رشــا عبـادة: اتهمنى أحدهم بالنسوية فسألته «أولست امرأة؟!»

- التجارة فى المواجع مُربحة.. وقلوب الأمهات كأجنحة الفراشات حينما يتعلق الأمر بأطفالهن
- النسوية تتمثل فى الدفاع عن حقوق المرأة وهذا لا يعنى أبدًا عداءً للرجل
- شغلتنى التفاصيل الصغيرة لمعاناة أمهات التوحد التى لا يدركها المحيطون
فى روايتها الجديدة «لا يكف عن الضحك» الصادرة عن منشورات «بتانة» مطلع هذا العام، تقدم الكاتبة رشا عبادة عملًا أدبيًا مؤثرًا يرصد بتفاصيل دقيقة المعاناة اليومية لأمهات أطفال التوحد. ومن خلال شخصية «مى»، الأم التى رزقت بطفل مختلف، تفتح رشا عبادة نافذة على عالم من الصراعات النفسية والاجتماعية التى تواجهها هذه الأمهات، فى مواجهة نظرات المجتمع المحملة بالجهل أحيانًا والقسوة أحيانًا أخرى، بدءًا من الأهل والأقارب ووصولًا إلى المارة فى الشوارع. وتصور الكاتبة بحرفية عالية حالات الإنكار والتخبط التى تعيشها الأم، والمحاولات الفاشلة المتكررة، والمخاوف التى تحاصرها كسجن لا مفر منه، ولكن فى خضم هذه الهزائم المتتالية، تكتشف «مى» أن الضحك قد يكون سلاحها الوحيد للنجاة، ذلك الضحك الذى لا ينبع من الفرح بل من القدرة على المواجهة. وفى حوارها مع «حرف»، تناقش رشا عبادة تفاصيل روايتها، كما تشارك تجربتها الشخصية مع مراكز تعديل السلوك ومراكز التخاطب، فضلًا عن تجربتها فى الكتابة الساخرة والأدب النسوى، وكيف استطاعت أن تدمج بين هذه العناصر المختلفة فى عمل روائى واحد.

■ رغم أن روايتك بعنوان «لا يكف عن الضحك» إلا أنها متخمة بالألم.. هل قصدت هذه الخدعة؟ ولماذا؟
- لم أخطط لخدعة، غلبتنى عادتى فى تمرير الصعب بابتسامة وربما خشيت على القارئ الذى اعتاد سخرية حروفى من جرعة ألم مُعلنة على الغلاف.
أؤمن بقدرة الضحك على تحسين استجابة العقل والقلب لكل تفاصيل الحياة مهما كانت مؤلمة، معاناة الأم «مى» التى رُزقت بطفل مصاب بالتوحد مع المجتمع، الأهل والصغار والأقارب والمارة فى الشوارع، حالة الإنكار والتخبط، المحاولات الفاشلة والمخاوف التى تحاصر هزائم متتالية لا تنجو منها إلا بالضحك الذى يجعلها قادرة على الحل ويمنحها أملًا واقعيًا فى النجاة.
■ «مى» بطلة الرواية سنديانة شامخة قوية.. إلى أى مدى تشبهينها؟ أم أنها أنتِ؟
- أتمنى أن أشبهها حقًا، كل أبطال الرواية يحملون الكثير من وعيى وجنونى ومخاوفى وارتباكى لا شر مطلقًا هنا أو خير مثاليًا. تجسد مى دور أم تحاول البحث عن نقطة سعادة مضيئة بآخر نفق السعى، يتطور وعيها بذاتها كامرأة تتعامل مع الحياة بمرونة تقبل أحداثها وتشارك فى التغيير وتتقبل أخطاءها برحمة، وتبدأ دائمًا من حيث انتهت محاولتها الأخيرة لتحقيق أمنية.
■ ما حكاية «شريف» ذى الحقيبة الحمراء الذى بعث بكلماته لأمه؟
- رحم الصدفة لا يكف عن كرم ولادة لحظات لا تنسى، اللحظة التى يقابل فيها الكاتب بطل روايته، يتجسد لحمًا ودمًا وحياة؛ لا أستطيع وصف ما شعرت به فيما أراقب «شريف» فى أحد شوارع القاهرة القديمة، كان يحمل حقيبة مدرسية حمراء على ظهره، تبدو فارغة إلا من بهجته وهو يلاعب موجات هواء عشوائية تحلق فيها أكياس بلاستيكية ملقاة فى الشارع، يفرد ذراعيه ويحاكى سماءً يكفيها طائر وحيد يؤكد صفاءها.
وطلبتُ حضنًا لم يدرك معناه، قبلتُ كفه الصغير واستأذنت أُمه فى صورة لذكرى تجمعنى معه فى حكاية تشبهنى، كان يهمهم، ويتحرك بسرعة مفرطة كطائر لا يهدأ جناحاه فيما تغزل أمه دعاء لا ينقطع بالشفاء وأمنية وحيدة أن تسمع منه كلمة «ماما»، أتمنى أن أراه مرة أخرى شابًا جميلًا لا يكف عن الضحك واللعب والكلام.

■ هل يمكن القول إن «مى» صورة لأمهات الأطفال من ذوى الهمم؟
- فى الرواية نماذج حقيقية لأمهات أطفال التوحد، ربما تتصدر «مى» المشهد كبطلة تحرك الأحداث للأمام، الأم التى تؤمن بقدرة ابنها على التطور وإدراك الحياة من حوله حتى لو ظل مختلفًا فى نظر الجميع، تسقط يأسًا ثم تقف لتجرى خلف أحلام صغيرة تعرفها الأمهات جيدًا.
وقابلت الكثير من الأمهات بمراكز التوحد، وأتمنى أن أكون وفقت فى التعبير عن صراعهن النفسى بين واقع مجتمعى مؤلم لا يوفر إمكانات حقيقية لنجاح يبدو عاديًا جدًا لكنه حلم بالنسبة لهن.
■ حدثينا عن الرواية من أول فكرتها حتى صارت بين أيادى القراء؟
- الفكرة بدأت من تسجيل يوميات مختلفة ساخرة بينى وبين ابنى، تصوراته البريئة عن العالم وتطوره، ثم متابعتى لأمهات التوحد فى الجروبات، والمخاوف والشكاوى والأمنيات، وفكرت فى تسجيل تجربتى الخاصة على سبيل التحرر من القلق والخوف بالكتابة، ثم بدأت فى الاسترسال ورسم العالم ومحاولة ربط القضية الأكبر بقضايا حياتية ويومية، وشغلتنى التفاصيل الصغيرة لمعاناة أمهات التوحد، التى لا يدركها المحيطون.
والتجربة الشخصية تصنع فارقًا فى حياة الآخر، أى عمل فنى يمكنه أن يلقى حجرًا فى بركة فكرة راكدة ويعالج شرخًا فى الواقع المعاش.
■ شخصية «حسحس القفص» تعكس أمراض التدين الشكلانى.. من أين استوحيت صورة الشخصية؟ وهل لها ملامح واقعية عرفتِها؟
- أعرفها بقدر يوازى كراهيتى لها، اختبرت لؤم الدجالين وبائعى الشفاء من الحسد وفك السحر وجلب الحبيب عن قرب، لمست حقارتهم ومبررات المجتمع الذى ينعمون فى جهله.
«حسحس القفص» مثله مثل كثيرين من مدعى «الفك والربط» وامتلاك مفاتيح الخلاص، مجرد أداة للعاجزين عن إدراك مشكلتهم الحقيقية والبحث عن حلول أكثر وعيًا وجدوى.
■ من خلال تجربتك.. إلى أى مدى يتقبل المجتمع ذوى الهمم؟ وكيف تنعكس فكرتهم عن أصحاب القدرات الخاصة من خلال تعاملهم مع هؤلاء الأطفال؟
- المجتمع متعاطف فى أغلبه، لكنه تعاطف العابر، الأمر يعتمد على الوعى والرحمة وفى أغلب البيئات لم يزل ينحصر بين «يا حرام غلبان أو ده البركة بتاعتنا أو مجنون وعبيط» إلا من رحم ربى، يوزعون نظرات شفقة وأدعية نجاة ومساندات عن بُعد؛ راقبيهم حين يجتمع أطفالهم مع أطفال من ذوى الهمم، تصرف غير مقصود من طفل مختلف، دفعة واحدة أو صراخ عالٍ وقد تنفجر إحداهن فى وجهك وتطالب بحق ابنها الطبيعى من طفل مختلف يعجز عن إدراك الواقع بشكل كامل.
والكثير من المدارس والحضانات الخاصة نفسها ترفض بعض ذوى الهمم؛ لأنهم يربكون المشهد ويزعجون الأطفال العاديين ويعطلون سفينة التجارة والربح.
■ أشرت فى الرواية إلى «تجار الألم» الذين يبيعون الوهم معلبًا فى جلسات التخاطب وتعديل السلوك وتنمية المهارات.. هل تعرضت لهذه التجارب وكيف واجهتها؟
- التجارة فى المواجع مُربحة، اللعب على نقطة ضعف الأمهات والآباء وآمالهم الصغيرة فى نجاة أطفالهم هدف الكثير من هذه المراكز؛ دعايات وشعارات وطرق علاج مُعلبة يطبقونها مع كل الحالات على اختلافها، بعد ٨ أشهر فى أحد المراكز قال لى الدكتور المسئول: «يا مدام إنتى تلبسيه وتأكليه ومالكيش دعوة بطريقة العلاج ده دورنا».
الجملة حقيقية أحفظ ملامح قائلها ونبرة صوته؛ كانت المرة الأخيرة التى تعاملت فيها مع هذا المركز، خرجت منه مشفقة على طابور الأمهات على مختلف مستوياتهن التعليمية والاجتماعية أغلبهن يثقن فى قدرة الآخر على المساعدة ويفرحن ببطء النتائج، ويرسخ فى أذهانهن فكرة أنه ليس فى الإمكان أكثر من ذلك، الرضا بالقليل من طفلك المختلف سجن بشع نحبس فيه قدرات ومميزات أطفالنا.

■ اختارت «مى» الهروب بعيدًا عن مجتمعها رغم صلابتها وصمودها لوقت طويل.. لماذا؟
- لم أعتبره هروبًا، كان حلًا ضمن سلسلة محاولات، من الغباء أن تفتح أكثر من جبهة قتال فى نفس التوقيت. التركيز على هدف خلق جو صحى لــ«شادى» بعيدًا عن التنمر والرفض والإحباط واليأس كان أهم من الدخول فى تحدٍ يهدر طاقتها المستهلكة بالأساس كأم تعانى، قلوب الأمهات كأجنحة الفراشات حينما يتعلق الأمر بأطفالهن.
■ هل كانت علاقات «مرتضى» النسائية نوعًا من الهروب إزاء ما أصاب طفله؟ ولماذا تتحمل الأمهات دونًا عن الآباء ما يمر به ذوو الهمم؟
- «اللى فيه طبع مبيغيروش» هو فقط يطوره، يتفنن فى احترافه بعد الاعتياد والخبرة. بعض القراء يفسرون الأمر أنه نوع من الهروب وآخرون سيبدو لهم من خلال حياة «مرتضى»، طفولته ونشأته، إدارته للمشكلة، وسلبيته واعتماده على الآخر، أنه أداته الوحيدة للتكيف مع الحياة بالطريقة التى اختارها، مشكلة «مرتضى» لم تكن فى علاقاته النسائية وإن طفت على سطح السرد، «نصف الرجال المتزوجين فى علاقات نسائية»، ليس سرًا! مشكلة «مرتضى» فى غبائه وتماديه وعجزه عن حماية حياته، عن بذل جهد يليق بمسئوليته.
أما عن الأمهات اللواتى يتحملن المسئولية دائمًا؛ نصف الحقيقة ينحصر فى الموروث المجتمعى الخاطئ عن دور المرأة كزوجة وأم، و«المذاكرة والنادى والتربية والطبخ والتنظيف والرعاية ودرجات الأولاد فى الشهادة»؛ كلها فى نظر المجتمع مسئولية الأم، حجج فارغة يمنحها المجتمع والعادة والموروث، المفارقة الأكثر بؤسًا أن امرأة ما فى مكان ما هى التى اخترعتها ثم رسخت لها بقية النساء «سامحهن الله».
النصف الآخر للحقيقة يكمن فى قلوب الأمهات، عاطفة الأمومة التى لا يساويها «أبوبة» فى المقابل ولا حتى فى اللغة، الأم أكثر قدرة على متابعة التفاصيل؛ كم مرة ابتسم طفلها، متى انتبه وكم مرة قال ماما وكيف أشار لكوب الماء أو ضحك بصوت عالٍ ولماذا توقف فجأة عن الصراخ؟
■ إلى أى مدى يعد الطفل «شادى» معادلًا موضوعيًا للمجتمع فى روايتك؟
- الاعتياد يفقد الأمور السيئة أهمية معالجتها، والكشف الذى يمارسه «شادى» دون قصد، يعرى قبحًا غائرًا فى المجتمع.
والاختلاف الذى يظهر فى حالة شادى فيما يمارس المجتمع فخ تحويله لطفل عادى يسهل التعامل معه يفتح الباب لسؤال مهم طرحته الرواية: ولماذا نعتبره مختلفًا ولا نعتبره مميزًا ولماذا نريده أن يشبهنا بالأساس؟
■ خضت تجربة الكتابة الساخرة فى أكثر من عمل.. إلى أى مدى تعبر الكتابة الساخرة عن أمراض المجتمعات؟ ولماذا تندر الكتابات النسائية الساخرة؟
- كل الأشياء تؤثر حين نضحك فى استقبالها مهما بدت مؤلمة أو غريبة أو حتى مخيفة. السخرية أن تنظر للأشياء بدهشة، وحدها الدهشة قادرة على جعلك تبتسم وتسخِّر عقلك لتقبل الواقع، وربما معالجة الخلل، فى الأدب الساخر كل شىء صالح للكتابة عنه طالما توفرت مفارقة تناوله؛ عين الساخر كاميرا تسجل بالصوت والصورة كل ما يدور حوله، التقاط التفاصيل التى تبدو عادية تخلق تحديًا داخل رأسه.
بالنسبة للكتابات النسائية الساخرة تقصدين كاتبات الأدب الساخر من النساء، فقد كبرت عند قدمى جدتى لأبى -رحمها الله- الساخرة العظيمة، التى كانت ترقص كلما شعرت بحزنى، ويلف طرف جلابيتها المشجرة الهواء فى دوائر متلاحقة ثم تحكى لنا حكاية «الناس الغلابة اللى اشتروا بكل فلوسهم كرملَّة وغرسوها فى الأرض وسقوها مياه واستنوا طرحها».
من وجهة نظرى الأمر يتلخص فى أمرين، الأول والأشمل، هى النظرة الدونية المغلوطة لكتابات المرأة والترويج لها والتسفيه منها.
المأزق الثانى، الأكثر خصوصية وتحديدًا، ليس فى كتابة المرأة الساخرة، لكنه الأصل ناتج عن الجرأة التى تتطلبها السُخرية، أنت تعرى قبحًا دون أن تمارسه؛ وهذا يتطلب جرأة فى طرح الفكرة أمام عقول تدمن شخصنة الكتابة، وتضع حدودًا لما يمكن أن يخرج من قلم امرأة، فتتحول فجأة من صاحبة فكرة، لمجرد مُتباكية شمطاء على حقوق المرأة وآلام المرأة وواقعها الأليم.
■ لماذا تلاحق الكاتبات تهمة النسوية؟
«فراغ بعيد عنك يا أختى» أظنها نفس إجابة سؤال لماذا ينشغل رجال الدين بأمور المرأة، لبس المرأة، حاجب المرأة، صوت المرأة، حقوق زوج المرأة! معذورين تحتل المرأة المساحة الأكبر فى اهتماماتهم. ذات مرة اتهمنى صديق أنى متحيزة للمرأة دائمًا؟ سألته إن كان يرانى ضفدعة مثلًا فيما تظهر لى مرآتى السحرية الشريرة انعكاسًا لصورة واحدة «سِت»؟ الأمر ليس تحيزًا ولا حتى نسوية، المفهوم الضيق للنسوية يشبه المفاهيم المغلوطة لكل ما يخالف العادة. والنسوية تتمثل فى الدفاع عن حقوق المرأة وهذا لا يعنى أبدًا عداءً للرجل؛ فما علاقة البحث عن حقوق البط البلدى بأزمة الديك الرومى فى التسوية؟!