منظر شاحب للتلال.. اليابانى كازو إيشيجورو: الكتب السيئة قد تُنتج أفلامًا عظيمة

- نحتاج لإيصال قصص الحرب والآثار المدمرة للقنبلة الذرية إلى الجيل الجديد بصورة مختلفة
- ينبغى للأفلام أن تعكس شيئًا فنيًا وشخصيًا فى لحظتها لا أن تكون مجرد نسخ للرواية
فى مايو الماضى، حضر الكاتب اليابانى البريطانى كازو إيشيجورو فى مهرجان كان السينمائى، العرض الأول للفيلم المقتبس عن روايته الأولى «منظر شاحب للتلال». بعد العرض وفى حديثه مع قناة NHK اليابانية، أثار الكاتب الحائز على جائزة نوبل فى الأدب إشكالية قديمة تتجدد: ماذا يحدث للنص حين يُعاد بعثه على شاشة السينما؟ وهل تملك السينما حق إخضاع الأدب لمنطقها البصرى أم عليها الالتزام الكامل بأصل النص الأدبى؟
وُلد كازو إيشيجورو فى مدينة ناجازاكى عام 1954، وانتقل مع عائلته إلى إنجلترا وهو فى الخامسة من عمره. بعد نحو عقدين من الزمن، عندما كتب روايته الأولى، كانت ذكرياته الآخذة فى التلاشى عن ناجازاكى هى مصدر إلهامه، ومن ثم فإن روايته الأولى تستند بشكل غير مباشر إلى ذكريات وتجارب والدته التى كانت فى ناجازاكى عندما ألقت الولايات المتحدة القنبلة الذرية على المدينة عام 1945.

أفلام رائعة لكتب سيئة
تسرد رواية «منظر شاحب للتلال» حكاية إتسوكو، التى نجت من القصف النووى وانتقلت فيما بعد إلى إنجلترا. وبناءً على رغبة إحدى بناتها، تبدأ فى مواجهة الذكريات المؤلمة التى عاشتها فى ناجازاكى بعد الحرب.
خلال عرض الفيلم فى مهرجان كان، والذى حضره برفقة المخرج اليابانى كى إيشيكاوا وطاقم التمثيل، قال إيشيجورو مازحًا: «الفيلم مبنى على رواية كتبتها عندما كنت فى الخامسة والعشرين من عمرى. إنه عمل سيئ للغاية؛ أول كتاب كتبته على الإطلاق. لكن تاريخ السينما الطويل يُثبت أن الكتب السيئة يمكن أن ينتج عنها أفلامًا رائعة.»
أضاف إيشيجورو، فى حديثه الذى نُشر على موقع القناة خلال هذا الأسبوع، الرواية الآن عمرها ٤٥ عامًا، وكانت أيضًا أول رواية أكتبها. فى تلك المرحلة، لم أكن أعرف كيف أكتب رواية، لذا لا يجب أن تنظروا إليها على أنها عمل لكاتب متمرس ومتميّز. إنها رواية كتبها شخص يبلغ من العمر ٢٥ عامًا. لكن ربما لهذا السبب لى علاقة خاصة بها؛ كما أنها العمل الذى كتبته فى محاولة للاحتفاظ بمشاعرى وذكرياتى عن ناجازاكى.
وتحدث إيشيجورو عن كواليس كتابته لهذه الرواية الأولى بقوله: عندما وصلت إلى منتصف العشرينيات من عمرى، بدأت تلك الذكريات تتلاشى، ومن هنا فكرتُ فى الاحتفاظ بها عبر السرد الروائى كى تكون فى مأمن من النسيان.
أوضح كازو إيشيجورو أنه لم يستخدم قصص والدته بشكل مباشر فى روايته الأولى، رغم تدوينه لها فى شكل قصص قصيرة، مشيرًا إلى أنه شعر بأن تلك الذكريات كانت حميمة أكثر مما ينبغى. ومع ذلك، كانت الرواية قائمة على أحاديث امتدت لعامين بينه وبين والدته، التى ألهمته رؤيتها لما بعد الحرب.
تعلّم إيشيجورو من والدته أن الحرب لا تكمن فقط فى مشاهد الدمار، بل فى انقطاع الحيوات اليومية العادية، فى الصمت الذى يخلفه الغياب المفاجئ، مستطردًا: كانت بعض الذكريات مؤلمة، وبعضها حكايات عن أصدقاء اختفوا فجأة بفعل شىء غامض حدث فى العالم. تلك التفاصيل الهشة كانت دروسى الأولى. فقد أدركت أن الحرب ليست فقط ذلك الحدث الضخم الذى نراه أحيانًا فى الأفلام أو نشرات الأخبار، فهى أيضًا الأشياء الصغيرة والمروّعة.

مشهد إضافى فى الفيلم
فى النسخة السينمائية من رواية «منظر شاحب للتلال»، تسأل إيتسوكو الشابة زوجها: «هل كنت ستتزوجنى لو كنتُ قد تعرضت للقنبلة الذرية؟»، وهو واحد من المشاهد التى أضافها مخرج الفيلم لكى يتمكن الناس اليوم من النظر إلى تلك الحقبة وفهم المشكلات التى كانت قائمة آنذاك، وللتذكير بما تعرّض له الناجون من القنبلة الذرية من تمييز اجتماعى ونبذ واسع داخل المجتمع اليابانى. لم يورد إيشيجورو هذا الحوار صراحة فى روايته، لكنه كان حاضرًا فى خلفيتها.
وقد وافق إيشيجورو على هذا التعديل ورأى فيه إضافة مهمة لعمله، مبينًا ذلك بقوله: «حين كتبتُ الرواية، كان يكفى مجرد التلميح إلى هذه الأمور ليفهمها الناس. فقد كان ذلك زمنًا يخشى فيه البريطانيون من حرب نووية أخرى مع الاتحاد السوفيتى، وكان لديهم وعى عالٍ بقضايا مثل الإشعاع. لذا، لم تكن هناك حاجة للتفصيل، بل يكفى الإيحاء فقط، لكن، بالنسبة للجيل الحالى، لا بدّ من توضيح أكثر لما يمكن أن تفعله قنبلة نووية.
وتابع: هذا الفيلم بالأساس إعادة حكاية للرواية، موجهة إلى الجيل الحالى. وأعتقد أنه، ومع اقتراب الذكرى الثمانين للقنبلة الذرية والحرب العالمية الثانية، من المهم جدًا أن نفكر فى كيفية جعل هذه الذكريات ذات صلة بالأجيال الشابة. نحن بحاجة إلى أن نُعيد تقديم ذكريات جيل آبائنا وأمهاتنا. فالسؤال هو: كيف نقنع الأطفال بأن هذه قصة بالغة الأهمية، وتمسّ حياتهم والعالم الذى يشكّلونه.

حدود الأمانة فى الاقتباس
ليست هذه الرواية الأولى التى تظهر لإيشيجورو على شاشة السينما، إذ تحولت روايات له مثل «بقايا اليوم»، و«لا تدعنى أرحل أبدًا» إلى أعمال سينمائية، غير أن هذه الرواية بما يمكن أن تحمله من تجارب البدايات ونظرة الكاتب لها على نحو يستشعر قصورها جعل استعادتها مجددًا عبر عمل سينمائى مفاجئًا له. علّق إيشيجورو على هذا الأمر فى حديث سابق له مع وكالة «أسوشيتد برس» بقوله: لم أتخيل أن أحدًا سيعيد قراءة هذا الشىء أو أننى سأرى هذه الرواية تُعرض فى «كان»، لهذا السبب فالأمر يختلف عن رواياتى السابقة التى تحولت إلى أفلام.
وبصفة عامة، يحتفظ إيشيجورو بوجهة نظر خاصة حول تحويل العمل الروائى إلى فيلم سينمائى، وهو ما بيّنه بقوله: غالبًا ما يظن الناس أننى أبالغ فى التواضع عندما أقول إننى لا أريد أن يكون الفيلم مطابقًا للرواية. لا أريد اختلافًا شاسعًا، لكن يجب أن يعكس الفيلم شيئًا فنيًا وشخصيًا فى لحظته. لا أن يكون مجرد نسخ أو تقليد.
واستطرد: عندما يفشل الاقتباس السينمائى عن الأدب غالبًا ما يكون السبب هو التقديس الزائد، وأحيانًا يكون كسلًا. يظن الناس أن كل شىء موجود فى الرواية، فيتوقفون عن الابتكار. لكل فيلم يُنجز، هناك ١٠ أو ١٥ محاولة أخرى فشلت وكنت شخصيًا طرفًا فيها. دائمًا ما أحاول دفع الناس لتقديم شىء جديد. رأى إيشيجورو أن ثمة نهجين يمكن اتباعهما بهذا الصدد؛ إما أن تكتب رواية وتعتبرها شيئًا متكاملًا ونهائيًا. أو أن تنظر للقصص على أنها أشياء تنتقل عبر الأجيال. حتى إن كنت تظن أنك كتبت شيئًا أصليًا، فأنت فى الحقيقة جمعت عناصر من أشياء سابقة. القصص العظيمة هى التى تستمر، لأنها تتغير وتُعاد صياغتها بما يتلاءم مع ثقافة كل زمن. كانت هناك أوقات يجتمع فيها الناس حول النار للاستماع إلى نفس القصة، لكن كل راوٍ يرويها بطريقة مختلفة. وهذا ما يشعر به تجاه انتقال العمل الروائى إلى السينما.

اقتباس سينمائى غير مُرض
رغم أن كازو إيشيجورو، فى حديثيه السابقين، يُظهر تقديرًا للفيلم المقتبس عن روايته الأولى، بل ويبدو أنه يُعلِى من قيمة المعالجة السينمائية على حساب النص الأدبى الأصلى، الذى يراه متأثرًا بما يعترى عادةً أعمال البدايات من نقص وتردد، فإن بعض المراجعات النقدية ذهبت فى الاتجاه المعاكس تمامًا.
فى مراجعة نشرها موقع Variety، رأى الكاتب أن ما اتسمت به الرواية من غموض مرن ومراوغ، يتصلّب على الشاشة فى شكل سرد غير مُرضٍ، موضحًا أن «منظر شاحب للتلال»، الصادرة عام ١٩٨٢، كانت عملًا أدبيًا مشحونًا بالهواجس والذاكرة والهوية، بينما فشل الفيلم الجديد، رغم التزامه الظاهرى بحبكة الرواية، فى التقاط روحها الغامضة.
وأشار الناقد إلى أن الفيلم يتبع حبكة الرواية حرفيًا إلى حد بعيد، لكنه يفقد روحها، فالسرد غير متماسك دراميًا، كما أن الفيلم يفتقر إلى التوازن بين الغموض الأدبى والتماسك السينمائى، ومن ثم فإنه يبقى أقل تأثيرًا من الرواية ولا يبلغ عمق النص الأصلى.
ولم تختلف المراجعة المنشورة فى موقع The Hollywood Reporter كثيرًا فى الحديث عن النقاط السلبية بالفيلم مقارنة بالرواية، فقد أشارت إلى أنه عمل غير متوازن بدا فيه المخرج حذرًا إلى حد المبالغة فى التزامه بالنص الأصلى، قد خشى من إدخال أى عنصر غامض قد يبتعد عن النص الأصلى، وهو ما أفقده روحه العاطفية.
بين نظرة كازو إيشيجورو المتفهمة لحدود روايته الأولى واحتفائه بتحويلها إلى فيلم يحمل طابعًا بصريًا معاصرًا، وآراء نقدية اعتبرت أن العمل فشل فى التقاط روح الرواية رغم التزامه بحبكتها، تتجدد الإشكالية القديمة حول العلاقة بين الأدب والسينما، طارحة أسئلة ستظل قائمة مع كل محاولة جديدة للانتقال من الورق إلى الشاشة.