النهاية.. من سفر التكوين إلى النيوليبرالية

- أساطير التقدم غذّت نجاحنا لكنها اليوم تهدّد وجود جميع الكائنات على كوكب يواجه أزمة خانقة
تتعرض فكرة «التقدم» لقدرٍ كبير من الهجوم. فالفكرة التى تقول إن الحياة على هذا الكوكب تتجه نحو الكمال، أو على الأقل تتحسن بطريقة ما، بالارتكان إلى مؤشرات مثل النمو الاقتصادى، وزيادة متوسط العمر، وعلاجات لأمراض حضارية وطبية مختلفة، باتت تُستحضر كثيرًا بسخرية. ومن هذا المنطلق يأتى كتاب «التقدّم: كيف صنعت فكرة واحدة الحضارة والآن تهدد بتدميرها» للأكاديمى صمويل ميلر ماكدونالد.
يركز الأكاديمى والجغرافى صمويل ميلر فى دراساته على علم البيئة والنظرية والتاريخ، فهو يحمل شهادة دكتوراه من جامعة أكسفورد، ودرجات علمية من جامعة ييل وكلية أتلانتيك، كما كتب مقالات وتحليلات لصحف ومجلات، مثل: «الجارديان» و«ذانيشن» و«ذا نيو ريببلك» و«كارنت أفيرز» وغيرها.

أساطير العالم الحديث
يقدّم الجغرافى صموئيل ميلر ماكدونالد منظورًا جديدًا حول الأساطير التى يقوم عليها العالم الحديث، كاشفًا عن جذورها المدمرة. ومن خلال بحث متعدد التخصّصات فى مجالات الأنثروبولوجيا، والتاريخ، والفلسفة، والجغرافيا، يؤكد ماكدونالد أن ازدهار البشرية يستلزم أن نُفكّك معنى التقدّم السائد، ونعيد تخيّله، ونبتكر له تعريفًا جديدًا.
وفق مراجعة صحيفة «الجارديان» للكتاب، يرى المؤلف أن مفهوم التقدّم يرتبط بالقوة، فالسرديات التى نحكيها عن التقدّم، سواء كنا نرى أن المجتمع يسير فى الاتجاه الصحيح أم الخاطئ، تملك تأثيرًا هائلًا. لقد شيّد التقدّم المدن، ورسم خرائط العالم، وغاص فى أعماق المحيطات والفضاء، وابتكر الثروات والفرص والاختراعات المذهلة، ودشّن عصرًا جديدًا فريدًا فى تاريخ كوكبنا الممتد على ٤.٥ مليار سنة.
لكن قصة التقدّم الحديثة هى أيضًا وهم خطير، إذ تُحدد فهمنا لماهية التقدّم، وتبرّر ما نحن على استعداد لفعله من أجل تحقيقه مهما كان الثمن. فما زلنا نتمسّك بمجموعة من الأساطير عن الهيمنة، والنمو، والاستخراج، والتوسّع، وهى أساطير غذّت نجاحنا لكنها باتت اليوم تهدّد وجودنا ووجود جميع الكائنات على كوكب يواجه أزمة خانقة.
يجادل صموئيل ميلر ماكدونالد بأن كل شىء فى حالة تدهور؛ الديمقراطية وحرية التعبير فى انحدار، وعدم المساواة يتصاعد بلا هوادة، إذ تستحوذ نسبة الـ١٪ على حصص متزايدة من الثروة العالمية. اليوم، تمتلك الولايات المتحدة معامل جينى، وهو المقياس الدولى الأكثر شيوعًا لقياس عدم المساواة، مساوٍ للمستوى الذى بلغته روما القديمة فى زمن العبودية. كما أن معدلات وفيات الأمهات بين جيل الألفية فى أمريكا؛ أغنى مجتمع فى العالم، أعلى ثلاث مرات من معدلاتها لدى جيل آبائهم، كما أن متوسط العمر المتوقع عالميًا فى تراجع، وكذلك معايير الغذاء.

سرديات التقدم
يرى المؤلف أن ثمة خداعًا جرى بدعاية النخب الحاكمة؛ فـ«سرديات التقدّم» التى تروّجها الطبقات المسيطرة تطمئننا إلى أن التاريخ لا يسير إلا إلى الأمام، وأن علينا الوثوق بالنظام وتسليم زمام الأمور لمن هم فى مواقع السلطة. وحتى حين اندلعت الاحتجاجات، فإن معظمها سعى إلى إدخال تعديلات طفيفة بدلًا من السعى إلى ثورة حقيقية. لكن ماكدونالد يشير إلى أن التاريخ لم يتبع مسارًا تصاعديًا منتظمًا، بل إن ما عُدَّ تقدّمًا كثيرًا ما خلّف أضرارًا جانبية هائلة، من بينها الخراب البيئى.
يشرح المؤلف ذلك بالإشارة إلى أنه فى السابق، كانت للبشر علاقة «تكافلية» مع الطبيعة، تقوم على التبجيل بدلاً من الاستغلال. تبنت معظم المجتمعات البدائية المساواة، ولم يكن لديها تسلسل هرمى للطبقة أو الجنس. ثم فى حوالى عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد، ظهر الاقتصاد «الطفيلى». كان أهل بلاد الرافدين هم أول من تصرفوا كما لو أن الطبيعة لم تعد شيئًا للتواصل معه، بل يجب إخضاعه.
بالنسبة لماكدونالد، تعتبر ملحمة جلجامش أول قطعة دعائية للتقدم؛ ففيها، يقتل البطل، الذى تحمل الملحمة اسمه، حارس الغابة، ويروّض البرية، ويبنى مدينة، ويملؤها بالخبز والبيرة وسط فرحة أتباعه الجامحة.
سار سفر التكوين على نفس المنوال. يأمر الله آدم وحواء بـإخضاع الأرض وترويض كل كائن حى. وفى وقت لاحق، أثبتت المسيحية فائدتها للإمبراطور الرومانى قسطنطين، الذى رأى فى التوحيد صيغة مفيدة؛ إله واحد، إمبراطورية واحدة، إمبراطور واحد. وبالانتقال ألف عام إلى الأمام، التقطت الرأسمالية العصا. أصبح التقدّم، وقد جرى علمنته، يعنى تكوين رأس المال؛ ثروة تُستنزَف من الجماهير لتصبّ فى أيدى قلة «مستنيرة»، تعيد إلينا فتات الحداثة من مضادات حيوية وقلايات هوائية وما شابه. أما منطق الاستخراج فبقى على حاله؛ فالطبيعة والطبقة العاملة على حد سواء تدفعان الثمن.
وفقًا للمراجعة التى أجرتها صحيفة «التلغراف»، فإن ماكدونالد فى كتابه يركز على أن التقدم ليس سوى قصة أيديولوجية تُخفى وراءها عمليات بيئية أعمق، وعلى رأسها ما يسميه «الاستحواذ على الطاقة»، فوجود الإنسان يعتمد على استخراج الطاقة من البيئة من أجل البقاء، ويُعد استهلاك الطعام مثالًا واضحًا على ذلك.
يصوغ ماكدونالد هذه الفكرة فى إطار أكاديمى، فيوضح أن هناك ثلاثة أشكال رئيسية للاستحواذ على الطاقة، هى: «التكافل»، حيث تستفيد الكائنات الحية من بعضها البعض، والتعايش، حيث يحصل كائن على الطاقة دون أن يضر أو ينفع الكائن الآخر، و«التطفّل»، حيث يحصل كائن على الطاقة فى مقابل إضرار الآخر.
تحمل كلمة «التطفّل» إيحاءات سلبية، لكن ماكدونالد يرى أنه كان حالة شاذة عبر تاريخ الحضارة الإنسانية؛ فالمجتمعات الأصيلة، قديمًا وحديثًا، لا تشبه الإمبراطوريات العنيفة، والتى تفرز نتائج مدمّرة بشكل غير مستدام لكوكب الأرض.

الانفجار السكانى والاستهلاك المفرط
فى حديثه مع بودكاست «أوفرشوت» يناقش ماكدونالد الآفاق التى يفتحها كتابه، ويستكشف الأزمات الاجتماعية والبيئية المرتبطة بالانفجار السكانى والاستهلاك المفرط.
يقول ماكدونالد إنه مع تفاقم أزمة المناخ وتباطؤ النمو الاقتصادى أو تراجعه، من المرجح أن نشهد صراعات أهلية ناتجة عن ذلك، بالإضافة إلى احتمال حدوث أزمات غذائية وأوبئة جديدة. ويرى أن هذه الظروف ستجعل الناس أكثر عرضة للخضوع لسلطة حكّام يستغلون حالة الطوارئ المناخية لتعزيز نفوذهم والسيطرة على شعوبهم، مشيرًا إلى أنه فى واحد من مقالاته المبكرة رصد نماذج من القادة الذين يستخدمون الأزمة المناخية لمصالحهم الخاصة. ويتوقع أن هذه الظاهرة ستزداد فى المستقبل، ما سيجعل مقاومة هذا النوع من الاستبداد أمرًا بالغ الصعوبة، خاصة فى ظل الأزمات البيئية والمادية التى ستضغط على المجتمعات.
ويؤكد ماكدونالد أن أهم ما يجب التمسك به فى مواجهة المستقبل هو ثلاث قيم أساسية؛ المساواة والعدالة، واحترام الاستقلالية الفردية، والحفاظ على التنوع البيولوجى وسلامة النظم البيئية. ويرى أن التشبث بهذه القيم، والعمل على نشرها والدفاع عنها، سيكون حاسمًا لإبطاء مسار الانهيار، ومنع أسوأ الأشخاص من الاستيلاء على السُلطة والموارد، وإذا استطاع الناس الحفاظ على هذه القيم وتوريثها، فقد تكون أعظم ما نملك.
ويضيف أن التاريخ شهد فترات طويلة جرى فيها تهميش هذه القيم أو طمسها بالكامل، بينما استسلم الناس للقمع، والحفاظ عليها حية وفاعلة لن يكون أمرًا سهلًا، لكنه شرط أساسى لبقاء أى حركة سياسية أو بيئية عادلة وصحية. كما يشدد على ضرورة مواجهة الواقع بصدق ووضوح، دون التعلق بأمجاد الثورات السابقة أو محاولة تكرار تجارب القرن العشرين التى قد لا تنجح فى القرن الحادى والعشرين. فالمطلوب هو النظر إلى المستقبل بشجاعة وبصيرة، والاستعداد لما يلزم للحفاظ على مجتمع حر، عادل، وصحى بيئيًا.