن بينها أن بعض هذه الأماكن ضيق، والآخر مهدم تمامًا أو مؤجر، بينما جزء ثالث لا يعمل منذ شهور.
شخصيًا لدىّ تجربة طويلة مع الثقافة الجماهيرية، وواحد من أبنائها قبل أن ألتحق بأكاديمية الفنون، أعرف كواليسها وتفاصيلها، وأعرف أن هناك قصور ثقافة تُخرج نورًا ومواهب طوال الوقت، وأخرى لا تعمل، ولا يريد الموظفون فيها العمل.
نريد أن نضاعف عدد قصور الثقافة الـ٥٦٣، لا أن نغلق ١٢٣ منها، وهذا يستدعى معرفة مصدر الأزمات، هل الميزانيات؟ لماذا لا يبدأ المسئولون عن العروض المقدمة فى هذه الأماكن التعاقد على إعلانات، مثل بقية الأنشطة فى الدولة، وأعتقد أن أى مُعلن سيرحب بأن تكون له إعلانات موزعة عبر ٥٦٣ موقعًا ومكانًا فى الجمهورية.
أما قصور الثقافة التى لا يرغب موظفوها فى العمل، لماذا لا نستبدلهم بشباب راغب فى التطوع لقيادة هذه الأماكن، خاصة مع وجود العديد من الشباب المخلصين للثقافة، ويمكنهم الانتقال بقصور وبيوت الثقافة إلى منطقة مميزة. أعرف من بينهم- على سبيل المثال-: آيات عبدالدايم وهيثم السيد ومحمد فوزى وفيصل الشناوى، والذين يعملون عمل مؤسسة بحالها، وكأنهم «بيوت ثقافة متنقلة».. افتحوا لهم قصور الثقافة التى لا تعمل و«هما يشغلوها».
نحتاج إلى مضاعفة قصور الثقافة الموجودة ١٠ أضعاف، لتكون قادرة على خدمة ١١٠ ملايين مصرى. دعوا الشباب يقودون هذه الأماكن، ولن يكون هناك حمل على الدولة أو ميزانياتها، خاصة أن هؤلاء الشباب يتبرعون بعملهم، ويمكنهم الوصول لكل الناس بسهولة، ولا يطلبون سوى أن تُفتح لهم قصور الثقافة ليقدموا الخدمة الثقافية للجمهور.

وائل السمرى: «رغيف ثقافى مدعم».. ومبررات غلقها غير واقعية

الأسباب التى يسوقها وزير الثقافة كمبرر للتنازل عن ١٢٣ بيتًا وقصرًا للثقافة «غير واقعية»، خاصة مع سعى الوزارة إلى الاستغناء عن هذه المواقع دون توفير بديل، رغم كونها تمثل «الرغيف الثقافى المدعوم» الذى تقدمه الدولة للمواطن. ورغم أنها ليست النموذج المثالى، تُبقى المواطن «حيًا ثقافيًا».
التنازل عنها تنازل عن أذرع للدولة
عندما تتنازل وزارة الثقافة عن ١٢٣ بيتًا وقصرًا للثقافة هى فى الحقيقة تتنازل عن ١٢٣ ذراعًا من أذرع الدولة، لأن الدولة تُوجَد فى ربوع الوطن بخدماتها، ووزارة الثقافة تقدم خدمة ثقافية، كما تقدم وزارة الصحة خدمة طبية، وتقدم وزارة الداخلية خدمة أمنية.
التذرّع بأن موظفى قصور الثقافة لا يؤدون عملهم بكفاءة، وبالتالى يجب غلق هذه المنافذ، حجة واهية. فهؤلاء الموظفون أنفسهم سينتقلون إلى أماكن أخرى، ربما أبعد، دون معالجة جوهر المشكلة.
الأماكن التى تقول الوزارة إنها مُجَبرة على تركها بحكم القانون هى فى معظمها مؤجرة من جهات حكومية «المحافظة أو المحليات»، أى أن «الحكومة استأجرت من الحكومة!»، وبالتالى على الدولة أن تجد البديل أو تعدل العقود «منها فيها».
الوزارة تزعم أن لديها العديد من قطع الأراضى التى يمكن إنشاء بيوت ثقافة عليها، وهذا غير دقيق، إذ إن هناك بيوت ثقافة أُنشئت بالفعل على أحدث طراز، ومُجهزَة بمسارح وسينمات وقاعات رسم ومكتبات، لكنها مغلقة لأسباب غير مبررة. الأَوْلى أن تُعاد هذه البيوت إلى العمل قبل غلق البيوت الحالية.
الوزارة ترفض قبول تبرعات المواطنين لإنشاء بيوت ثقافة بجهود ذاتية، كما حدث فى اقتراح الكاتب الراحل حمدى أبوجليل بإنشاء قصر ثقافة فى إطسا. على الوزارة أن تغتنم الفرصة الآن لفتح حوار مجتمعى حقيقى للنهوض بقصور الثقافة، والاستماع إلى أبناء هذه القصور والمثقفين المصريين، وإطلاق حملة قومية لإنعاش الحياة الثقافية.

مصطفى البلكى: «شرفات نور» مهمة وليست رفاهية

بيوت الثقافة فى البنادر الصغيرة تمثل شرفات نور، لو تم العمل من خلالها طبقًا للرؤية التى تعتبر الثقافة ونشر الجمال من أهم وسائل بناء الإنسان. بدلًا من التفكير فى إغلاقها يجب العمل على تطويرها. العلاج فى التطوير وليس فى الإغلاق. التطوير ابتداءً بتأهيل الفرد المُشرف عليها، وانتهاءً ببرامج حقيقية تنفع الناس. الثقافة ليست رفاهية، ونشرها واجب على الدولة، وبمساعدة كل مثقف، وهذا يصب فى تنمية الوعى لدى كل فرد، المفردة الأهم فى بناء الأوطان.
ضحى عاصى: ينبغى تطوير «المتوقفة»

فى الأول والأخير، القرار الصادر قرار الوزير، ونحن كأعضاء مجلس نواب لا نستطيع دفعه لتغييره، لكن نستطيع إقالته، إذا اجتمعت الأغلبية «ثلثا الأعضاء» على ذلك.
نحن كسلطة تشريعية لا تستطيع تخطى الحدود المنوط بها اتباعها. لذا إن لم يصوت ثلثا أعضاء مجلس النواب على إقالته، لن نستطيع إجباره على تغيير القرار. الوزير أرسل إلينا البيان الخاص بالقرار، والأمور ستتضح أكثر فأكثر الأسبوع المقبل.
رأيى الشخصى هو استمرار الأماكن التى تعمل بالفعل، مع العمل على تطوير البقية التى تعانى من أزمات، خاصة أن ذلك لن يحتاج إلى ميزانية كبيرة.
هدى العجيمى: أين يذهب الشباب؟

خبر الغلق حزين جدًا. أشعر بحزن شديد على هذه القصور، التى أُنشئت واستمر عملها سنوات طويلة لاستيعاب إبداعات الشباب، وخلق فعاليات ثقافية لهم.
كم فرحت فى إحدى زياراتى عندما وجدت قصر ثقافة يمتلئ بالجمهور العادى من أجل مشاهدة مسرحية يقدمها الشباب على مسرح هذا القصر. قابلت مئات الشباب المُبدعين الرائعين فى هذه القصور، والتى لولاها لما عرفت وقدمت فى الإذاعة مئات من الأسماء الممتازة المبدعة، التى أثرت الحياة الثقافية على مدى سنوات ماضية.
عندما تُغلَق قصور الثقافة، أين يذهب الشباب؟ أى نشاط آخر يقوم به الشاب الفقير وهو محروم من الأندية الرياضية والاجتماعية، لعدم وجودها فى كثير من المدن أو لأسعارها المرتفعة؟. لذا الموضوع يحتاج لدراسة متأنية وعلى أعلى مستوى، وإذا كانت بعض قصور الثقافة آيلة للسقوط مثلًا، نفكر حينها فى بديل لها.
أشرف الصباغ: هل يكون الحل فى «إلغاء وزارة الثقافة»؟

ما يجرى فى وزارة الثقافة وحولها، وموضوع تقليص عدد بيوت الثقافة موجع وفظيع، ويغرقنا فى «الروبة» درجة إضافية إلى أسفل. لكننا الآن أمام أمر واقع، لن يجدى أمامه أى تكرار أو ترقيع أو استرجاع للتاريخ، ولا أى نواح و«ولولة».
وزارة الثقافة أُنشئت لأهداف معينة قبل ٧٠ عامًا، ولتحقيق أهداف معينة أيضًا أُنشئت «الثقافة الجماهيرية» ببيوت ثقافتها ونشاطاتها. فإذا لم تتحقق هذه الأهداف طوال ما يقرب من قرن، فهناك مشكلة حقيقية. وإذا تحققت الأهداف جزئيًا، فهناك أيضًا مشكلة، لأن قرنًا من الزمان جدير بأن تتحقق فيه تراكمات وأرصدة مادية روحية تصلح لأن تكون انطلاقات لتطورات أخرى، ولو حتى كل ١٠- ١٥ سنة. لكن الواقع يشير إلى أننا لم نتحرك كثيرًا عن خمسينيات القرن العشرين، مهما اختلفت لغة الخطاب أو زاد سمك طبقة «البودرة» و«الماكياج» التى نضعها على وجوهنا «الثقافية».
هناك دول ليست بها وزارات ثقافة لكن بها مسارح ودور سينما وأوبرا
بالطبع، يمكننا أن ننتقى مشروعات، أو نركز على منجز، أو سلسلة كتب. لكن الحديث يدور عن سياق عام، وحركة ثقافية شاملة تتحرك بنشاط وحيوية، أفقيًا ورأسيًا، وليس عن خطوات أحادية نسعى لتعميمها نظريًا، وتحويلها إلى صور ذهنية نعيش عليها ونخدع أنفسنا، ونسعى للريادة دون وجه حق، ودون قدرة، ودون منجز حقيقى شامل.
نعم، لا بد من إلغاء وزارة الثقافة بالشكل الذى هى عليه الآن. ولكن ما هو البديل؟ نعم لا بد من تقليص بيوت الثقافة بالشكل الذى هى عليه الآن، ولكن ما البديل؟
البحث عن البدائل يتحرك على مسارين: مسار حوار داخلى بين النُخب، وبين النخب والدولة، وبين مؤسسات الدولة نفسها، ومسار خارجى يتطلب جمع أكبر قدر من التجارب فى دول مختلفة لديها هيئات ثقافية متنوعة. وللعلم فالاتحاد السوفيتى الذى نقلنا عنه الكثير، ومن ضمنه وزارة الثقافة وبيوت الثقافة، لم يعد موجودًا. وروسيا تخلصت من كل ذلك.
بالتالى، علينا أن نطلع على تجربة روسيا، وتجربة فرنسا، وتجارب دول ليست فيها وزارات ثقافة، ودول أخرى بها وكالات وهيئات ثقافية. ثم نحدد مهام الهيئة أو الوكالة التى نريد أن نستحدثها، مثل أن تتولى تخطيط السياسة الثقافية للبلاد، وتدير التعاون الثقافى مع الدول الأخرى، وتقوم بالتنسيق بين الهيئات والمؤسسات الثقافية فى البلاد. وبالطبع يجب ألا نخلط بين مهام المؤسسات الثقافية، وبين الثقافة نفسها، ولا نخلط بين عمل المؤسسات الثقافية، وبين العملية الثقافية وآليات توطين الثقافات المتنوعة.
لا بد من حوار داخلى لبحث هذا الأمر وبسرعة، وفى جدول زمنى واضح ومحدد، بدون «لكاعة»، مع وجود ضمانات بتنفيذ نتائج الحوار. ولا بد من دراسة تجارب بعض الدول وبدون تلكؤ أيضًا. ثم العكوف على نتائج المسارين والعمل سريعًا، بدلًا من التسويف والاستهتار والكسل والبلادة، والبحث عن مصالح خاصة على حساب المصلحة العامة. أعتقد أننا فى منتصف عشرينيات القرن الواحد والعشرين.
هناك دول ليست بها وزارات ثقافة، لكن بها مسارح ودور سينما ودور أوبرا ومتاحف، و«كونسرفتوارات» وصالات عرض للفنون التشكيلية، وصالات رقص مختلفة.. وهناك دول وضعت مثلًا دار الأوبرا والمسرح القومى والمتحف الرئيسى تحت الإشراف المباشر لجهاز الرئاسة، حتى تكون خارج «البيروقراطية» الحكومية، وراحت تدير بقية المؤسسات وفق رؤى معينة أكثر حداثة ومعاصرة، وأكثر نفعًا ماديًا وروحيًا.
إذا كانت وزارة الثقافة وبيوت الثقافة و«الثقافة الجماهيرية» قد ظهرت فى ظروف معينة من أجل «مجتمع نام»، فإن هذا المجتمع لم يتغير طوال السبعين أو الثمانين عامًا الأخيرة، وظل مجتمعًا ناميًا، على الرغم من تطور الكثير من المجتمعات التى كانت أكثر تخلفًا منه. فماذا فعلت وزارة الثقافة ببيوت ثقافتها؟ ولماذا لم يحدث ذلك التراكم المفيد والبنَّاء الذى كان من الضرورى أن يدفعنا إلى الأمام؟
لن نختلف كثيرًا على الإلغاء أو الهيكلة أو الخصخصة الكلية أو الجزئية. لا ينبغى أن نختلف على المصطلحات وكأننا فى حرب ضروس مهمتها الأولى هى تحديد المصطلحات، بينما الواقع أسوأ بكثير مما نتصور. أعتقد أن الأمر الأكثر عملية وجدوى هو البدء بالعمل، وليس إثارة الشوشرة والارتباك والمناقشات «البيزنطية» وتسجيل المواقف، أو الانتقامات الشخصية وتصفية الحسابات.

محمد حلمى حامد: دعوا «الإصلاحيين» يزيلون العناكب

أجد منطقًا واضحًا فى قرارات الوزير بإغلاق بعض هذه البيوت، إما لعلاقتها الإيجارية بأصحابها، أو لضيق الأماكن وتطرفها وعدم ارتياد الجماهير لها. قرأت فى بعض الصحف آراءً لأشخاص وأدباء أحترمهم كثيرًا ينتقدون هذه الإجراءات. لكننى طوال عقود طويلة من العمل الثقافى، تصل إلى نصف قرن، لم أشهد واحدًا منهم فى أى قصر ثقافة، كبيرًا أو صغيرًا!.
أؤيد قرارات الوزير بشكل كامل، وأرى أهمية الاستمرار فيها، وقياس الأنشطة الثقافية على التغيرات الحديثة فى المجتمع، ودخول عناصر لاعبة جديدة فى الحياة اليومية، مثل «الإنترنت» والحواسب والهواتف الذكية.

هناك أنشطة كثيرة وهمية لم تعد تلائم أنماط الحياة الآن. ونحتاج إلى مراجعة أنشطة القصور المتخصصة، مثل ثقافة المرأة وثقافة الريف، إلى جانب تطوير نوادى الأدب التى أصبحت «منفرة» للأدباء الحقيقيين والمحققين.
كل ما أقوله لزملائى المثقفين: اتركوا الفرصة لـ«الإصلاحيين» لكى يؤدوا واجباتهم، ثم احكموا عليهم لاحقًا. أما «كسر مجاديفهم» قبل أى فعل إصلاحى فهذا ضد الطبيعة. دعوهم يطورون، دعوهم «يزيحون العناكب» عن أركان الثقافة.
مجدى القشاوى: نهدم «الأساسات» لبناء أدوار عليا!

فى السنوات التى قضيتها أعمل بالصحافة، كانت الصفحة الثقافية هى المرشحة للتأجيل حال حصول الجريدة على صفحة إعلانية، أو وجود حدث رياضى يستدعى زيادة عدد صفحات الرياضة. ويبدو أن هذا حال الثقافة الفعلى فى مصر، بعيدًا عن التعبيرات التى فقدت معناها من كثرة تكرارها مثل: القوة الناعمة، والمكانة الريادية، وقاطرة التنوير.
الوزير أحمد هنو والمقربون منه يتحدثون عن خطة شاملة بُنيت على دراسات معمقة لإعادة هيكلة وتطوير قطاع الثقافة الجماهيرية «وزارة الثقافة الفعلية». والتطوير المزعوم، الذى وصفه أصحابه بـ«اقتحام المشاكل ووضع حلول جذرية لها»، جاء باقتراح إغلاق عدد كبير من بيوت الثقافة والمكتبات، بهدف توفير مصاريف استئجارها، وأجور العاملين بها، وبدعوى عدم ملاءمتها لاستيعاب الأنشطة والفعاليات.
مدهش هذا الفكر وهذا الحديث بدرجة لا تُصدّق، وكأنهم لا ينتبهون أنهم يخاطبون مثقفى مصر ومفكريها. إن كانوا يملكون خطة بأماكن أكثر ملاءمة، فليبدأوا بها أولًا، ثم يتبع ذلك التخلى عن بيوت الثقافة وإغلاقها.
فلتتقدم الوزارة بإنشاء مقارها، ونحن فى هذه الحالة فقط على استعداد لسماع أى حديث. وما دون ذلك، ستبدو قراراتهم إغلاقًا متعمدًا للنوافذ التى يصفونها بـ«الصغيرة» ويتركونا للاختناق.
فى محافظتى دمياط، هُدم المسرح القومى منذ عشرات السنين، بعدها تم إغلاق قصر الثقافة الرئيسى بعاصمة المحافظة بذات الدعوى الممجوجة «التطوير»، والنتيجة أن القصر مغلق منذ سنوات، وجميع الأنشطة معطلة. التطوير المزعوم يشبه قرارًا بهدم الأساسات والأدوار السفلية بدعوى بناء أدوار عليا معلقة يسمح ارتفاعها برؤية النيل. كوميديا سوداء بدأت بغلق قاعات السينما، وتقليص الأنشطة المسرحية والميزانيات المخصصة لها، ثم التخلى عن مشاريع النشر العظيمة التى أثرت الحركة الأدبية وكشفت عن المواهب فى كل الأقاليم، بدعوى النشر الإلكترونى. كل الأحاديث وهمية، ولا تغدو إلا كمسكّن أو كمخدّر يخفف من قرارات تقترب من تعمّد الإفقار الثقافى. أى تعاون مزعوم مع وزارة التربية والتعليم المثقلة بمشاكلها؟ فى بداية توليه الوزارة، تفاءل الكثيرون بالفنان د. أحمد هنو، كمثقف وفنان، وحتى الآن لم تظهر أى ملامح لمشروع ثقافى يليق بمكانة دولة كبرى مثل مصر.
حسام الحداد: انسحاب للدولة من أحد أهم ميادين المعركة ضد التطرف

الحديث عن تطبيق القانون رقم ١٠ لسنة ٢٠٢٢ بشأن إخلاء الوحدات المؤجرة للأشخاص الاعتبارية، لا يجب أن يتحول إلى ذريعة لإغلاق مراكز ثقافية دون توفير بدائل مستدامة وفعالة. الإصلاح لا يكون بالغلق، وإنما بإعادة التوظيف الذكى لتلك المواقع، وضخ روح جديدة فيها عبر برامج ميدانية مؤثرة.
ما قاله رئيس هيئة قصور الثقافة عن «موظفين فى مواقع ضيقة لا يقدمون الخدمة المطلوبة»، يكشف خللًا إداريًا أكثر مما يبرر قرارًا بالإغلاق. الإصلاح الإدارى كان يجب أن يكون بتطوير الكادر، لا التخلص من المواقع.
هل المطلوب أن ندفع ثمن فشل السياسات الثقافية القديمة، بأن نُفقر المشهد الثقافى أكثر؟ وهل يمكن حقًا مواجهة الفكر المتطرف، والموروث السلفى المتغلغل، وشعبوية «السوشيال ميديا»، بسيارات كتب متنقلة و«أوركسترا رقمية»؟ الثقافة لا تُختصر فى منتج، بل فى فضاء اجتماعى حىّ، تُبنى فيه علاقات إنسانية وتُعاد فيه صياغة الوعى الجمعى.
ما طرحه رئيس الهيئة من بدائل، مثل القوافل الثقافية، وتطبيقات اكتشاف المواهب، ومزادات لبيع الأعمال الفنية، يعكس افتقادًا لروح المشروع الثقافى الوطنى المتكامل. فالثقافة ليست «خدمة» تؤدى من خلال تطبيق رقمى أو تذكرة دخول سينما، بل مشروع لبناء الإنسان فى العمق، لاستهلال عصر جديد من التنوير والمصالحة مع الذات الوطنية.
فأين الخطط لتمكين المسرح المحلى فى القرى؟ أين برامج التوعية التى تواجه خطاب الكراهية باسم الدين؟ أين مشروعات رد الاعتبار للثقافة الشعبية، وإعادة بعث الرموز الوطنية من نسيان المدارس والتلفاز؟ وأين السياسات الثقافية التى تتكامل مع التعليم والإعلام والدين؟ لا نجد شيئًا من هذا.
فى مجتمع مثقل بالاستقطابات، وتحديات العنف الرمزى والمُسلح، لا يمكن أن تكون الثقافة على هامش السياسات الحكومية. الإرهاب لا يُولد فى السلاح فقط، بل فى العقول المهجورة من الوعى النقدى، وفى الفراغات المعرفية التى تملؤها خطب دعاة الظلام، لا فرق بين منبر ومنصة «تيك توك».
المراكز الثقافية ليست مبانى، بل نقاط تماس مع المجتمعات المحلية، وتاريخها، وأحلامها، وهويتها الوطنية. غلقها- حتى إن بررته قوانين الإيجار- هو إقرار بانسحاب الدولة من أحد أهم ميادين المعركة ضد التطرف والتفكك المجتمعى. الثقافة ليست رفاهية، هى أمن قومى.
هناك عدة مقترحات بديلة لمسار الغلق كالتالى:
تدوير المواقع بدلًا من غلقها: يمكن استخدام المراكز الصغيرة كفروع لمراكز أكبر، يتم فيها تنظيم ورش محلية، وعروض صغيرة، ومقار إدارية خفيفة تدير القوافل الثقافية فى الأحياء. شراكات مع المجتمع المدنى: يجب فتح المجال أمام منظمات المجتمع المدنى، والجامعات، والمبادرات المستقلة، لإدارة بعض المواقع الثقافية مؤقتًا، وفق اتفاقات تضمن الاستمرار، لا «الخصخصة».
برنامج وطنى للمتطوعين الثقافيين: تجنيد آلاف الشباب فى مشروع قومى لإعادة الحياة لقصور الثقافة، بمقابل رمزى أو تطوعى، من خلال تدريبهم على الفنون، والبحث، والعمل المجتمعى.

تمويل مجتمعى تشاركى: إطلاق مبادرة تتيح للأهالى، والمجالس المحلية، المشاركة فى تمويل صيانة وتطوير قصور الثقافة التى تقع فى نطاقهم، لتكون ملكًا مجتمعيًا حقيقيًا.
دمج الثقافة فى الخطاب الإعلامى والدينى والتعليمى: لا جدوى من قصور ثقافة بدون توازى الجهود مع مناهج التعليم، وخطب الجمعة، وبرامج التليفزيون العام.
خلاصة القول:
ما تحتاجه مصر اليوم ليس غلق قصور الثقافة، بل فتح أبوابها أكثر من أى وقت مضى. الثقافة هى الحصن الأخير أمام سطوة الجهل والعنف والتمييز. وهى المجال الوحيد القادر على بعث الأمل فى وعى الشباب، وتغذية أحلام الناس بحياة أكثر عدلًا وكرامة.
يجب ألا تكون الثقافة ضحية تقشف، ولا رهينة لإرث «بيروقراطى» عقيم، بل قضية حياة. فإما أن نعيد الاعتبار لها كمشروع وطنى شامل، أو نستعد لمجتمع بلا ذاكرة، بلا خيال، وبلا مناعة ضد الفوضى.
ممدوح حبيشى: الانسحاب فى صالح المتطرفين

قصور الثقافة لها دور كبير جدًا فى الحياة الثقافية، خاصة فى الأقاليم والمناطق البعيدة عن المدن المركزية. أتذكر وأنا ما زلت طالبًا فى نهاية المرحلة الإعدادية، عندما بدأت أمارس الكتابة، توجهت إلى نادى أدب قصر ثقافة بنى سويف، وكان له عظيم الأثر فى توجيهى، سواء فى الكتابة أو القراءة.
ما حدث معى حدث مع الآلاف من مبدعى ومثقفى الأقاليم، وموهوبين فى مجالات مثل الموسيقى والمسرح. لذا كل إغلاق لقصر أو بيت ثقافة خسارة كبيرة. بينما الحفاظ على ما يمكن من هذه المواقع استثمار حقيقى.
بالنسبة للحلول البديلة، أرى إمكانية البدء فى التنسيق بين وزارة الثقافة والأحزاب أو الجمعيات الأهلية الموجودة فى المواقع المقرر إغلاقها لاستمرار الأنشطة فيها، سواء تحت إشراف «الثقافة» أو بإشراف مشترك مع هذه الجهات. لكن الانسحاب من هذه المواقع خسارة لا يمكن تعويضها، بل سيتم تعويضها بأفكار متطرفة.

محمد صالح البحر: كثير من المُطالبين ببقائها لا يدخلونها أصلًا

نستطيع أن نقول بكل ثقة: «الدنيا قامت ولم تقعد إلى الآن» بسبب غلق المواقع الثقافية المؤجرة من هيئة قصور الثقافة، وهى ليستْ قيامة موحدة، بل انقسمتْ إلى قسمين، ربما أكبرهما وأعلاهما صوتًا القسم المُعارض.
يمثل غالبية أفراد القسم المعارض مثقفون يتعاملون مع أنشطة الهيئة، بينما تمثل قيادات الهيئة التى اتخذتْ القرار الجانب الآخر، وربما يقف معهم بعض المثقفين الذين يقطعون بانتهاء دور الهيئة فى الواقع، وينادون بضرورة إصلاحها، أو حتى استبدالها إذا لزم الأمر.
فى غِمار أمواج الطوفان المتبادل بين القسمين، أكدتْ «قصور الثقافة» أن المواقع التى تشتمل على: نوادى أدب وفِرق مسرحية، لن تُغلق، الأمر الذى اعتبره القسم الأول انتصارًا يلوح فى الأفق، كأن الموقع الثقافى لا يكون موقعًا ولا يقدم ثقافة إلا إذا احتوى بين جدرانه على نادى أدب أو فرقة مسرحية، فيما يعتبر القسم الآخر أن انتصارهم يتحقق فعلًا بإجراءات الإخلاء الفعلى التى تتم لبعض المواقع.
وعندما نُدقق النظر فى الهدف الحقيقى الذى تكمن وراءه قيامة القسمين، سنرى أن كليهما له نفس الهدف، الذى يتجلى فى أنه لا يمكن أن يكون هناك إصلاح أو تطوير، دون بقاء الهيئة بكامل أنشطتها الثقافية التى نشأت معها، وأنفقت عشرات السنين من عمرها لتشمل كل مكان تقريبًا فى ربوع مصرنا الحبيبة.
حقيقة الأمر التى لا يختلف عليها مثقف أو مبدع، أن هيئة قصور الثقافة، وربما الكثير من هيئات وزارة الثقافة، باتت بحاجة ماسة إلى إصلاح وتطوير، وأن آليات عملها لم تعد صالحة لمواكبة التغيرات الكبيرة والعميقة التى أصابت المجتمع، فلم تعد الهيئة، بكل مواقعها وأنشطتها، مصدرًا مهمًا لتقديم الخدمة الثقافية، أو اكتشاف المواهب، أو ممارسة الفنون وتعلمها، مقارنة بما تُتيحه التكنولوجيا الحديثة، وتقدمه الجمعيات الأهلية ومراكز الشباب والمدارس والجامعات.
لذا باتت معظم المواقع التابعة لهيئة قصور الثقافة خاوية، حتى إن كثيرًا من المبدعين، ومنهم كثير من المعارضين للقرار الأخير، عازفون منذ أمد بعيد عن ممارسة إبداعهم بها، وربما لا يدخلونها من الأساس، إضافة إلى أن التوسع فى إنشاء المواقع الثقافية خلال الربع قرن الأخير صار عبئًا ثقيلًا على الهيئة، التى تناقصتْ فيها أعداد الموظفين مع الوقت، سواء بالخروج على المعاش أو الوفاة، أو بالانتداب إلى مصالح حكومية أخرى لأسباب كثيرة.
الخلاصة أن وجود الهيئة العامة لقصور الثقافة مهم، ومهم أيضًا أن نعرف كيف نصلحها ونطورها، لتواكب متطلبات العصر الذى لا يكف عن التغير، ولن نصل إلى هذه النقطة إلا بالحوار الجاد الواعى الجامع لكل الأطراف.
أسعد سليم: استخدام مدارس ومراكز شباب كبيوت ثقافة

الفن والثقافة السبيل الدائم لتقدم الأمم، وهناك إجماع عالمى على أن الفنون والعلوم الإنسانية السبيل الأمثل لتأهيل الشعوب، وتكوين العقول البشرية، ومنها تنبثق الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وبينما يسير العالم أجمع وفق هذه المفاهيم التى باتت مُسلّمات، نجد أنفسنا نخالف هذا النهج، ويقرر وزير الثقافة إغلاق حوالى ١٢٣ بيتًا وقصرًا للثقافة فى محافظات مختلفة بداعى غياب الأنشطة أو عدم انتظام الموظفين المعينين فيها. مصر تمتلك تاريخًا ثقافيًا مُلهمًا لا يزال يمثل قوتها الناعمة المؤثرة، ويأتى معالى الوزير بقرارٍ يسعى لـ«محو هذا التاريخ بجرة قلم». مؤلم أن يكون المسئول عن الثقافة هو من يهدمها!
إذا كان قرار الإغلاق اتُخذ بالفعل وأصبح لا مفر من تنفيذه، أدعو إلى استخدام جزء من المدارس ومراكز الشباب فى كل قرية كبيوت أو قصور ثقافة. هذه فكرة قد تكون بديلًا مناسبًا، إذا بُحثت بعناية ونُفذت بجدية.
أشرف أبوجليل: القرار مخالف للدستور والقانون

القرار الذى أصدره رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة، مُستندًا إلى توجيهات الوزير، باطل بحكم مواد الدستور، وعلى رأسها المادة ٤٨، التى تنص على أن «الثقافة حق لكل مواطن، وتكفل الدولة دعمه وإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها دون تمييز، مع اهتمام خاص بالمناطق النائية والفئات الأكثر احتياجًا»، والمادتان «٤» و«١١» اللتان تنصان على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين.
القرار أيضًا باطل بحكم قانون إنشاء الهيئة، الذى ينص على أن «من أهداف الهيئة المشاركة فى رفع المستوى الثقافى، وتوجيه الوعى القومى للجماهير»، وعلى أن «رئيس مجلس إدارة الهيئة معنى بتحقيق أهدافها»، فهل تحقيق أهداف الهيئة يأتى من إغلاق مواقعها؟

يستهين القرار كذلك بحيثيات إنشاء المواقع الثقافية، فكل مكتبة صادر لها قرار إنشاء خاص، وافق عليه مدير عام ورئيس إدارة مركزية ورئيس هيئة ووزير ثقافة، بما يجعل لدينا ١٢٣ وثيقة معتمدة من أكثر من ١٥٠ مدير عام و٦٠ رئيس إدارة مركزية و١٠ وزراء ثقافة، يضرب رئيس الهيئة برؤاهم وقراراتهم عرض الحائط.
وما يكذب كل المبررات أن إغلاق المكتبات جاء بعده قرار بـ«حصر الأماكن المتوسطة التى يمكن الاستغناء عنها لإقامة فصول رياض أطفال تابعة للتربية والتعليم»، ثم تلاه توجيه آخر بـ«حصر القصور الكبيرة لاستغلالها كمتاحف»، ما يعنى أن الموضوع لا علاقة له بمواقع صغيرة ولا كبيرة، بل هو تصفية لـ«الثقافة الجماهيرية».
عمرو العادلى: ضريبة ترك الشباب بلا معرفة غالية

أنا ضد القرار، لأن المسألة الثقافية لا يمكن أن تُقاس بمبدأ المكسب والخسارة، ولا يقبل أبدًا إغلاق بيوت الثقافة، ثم نبحث عن البديل، فالبديل تطويرها وليس إلغاؤها. إن كانت المسألة فى قانون إيجار هذه البيوت فهذه ليس بمعضلة. من الغرابة مقارنة إيجار عدة أماكن بضريبة ترك الشباب صغير السن بلا معرفة، فأغلب جيلى تربى فى قصور الثقافة.

سفيان هلال: يمكن نقل أنشطتها لمجالس المدن

القرار كمن صعب عليه علاج مريض فقرر التخلص منه وقتله. الإغلاق يترك فراغًا ثقافيًا فى مساحات واسعة، خاصة فى عدم وجود بدائل. عندنا فى المنيا ستُغلق ٦ أندية متجاورة، تمثل منافذ الثقافة من سمالوط حتى مغاغة، وبينهم نادى أدب البادية.
الحل بسيط: الأنشطة يمكن نقلها إلى مبانى مجالس المدينة، كما كان فى نادى أدب ملوى قبل إنشاء مكتبة الطفل التى تحولت إلى قصر ثقافة كامل. كان النشاط فى حجرتين وسطوح المطافئ وكان يؤدى الدور ولا يكلف الوزارة شيئًا. الموضوع ليس بكثرة الموظفين، يمكن لموظفين اثنين فقط إدارة موقع كامل.
محمد أبوز يد: الحل فى التطوير وتحسين قدرات الموظفين

الثقافة ليست رفاهية، خاصة فى دولة كمصر، قوتها الناعمة الحقيقية تأتى من ثقافة شعبها وفنونهم وآدابهم ومواهبهم، وكُتابها الذين أضاءوا العالم بعد أن خرجوا من قراها ونجوعها وأقصى أقاصيها.
لا يجوز أن تتعامل الحكومة مع الثقافة بمنطق الربح والخسارة، لأن هذه نظرة مقصورة. كلنا نعرف أن الثقافة استثمار طويل الأجل، والربح لن يكون ماديًا. ما زلنا نجنى أرباح ما تعلمه كل من رفاعة الطهطاوى وطه حسين والعقاد فى قراهم وهم صغار.

لا أحد ينكر أن هناك مشكلات إدارية فى قصور الثقافة، وأنها تعانى من قصور، لكن الحل لا يكون بالبتر، بل بالعلاج. التعامل مع قصور الثقافة التى ترى الوزارة أنها لا تؤدى مهامها لا يكون بالغلق، بل بتطويرها، واستبدالها- فى نفس المواقع- بأماكن أكثر اتساعا وتأثيرًا، وتحسين قدرات موظفيها وتدريبهم
على من أصدر قرار الغلق العودة للتاريخ وقراءة السبب والفلسفة وراء إنشاء هيئة قصور الثقافة. عليه أن يقرأ كيف أحالت هذه القصور قرى مصر إلى شعلة من النور والمعرفة، وكيف اكتشفت آلاف المواهب التى أثرت الثقافة المصرية.
رشا عبادة: بعضها خرِب ويحوى فسادًا.. لكن مَن المسئول؟

المشكلة لا تكمن فى إغلاق بيوت الثقافة، لكن فى علاقة الحكومة بالمثقفين، وعلاقة المثقفين أنفسهم بطريقة التواصل مع الشارع، فالحكومة -ممثلة فى وزارة الثقافة- لا تعترف بدور المثقف كوسيط وعى حقيقى بينها وبين الشارع، وإن اعترفت، لا توفر له الإمكانات والآليات والرقابة الكافية للتنفيذ. بينما المثقفون أنفسهم يقعون فى فخ العلاقة الشائكة دائمًا بين الحكومة والشعب.
لا أظن شيئًا سيتغير إن أُغلقت بيوت ثقافة وهمية وغير فاعلة، لن يبكى أطفال الشارع ولا تلاميذ المدارس المجاورة، ولن يشعر موظفوها إلا بما يشعر به أى موظف «قطعوا عيشه» السهل المُعتاد. لكن الواقع المُزرى يندب حظه فى الخلفية.. الواقع الذى نتج عن إهمال دور الثقافة كوسيط واعٍ وقادر على التأثير، فبدلًا من بيوت ثقافة فاعلة، فُتحت بيوت «السوشيال ميديا»، التى تبدو فى كامل أناقتها من الخارج، لكنها تقدم السم فى العسل، وتفسد الذوق العام والإنسانية والوعى، وتُظهر صورة مشوهة للمصرى أمام العالم.

وزارة الثقافة لا تعى دورها الأكبر، ولم تزل حبيسة داخل الصندوق المعتاد: قرارات فردية، وبيانات ناقصة من الحقائق. لذا أصبحت وزارة «فى الطراوة»! و«الطراوة» سهلة لا عرق فيها، ولا جهد مبذولًا للتغيير الحقيقى، لكنها «متجبش عيال»، ولا تُشفى مرضًا ولا تغنى فقيرًا ولا تغير وعيًا.
صحيح أن بعض بيوت الثقافة المقرر إغلاقها متهالكة وخربة، وربما تحوى فسادًا مسكوتًا عنه، لكن السؤال الأهم: لماذا؟ مَن المسئول الحقيقى عن هذا الإرث؟ وكيف نغيره؟ المسئولية لا تقع على وزارة الثقافة وحدها، بل على وزارة «التعليم» و«الشباب» أيضًا.
الحكومة كلها عليها أن تُفعل دور الثقافة فى المجتمع، من خلال الربط الحقيقى بين المدرسة والجامعة وبيوت الثقافة: مسابقات ثقافية ومسارح فى المدرسة والجامعة، وفرق للأنشطة ورعاية المواهب، ثم تأتى مرحلة الإعلان والترويج بشكل حقيقى، فى الشارع وداخل الفصول والمدرجات والبيوت، وفى وسائل الإعلام، وهو ما يتحقق عبر اختيار شخصيات واعية بتأثير الثقافة على الشارع ومتصلة به، ولديها مشروع يمكن تطبيقه، وقبل كل ذلك توفير ميزانية جادة.
رضا سليمان: لا يصح التعامل بمنطق «الصباع اللى يوجعنى أقطعه»

لا خلاف على أن «الثقافة» وزارة خدمية بالدرجة الأولى، هدفها التثقيف ونشر الوعى، فى كل مكان فى مصر، جنوبًا وشمالًا، شرقًا وغربًا. أهم الأماكن التى يجب أن تعمل فيها الوزارة هى القرى والنجوع، تلك الأماكن البعيدة التى تُعدُّ بؤرًا لانتشار الأفكار المضللة الإرهابية.
إذا ما كان الجهل، كانت الأرض خصبة لمثل هذه الأفكار، وقد شاهدنا من قبل الأتوبيسات التى كانت تنقل مثل هؤلاء كأنهم قطيع يُوجّه لأى عمليات تخريبية. هنا، وفى هذه المناطق، يجب أن ينشط رجال وزارة الثقافة بمحاضرات وندوات، وعروض فنية وورش للرسم والتلوين والحكى، وزيارات للمدارس، وقد يصل الأمر إلى جلوس موظفات وزارة الثقافة مع النساء فى القرى أمام البيوت.

فى ظل هذه الضرورة الملحة، يصدر قرار بغلق عدد كبير من المكتبات وبيوت الثقافة بدعوى أنها لا تعمل، أو غير نشيطة! كأن الوزارة اتخذت من مقولة عادل أدهم الساخرة نبراسًا لها حينما قال: «أنا الصباع اللى يوجعنى، ما أعالجهوش.. أقطعه».
بهذا المنطق، بيت الثقافة أو المكتبة التى لا تعمل نغلقها، رغم عشرات الحلول الأخرى، وهى حلول منطقية وضرورية جدًا، لا مجال لها الآن. لماذا؟! لأن وزارة الثقافة الخدمية بدأت تتعامل بمنطق المكسب والخسارة.
محمد رفيع: الندوات الأدبية فى المدارس والجامعات أكثر تأثيرًا

مثل هذه القرارات يُدرس جيدًا قبل تنفيذه، ويكون ضمن خطة استراتيجية ورؤية شاملة، لذا لا يمكن لمن هو خارج دوائر اتخاذ القرار أن يعلق عليه بشكل منفرد، دون النظر إلى الاستراتيجية الشاملة التى يتضمنها.
على مدى ٣٠ عامًا، شاهدت بنفسى تحول بعض قصور الثقافة إلى مخازن، وأخرى لا تعمل وتحتاج إلى صيانة، وموظفوها يعملون فى وظائف أخرى. شهدت أيضًا التعامل مع الإنجازات الثقافية بشكل كمى، كأن نقول: أنشأنا قصورًا ومسارح بعدد كذا، بغض النظر عن تأثير ذلك على الحى أو المنطقة التى تخدمها.

القرار الأخير - فى رأيى- إعادة رصد وهيكلة للأصول والبنى التحتية الثقافية، قبل وضع خطة شاملة تمتد لسنوات، ويمكن من خلالها إعادة الفاعلية للثقافة الجماهيرية فى مختلف أنحاء الجمهورية، ووفقًا لطبيعة كل منطقة وما تحتاجه، فالعبرة ليست بوجود قصر ثقافة تُعقد فيه ندوات يحضرها عدد قليل من الناس مجاملة لبعضهم البعض.
علينا أن نفكر بشكل آخر، فقد رأيت فى دولة المغرب- مثلًا- الندوات الأدبية تُعقد فى المدارس الثانوية والجامعات بحضور الطلبة، وهذه الطريقة أكثر تأثيرًا من وجود قصر ثقافة مظلم لا تعمل فيه كفاءات يمكنها إدارة موقع ثقافى مهم.
على حسن: لماذا لا نضع المكتبات أسفل الكبارى؟!

طبقًا لنص المادة ٤٨ من الدستور، الثقافة حق أصيل لكل مواطن، تكفله الدولة وتدعمه وترعاه، وتقدمه لجميع فئات الشعب دون تمييز.
وزارة الثقافة هى الجهة المنوط بها تقديم هذا الحق للمواطن، لذا هى وزارة خدمية، هدفها الأساسى تثقيف الشعب، رعايته فكريًا وثقافيًا، دون تمييز فى النوع أو المستوى الاجتماعى أو السكن. لا تمييز بين مواطن يقيم فى الزمالك وآخر يسكن فى حلايب. وعلى وزارة الثقافة أن تسعى إلى هذا المواطن وترعاه، سواء كان متعلمًا أو أميًا.

الواجب القومى للوزارة تثقيف المجتمع بكل طوائفه ومستوياته، بحيث يصبح المواطن قادرًا على مواجهة الإرهاب، والصمود أمام التيارات الظلامية والأفكار الهدامة، يعرف قيمة وطنه وعظمة التاريخ الذى يحمله فوق كتفيه، مواطن يقبل الحوار ويحترم الاختلاف فى الرأى، ولا يقف حجر عثرة فى سبيل تقدم ورفعة وطنه.
الأسباب التى أعلنتها الوزارة لغلق نوادى وقصور وبيوت الثقافة ليست منطقية، ولا تستحق التفكير، لأن المواجهة والمحاولة والحل أشرف من الغلق. لماذا لا تتعاون «الثقافة» مع وزارة الشباب والرياضة، وتضع مكتبة وقصر ثقافة فى كل ساحة شعبية؟ لماذا لا تتعاون مع وزارة النقل لوضع مكتبات وتنظيم أنشطة ثقافية وفنية أسفل الكبارى بدلًا من الكافيهات والمطاعم؟!