الخميس 17 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

صفحات من مذكراتهم

سلـوى بكر: ظللت ربع قرن أخاف من الكتابة

سلوى بكر
سلوى بكر

- قرأت لكبار الأدباء والمفكرين عبر الصحف.. وكنت أشتريها من مصروفى الشهرى البالغ 30 قرشًا

- نظرتى إلى النساء مختلفة لأننى تربيت بين الأرامل والمطلقات وغير المتزوجات

- «ز ينات فى جنازة الرئيس» هى البداية الحقيقية لى فى عالمالكتابة

- سجّانة شجعتنى على الاختلاط بالجنائيات: «هتقعدى لوحدك وهتزهقى» 

- حكيت تجربة الاعتقال فى «العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء»

تفتح الروائية الكبيرة سلوى بكر أرشيف ذاكرتها الشخصية والإبداعية، لتقدم للقارئ وثيقة أدبية نادرة تروى فيها تفاصيل نشأتها التى شكّلت وعيها الأدبى، وكيف تحوّلت طفولتها وبيئتها الأولى إلى بذور لأعمالها الروائية الخالدة. 

من خلال فصول هذه المذكرات، التى خصت بها «حرف»، نعيش مع سلوى بكر أيام النشأة الأولى، والقراءات التى شكّلت أفكارها، فى زمن تميّز بوجود مكتبة فى كل حى، فضلًا عن تفاصيل الكتابات الأولى لشابة كانت «تخاف من الكتابة».

تكشف عن الدور المحورى الذى لعبه الناقد شعبان يوسف فى دعمها، حين قدّم أعمالها الأولى للكاتب الكبير يحيى الطاهر عبدالله، فى لحظة كانت بمثابة شهادة ميلاد حقيقية لموهبتها، ثم تعرج على لحظات التحول الكبرى فى مسيرتها، مثل لقاءاتها مع عمالقة الأدب مثل نجيب محفوظ.

هذه المذكرات ليست مجرد سيرة ذاتية، بل رحلة فى أعماق المشهد الثقافى المصرى خلال عقود مضت، حيث تتحول الذكريات الشخصية إلى وثيقة تاريخية.. فإلى أبرز ما قالته.

قرأت نجيب محفوظ فى الإعدادى.. و«كليلة ودمنة» أهم كتاب فى حياتى

عندما فتحت عينى على هذا العالم لم أجد لى أبًا، لأنه توفى وأمى حامل بى فى شهرين، بعد ذلك، وكعادة الصعايدة، تزوجت أمى من عمى، وأمى أصلًا من الصعيد، تحديدًا من مركز أرمنت بمحافظة الأقصر، وحتى الآن ما زال لدىّ أقارب صعايدة من هناك.

كان والد أمى وشقيقها يعملان فى مصنع قصب السكر الشهير فى أرمنت، وهذا وفر لها فرصة لدخول مدرسة «نوتردام دى سابوتر»، وهى مدرسة أنشأها الفرنسيون فى مصر لتعليم أبناء شركة مصنع السكر فى أرمنت، تلقت أمى تعليمها بداخلها، وأصبحت محبة ومتذوقة للفنون بأشكالها المختلفة، فنون وتطريز، وغيرهما.

نشأت أنا فى كنف هذه السيدة الجميلة ووسط هذه البيئة الخصبة، وجدتى لأمى كانت قاهرية من الحسين، وتجيد الحكايات الشفهية بشكل عظيم، كانت تحكى لنا حكايات، وعندما كبرت عرفت أنها تعود إلى عصر الفاطميين وتواترت عبر الألسنة شفاهة حتى حكتها لنا جدتى.

لم أدرك عظمة هذه الحكايات فى وقتها، أدركت ذلك حين كبرت، وبالطبع نسيت معظمها، وإن كان بعضها لا يزال باقيًا فى الذاكرة. أذكر أنها كانت عن الشيوخ والقابلات الذين كانوا يأكلون الأطفال من شدة الجوع، وهى أمور تحدث عنها «المقريزى» فى كتابه المهم «كشف الغمة فى إغاثة الأمة»، الذى خصصه لأسباب «الشدة المستنصرية».. جدتى كانت رافدًا مهمًا جدًا لإلهاب خيالى بالحكايات.

أبناء خالة أمى كانوا من الرعيل الأول الذى تعلم فى الجامعة المصرية، شاركوا فى ثورة ١٩١٩، وكلهم كانوا مدرسين فى مدارس: الخديوية وإمبابة الثانوية وشبرا، كانوا مجايلين لعظماء منهم شوقى ضيف ومحمود غنيم شاعر «أبوللو»، والفنان «بيكار» الذى كان مُدرسًا بمدرسة إمبابة الثانوية، و«المازنى» بالطبع، الذى كنا نزور أسرته فى بيتهم بحى الدقى بحكم معرفتنا بالعمة «زينب» شقيقة «المازنى»، وهو ما فعلناه أيضًا مع محمود غنيم وزوجته حكمت غنيم.

أبناء خالة أمى هؤلاء كانوا يسكنون بجوار ملهى «الكيت كات»، الذى تحول إلى مسجد فيما بعد، وكانت لديهم مكتبة ضخمة وعظيمة، كلها مجلدات من ذوات الكعب الكبير، وكانت الكتب مذهبة ومطرزة بعناية فائقة، ولديهم بيت واسع وكبير، وكل من فى البيت مثقفون، كنت أقضى عندهم إجازة الصيف كاملة، أجرى وأرمح بين الكتب، وهناك- لأول مرة- عرفت القراءة، فقرأت «العبرات والنظرات» لـ«المنفلوطى»، وقرات نجيب محفوظ لأول مرة وأنا طالبة فى الإعدادية.

قبل ذلك بكثير كنا فى مدرسة، كل فصل من فصولها به مكتبة، وكانت هناك مجلات للأطفال مثل سلسلة «المكتبة الخضراء» وغيرها. أذكر أنه فى الصف السادس الابتدائى كانت تُقرر علينا قصص جاذبية صدقى، وروايات صغيرة للصبية، وبعدها تعرفت على شىء مهم جدًا، كان يمثل تقليدًا جميلًا يحدث فى مصر، وهى مكتبة الحى، فكل حى من أحياء مصر كانت به مكتبة تتبع البلدية.

من هذه المكتبات مكتبة «الزيتون»، التى تقع فى بقعة جميلة وهادئة، وهى عبارة عن بيت جميل، كنا نذهب إليه ونستعير الكتب لمدة ١٥ يومًا، ثم نرجعها لنستعير غيرها، وهنا بدأت أتذوق القراءة. وأذكر أنه كان هناك وقت فى المدرسة للقراءة الحرة، وقرأت فى هذه الفترة أحب الكتب إلى قلبى: «كليلة ودمنة»، وهو أهم وأجمل ما قرأت وتأثرت به كثيرًا، كتاب خيالى تربوى لا حدود للخيال فيه.

إلى جانب «كليلة ودمنة»، كان لـ«ألف ليلة وليلة» قصة غريبة معى: كان جدى من أتباع الطرق الصوفية، وصديق شخصى لوالد الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجى، أستاذ الأدب الشعبى العظيم، وكلاهما له شيخ صوفى يتبعانه، وجدى هو من صمم منبر المسجد الشهير للشيخ أبوالحجاج فى الأقصر. من هنا كان ممنوعًا علينا قراءة «ألف ليلة وليلة»، خاصة أنه كان يؤمن باعتقاد غريب وهو أن «قراءة ألف ليلة وليلة تخرب البيوت»، وهذا الاعتقاد ظل معى لفترة طويلة، كنت مؤمنة بكلامه حتى قرأتها فيما بعد.

سُبل القراءة وقتها كانت كثيرة ومُتاحة بصورة كبيرة، مع وجود مسابقات للقراءة فى المدارس. ومكتبة المدرسة الإعدادية مثلًا كانت كبيرة جدًا، ونستعير منها الكتب، ومنها إلى مكتبة الثانوية العامة. هذه الأمور اختفت، وأعتقد أننى وأبناء جيلى محظوظون بفكرة المكتبة وتعدد سبل القراءة.

كان هذا المناخ العام الذى نشـأت فيه، المسارح كلها كانت بـ١٠ قروش، هناك مسارح الدولة، والمسرح اليونانى، ومسرح الجيب العالمى، ولو بتحب المسرحيات المعاصرة فهناك مسرح الطليعة، ولو بتحب المسرحيات الكلاسيك هناك المسرح القومى، وعظماء أهل الفن يقدمون المسرحيات باستمرار، وسط بيئة حاضنة تمهد لخروج كُتاب كثيرين. 

بدأت الكتابة فى سن الـ25.. وعملى الأول أبهر يحيى الطاهر عبدالله

فى أيامى الأولى، أيضًا، كنت أتابع الصحف يوميًا، أنتظر «الأهرام»، «ملحق الجمعة» تحديدًا، لكى أقرأ لفتحى غانم وخليل قاسم وإحسان عبدالقدوس، قرأت لكل الكُتاب الكبار، وأيضًا كانت هناك «روز اليوسف» و«صباح الخير»، و«كاريكاتير» وأفكار جديدة متحررة. كل هذ أسهم بشكل أو بآخر فى تشكيل وعى هذا الجيل. 

أذكر أننى فى المرحلة الثانوية كنت أحصل على مصروف شهرى يبلغ ٣٠ قرشًا، بواقع قرش صاغ كل يوم، ومنه كنت أشترى مجلات: «الفكر المعاصر» و«الرسالة» و«الطليعة» و«الهلال» والتى على صفحاتها قرأت لكتاب كبار مثل رجاء النقاش ولويس عوض، وغيرهما.

تابعت على صفحات الجرائد والمجلات معارك فكرية عديدة، من بينها المعركة الشهيرة بين محمود عباس العقاد وصلاح عبدالصبور، على صفحات جريدة «الاهرام» تحديدًا، تلك المعركة التى دارت عن الشعر الحديث، وكان المسئول عن هذه الصفحة فى «ملحق الأهرام» آنذاك هو الكاتب الكبير لويس عوض.

كل هذه كانت روافد لى لمعرفة طريقى للكتابة، ظللت أقرأ حتى الـ٢٥ من عمرى، وكتبت أول أعمالى فى هذه السن، بدأت الكتابة متأخرة رغم تعدد كل هذه الروافد، وذلك لأننى كنت أخاف من الكتابة، فالكتابة عندى ليست بالبساطة التى يتخيلها البعض. 

كنت أكتب وأخبئ ما أكتبه ولا أجعل أحدًا يراه، ظل هذا حتى انخرطنا فى الحركة الطلابية عام ١٩٧٢، وقتها عرفت الشاعر شعبان يوسف، الذى كان يعد مجلة باسم «كتابات»، رفقة رفعت سلام، وسألنى فى إحدى المرات: «هل تعرفين من يكتب قصصًا؟»، فقلت له: «أنا أكتب قصصًا»، فاندهش وقال لى: «أين هذه القصص؟»، فأعطيته كراسة صغيرة بها مجموعة من القصص التى كتبتها، وحين قرأها أعجبته جدًا، وكانت دهشته كبيرة.

أخذ شعبان يوسف هذه القصص وأعطاها ليحيى الطاهر عبدالله، فـ«يحيى» سأله عن كاتبها، فقال له «شعبان»: «بنت اسمها سلوى أحمد»، فقال له «يحيى»: «أريد التعرف على هذه البنت»، فأبلغنى شعبان يوسف بأن يحيى الطاهر عبدالله يريد مقابلتى.

وقتها يحيى الطاهر عبدالله كان يسكن فى «المدبح»، حيث يقيم فى شقة مؤجرة من غرفتين، وحين وصلنا إلى بيته ووقعت عيناه على عرفنى بشكل جيد جدًا، ثم قال مخاطبًا شعبان يوسف: «هى دى البنت اللى بتقول عليها؟ أنا عارفها كويس جدًا»، ثم أبلغنى بإعجابه بما كتبته من قصص.

بعدها جاء محمود بقشيش، وكان رجلًا عظيمًا، يعد مجلة أخرى مثل شعبان يوسف ورفعت سلام، تحمل اسم آفاق ٧٩»، وكان يأخذ القصص من الأدباء، ويكتبها على الآلة الكاتبة، ثم ينشرها فى مجلته بإخراج وتصميم بسيط، ويوزع المجلة باليد، وعلى نفقته الخاصة.

نشر «بقشيش» لكثير من الكتاب، منهم يوسف أبورية وسهام بيومى وجمال الغيطانى وجميل عطية إبراهيم، لكن الغريب والعجيب أنه حين وزع قصصى على الأدباء حدثت ما تشبه «الهزة الكبيرة»، وقالوا عن مجموعتى القصصية آنذاك: «القصص التى هزت الأوساط الثقافية». بالطبع كان هناك بعض السخرية فى ذلك.

أكتب عن ناس «من لحم ودم».. و«غير المرئيين» اهتمامى الأول

مجموعتى القصصية الأولى لم يكن فيها خروج على المألوف أو السائد، ولا حتى كسر لأى «تابو»، لكن هذا الالتفات القوى إليها هو ما جعلنى أفكر فى المجموعة القصصية التالية: «زينات فى جنازة الرئيس»، التى يمكن اعتبارها البداية الحقيقية لى فى عالم الكتابة.

«زينات فى جنازة الرئيس» هى مجموعة قصصية نشرتها على نفقتى الخاصة، ومن قدم لى رسومها الداخلية هو بهجت عثمان، رسام «الكاريكاتير» الكبير، وحدث معها بالضبط ما توقعته، فحينما نشرتها انتشرت على قطاع كبير، وتقريبًا لم يكن هناك ناقد لم يكتب عنها، وعلى رأسهم الدكتور على الراعى، والدكتور محمد حامد النساج، والناقد إبراهيم فتحى.

من خلال هذه المجموعة بدأت ألفت الانتباه بشكل كبير لكتابتى، والمخرجة الكبيرة إنعام محمد على أخذتها وقدمتها فى السهرة التليفزيونية «نونة الشعنونة»، من بطولة سوسن بدر وحنان ترك ومخلص البحيرى وماجدة منير وغيرهم، وكتب لها السيناريو والحوار لميس جابر.

من هذه اللحظة بدأت اتعامل مع نفسى ككاتبة، وجدت فى نفسى ميلًا كبيرًا جدًا للمهمشين، أو يمكن أن نقول «غير المرئيين»، وهم الذين لا تراهم عدسة الكاميرا. دائمًا ما كنت أتساءل عن هؤلاء: لماذا هم غير مرئيين؟ كانت هذه فكرة دائمًا ما تشغلنى فى الكتابة.

هناك مسالة أخرى مهمة جدًا كانت تشغلنى فى الكتابة وهى مسألة غياب العدل، والعدل هنا ليس العدل الاجتماعى، بل العدل الإنسانى، كثيرًا ما أفكر: لماذا هناك غياب للعدل الإنسانى، ووجدت أن العدل دائما معاييره متغيرة، ودفعنى ذلك للكتابة عن ناس «من لحم ودم»، هؤلاء الذين أقصدهم بـ «غير المرئيين».

النساء فى كتاباتى مختلفات، ولذلك أسباب عديدة، بدأت من بيتى نفسه، المكان الذى نشأت وتربيت فيه، فأنا كما قلت نشأت لأم صعيدية ترملت مبكرًا، وهذا وضع لها خطًا لا يمكن تجاوزه، حتى فى علاقاتها الشخصية، فلم تكن تصادق إلا الأرامل والمطلقات أو اللاتى لم يتزوجن من الأساس.

كنت فى هذ المجتمع النسائى الخاص طوال الوقت، ومنهن التمست حكاياتهن ومعاناتهن وأحوالهن البائسة، تلك الحكايات التى لم ولن يعرفها الرجال، لأن الرجال يرون المرأة من زوايا أخرى، تمامًا كما كتب يوسف إدريس عن المرأة من زاويته الخاصة، وهى المرأة موضوع الجنس، تلك التى تُشتهى، والحقيقة هذا النوع من النساء لم يكن يشغلنى على الإطلاق، ما كان يشغل اهتمامى بقوة هو السيدات اللاتى لا يراهن أحد.

ساويرس بن المقفع ألهمنى «البشمورى».. ولولاى ما علم أحد بالواقعة

أما عن «البشمورى»، فهى تدور حول ثورة «البشموريين»، هل تعتقد أن أحدًا كان يعرف أو سمع أو حتى اهتم بهذه الثورة قبل الرواية؟ لقد انجذبت إلى الموضوع من منطلق عشقى لقراءة التاريخ، خاصة تاريخ القرون الأولى والعصر الوسيط، ورغم أن هناك بعض المعلومات المتاحة عن هذه الفترات، فإن معرفتنا بها سطحية وضحلة.

كنت أقرأ بنهم لأتعمق فى هذا العالم، ولفتنى ساويرس بن المقفع، ذلك البطريرك الذى كتب عن تاريخ الكنيسة، وكان فى حد ذاته شخصية استثنائية. مع بدايات انتشار الإسلام فى مصر، وتحوُّل عدد كبير من المصريين إلى الدين الجديد، صارت الصلوات تُقام بالقبطية واليونانية داخل الكنائس. وهنا شعر «ساويرس» بالخطر، إذ أدرك أن اللغة- وبالتالى الدين والتراث - قد تتلاشى، فقرّر تعلّم العربية التى لم يكن يجيدها، وبدأ توثيق التاريخ الكنسى من الأديرة والكنائس المختلفة.

كتب «ساويرس» كتابه الشهير عن بطاركة الكنيسة السكندرية، ووثّق فيه الحوادث الكبرى التى شكّلت مسار التاريخ، ولأنه حديث العهد بالعربية، جاءت لغته مزيجًا من الترجمة والتجريب، وكأنك لو حاولت اليوم كتابة رواية بالفرنسية بعد تعلّمها لتوّك. كان يدمج فى كتاباته فقرات بالقبطية وأخرى باليونانية، ووقعتُ فى افتتان بلغته، بلغتها الوعرة والنبيلة معًا.

من هنا انطلقت رغبتى فى الكتابة عن ثورة «البشموريين»، تلك السلسلة الطويلة من التمرّدات التى اندلعت ضد الحكمين الأموى والعباسى فى القرنين الثامن والتاسع الميلادى، واستمرت على مدى ما يقرب من قرنين. 

بدأت أفتّش وأبحث، لأكتشف مدى غموض هذه الثورة، بل غموض هوية البشموريين أنفسهم، البعض يقول إنهم لم يكونوا مصريين، والبعض الآخر يؤكد أنهم سكّان منطقة «بشمور» بين فرعى دمياط ورشيد شمال الدلتا.

ألفت «نونة الشعنونة» عن خادمة تلقت تعليمها من نافذة مطبخ يطل على مدرسة

حين كتبتُ «زينات فى جنازة الرئيس»، كنت أستعيد مشهدًا ظلّ عالقًا فى ذهنى: أمى وصديقاتها فى إحدى الجلسات، يتناقشن بحماسة عن رغبتهن فى إرسال خطابات للرئيس جمال عبدالناصر يطالبن فيها بزيادة المعاش. من تلك اللحظة البسيطة تأسّست القصة.

أما «نونة الشعنونة»، فقد استُلهمت من حكاية «أبوسريع»، الذى أرسل ابنته «نعيمة» للعمل فى أحد بيوت القاهرة لتعاونه على نفقات الأسرة. ومن نافذة مطبخ ذلك البيت، تابعت «نعيمة» دروس مدرسة ابتدائية مجاورة، ففهمت وتعلمت وتفوّقت على ابنة صاحبة المنزل، التى أغلقت النافذة ذات يوم حتى يحرمها من التعليم، ثم يخبرها والدها بقراره تزويجها لأحد أقاربه مقابل مهر تقاضاه، فتهرب «نعيمة» وتبدأ رحلة تعلم جديدة.

القصة بدأت حين زارتنى صديقة والدتها، ابنة عمدة من الشرقية، وصادف الحديث عيد الأم، وقالت لى إنها قررت إهداء والدتها تليفزيونًا بمناسبة دخول الكهرباء إلى قريتهم. وطلبت أن أرافقها من القاهرة، ومعنا الجهاز. كان يومًا استثنائيًّا؛ أهل القرية خرجوا عن بكرة أبيهم لاستقبالنا، وكلهم تجمعوا لمشاهدة الجهاز العجيب الذى ينطق بالصوت والصورة.

وشغّلنا التلفاز، ولسوء الحظ، كان أول ما بثّه درس فيزياء للثانوية العامة. لم نكن نعلم أن هذا وقت البرامج التعليمية. تخيّل! قرية من الفلاحين مشدوهين بشاشة تشرح قانون «نيوتن»، يثبتون فى أماكنهم، مأخوذين بالرجل داخل الجهاز. لكن ما إن قال أحدهم إن هذا وقت السيد الضوّى و«الأبنودى» حتى قام الجميع دفعة واحدة وذهبوا إلى الراديو ليستمعوا إلى السيرة الهلالية. ظلّ هذا المشهد حيًّا فى ذاكرتى، وأثمر لاحقًا عن «نونة الشعنونة»؛ عن بنت تعلّمت من نافذة مطبخ.

أنا أحب كتابة هذه النماذج. هؤلاء هم الأغلبية الساحقة من الناس، الذين لا يراهم الآخرون. حتى الفنانون حين يرسمون الفلاحات، يلبسونهن الشال ويبتعدون عن صورتهن الحقيقية. لكننى كنت، دائمًا، أستحضرهن فى كتابتى، لأننى أؤمن بأنهن الأحق بأن يُجسّدن أدبيًّا، وأن يكنّ بطلات لأعمال تُسائل العالم عن أحلامهن، وألمهن، ومكانتهن فى هذا الكون.

لست من الكاتبات اللواتى يمتلكن سيرة ذاتية يمكن أن تُجسَّد أدبيًّا بكل ما فيها من محطات لامعة، سوى إننى عايشتُ تجارب شكّلتنى كإنسانة وكاتبة. واحدة من أهم تلك التجارب كانت الاعتقال، تجربة خاصة جدًّا لم تخلُ من المعاناة، فقد كنت السجينة السياسية الوحيدة حينها.

تجربة الحبس فى حد ذاتها موجعة، فالسجن مكان حقير بطبيعته، يُجرّد الإنسان من حريته وخصوصيته. ومع ذلك، لم يكن هناك أذى مباشر موجّه لى، سوى ما حملته تلك التجربة من قسوة نفسية. لم يكن يُسمح للسجناء السياسيين بالاختلاط، لكن السجّانة المشرفة على زنزانتى بادرت ذات يوم وقالت لى: «هتقعدى لوحدك وهتزهقى».

من هنا، بدأت تفتح لى باب الزنزانة لأقضى وقتى مع السجينات، ثم أعود مساءً لغرفتى، ويُغلق الباب. كانت اتفاقية إنسانية صامتة، دفعتنى لاحترام من يؤدّين عملهن برحمة. مع السجينات، عشت لحظات لا تقل عمقًا عن تلك التى كنت أشاركها مع والدتى وصديقاتها. آنذاك، كانت ابنتى فى عامها الثانى، ولم أكن قد أنجبت ابنى «حليم» بعد.

سمعت حكايات مذهلة من النساء، وكثير منها لم يغادرنى حتى اليوم. كتبت عن بعض النماذج فى روايتى «العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء»، التى كتبت عنها لطيفة الزيات مقالة مطوّلة، لكننى لم أكتب عن جميع من مررن بى.

القصص كانت بالغة الواقعية لدرجة يصعب تصديقها، وربما لا أحدًا يصدق أن الحياة يمكن أن تكون بهذا العبث والعنف. لكننى تعلّمت هناك أن الواقع أكثر غرابة من الخيال أحيانًا.

من القصص التى لم أكتبها، حكاية سيدة من الصعيد، تزوّجت من ابن عمّها وأنجبت منه ٣ أطفال، ونشب خلاف بينه وبين شقيقها، فأقدم على قتل شقيقها، ولتجنّب الثأر، أجبرها أهلها على الاعتراف بأنها هى من قتلت. فحكم عليها بالسجن المؤبد، وقضت فيه ١٨ عامًا بلا ذنب، ولم تر أبناءها طوال تلك المدة.

كانت مشكلتها الكبرى أنها لم تكن تعرف إلى أين تذهب بعد الإفراج عنها، إذ لم يكن لها أحد فى القاهرة. تخيّل أن تصبح الحرية مصدرًا للرعب، وأن تتحوّل جدران السجن إلى مأوى أكثر أمنًا من العالم المفتوح، عندها أدركت أن الخارج قد يكون سجنًا أكبر من الزنزانة، وأن بعض الأقدار تسجننا دون قضبان.

توفيق صالح طلب منى سيناريو فيلم وخاصمنى بحجة أن الكتابة لم تعجبه

كنت أذهب لرؤية نجيب محفوظ، وكانت أول مرة ألتقيه فى الندوة التى كان يعقدها بمقهى «ريش» عقب صلاة الجمعة. كنت حينها طالبة فى الجامعة. 

لاحقًا، بدأ يحضر بعض الندوات التى يقيمها الدكتور يحيى الرخاوى فى مستشفاه للطب النفسى بالمقطم، لكنه فى تلك الفترة لم يكن يسمع جيدًا، والشخص الذى قدّمنى له أو كان يتحدث عنى أمامه هو المخرج توفيق صالح، بسبب مشروع تعاون بينى وبينه فى فيلم سينمائى.

اتصل بى توفيق صالح حينها وأخبرنى بإعجابه بكتابتى، وطلب منى إعداد عمل سينمائى عن المرأة، وتعرّفت عليه، وكان يزورنى فى منزلى، وكنّا نقضى ساعات طويلة فى كتابة السيناريو، ورغم دراستى للسيناريو، كنت أكرهه. 

استمر تعاوننا شهرين، كتبنا خلالهما أكثر من سيناريو، لكنه لم يعجبه أى منها، وفى النهاية أخبرنى بأنه أعلن عن الفيلم، وكانت «لوسى» ستقوم ببطولته، ثم غضب منى، وقطع علاقته بى.. ردّى جاء من خلال قصة قصيرة ساخرة بعنوان «لماذا لا تكتبين القصص؟»، وثّقت فيها ما جرى بيننا. 

الدكتورة فريال غزول، رئيسة قسم الأدب فى الجامعة الأمريكية صديقتنا المشتركة، اطلعت على السيناريوهات وأشارت إلى أن أحدها جيد جدًا، لكنه تخلى عن فكرة الفيلم. ظللنا على خلاف إلى أن التقينا بالصدفة فى مكتب مديرة معهد «جوته» فى القاهرة، فتصافينا، وعلمت لاحقًا أنه فعل الأمر نفسه مع العديد من الكتّاب.

بحكم اقترابى من الحياة الثقافية، كنت أعرف معظم الكتّاب الآخرين مثل صنع الله إبراهيم وجمال الغيطانى وإبراهيم عبدالمجيد وسعيد الكفراوى، وسافرت معهم إلى بلدان عدة. لكن كان هناك اثنان أحببتهما جدًا: سليمان فياض وعبدالحكيم قاسم، لما كانا يتمتعان به من إنسانية نادرة مع الناس ومعى شخصيًّا، وجمال روحى آسر. فعلًا، ربما أحببتهما أكثر من أى أحد.

عرفت أيضًا مجيد طوبيا وجميل عطية إبراهيم، وكنا نجلس كثيرًا فى «زهرة البستان» رفقة مثقفين وكتّاب وفنانين، حيث كانت تدور حوارات جادة ومثرية. 

من الكاتبات عرفت أليفة رفعت وابتهال سالم. أذكر مرة أننى سافرت مع جمال الغيطانى إلى ألمانيا للمشاركة فى ندوة مشتركة فى معهد «جوته» المركزى فى ميونيخ. قبل الندوة شعرنا بالجوع، فدخلنا مطعمًا وأعطونا ورقة لم أفهمها فرميتها، انتظرنا طويلًا دون أن يأتى الطعام. وعندما استفسرنا، طلبت الموظفة الورقة، وحين أخبرتها بأننى رميتها غضبت، وقالت إنه دون الورقة لا يمكننا الحصول على الطعام. حاولنا الخروج فرفضت، وبدأنا نبحث أسفل الطاولات وسط نظرات الناس، فى مشهد لا يُنسى، ولم نجد شيئًا. أخيرًا توجّهنا للمدير، وأخرجنا جوازات السفر، فسمح لنا بالخروج دون أن نأكل قبل الندوة.

عرفت أيضًا نعمات البحيرى ولطيفة الزيات، لكن لم يجمعنا تواصل وثيق سوى فى بعض المناسبات، ومنها رحلة إلى المغرب. أما رضوى عاشور فكانت منشغلة بالجامعة، ولم تكن ترتاد الأوساط الثقافية كثيرًا، على عكس الشباب آنذاك مثل ابتهال سالم.

سجينة طلبت منى كتابة رسالة لوزير العدل: «قتلت زوجى لخلاف عائلى.. فما دخل الدولة؟!» 

أما النموذج الآخر الذى لم أكتب عنه، فكان لسيدة قتلت والدها بمعاونة أمّها، لأسباب عائلية. حُكم عليهما بالمؤبد، وتقضيان العقوبة معًا فى نفس العنبر. حين علِمتا أننى سجينة سياسية وأُجيد الكتابة، طلبتا منى أن أكتب رسالة إلى وزير العدل وقتها، فاروق سيف النصر. فى رسالتهما، أرادتا أن توضحا له أن ما جرى «موضوع عائلى» لا دخل للشرطة فيه- فهما من قتلتا الأب، فما شأن الدولة؟!

كنت أضحك من منطقهن. كنّ يتحدّثن بكل سذاجة ويقين، وكأن هذا النوع من القتل يحدث فى كثير من البيوت، ويجب ألا يتدخل فيه القضاء. لكن حين تأملت المسألة أكثر، أدركت أنهنّ آتيات من قرية نائية فى الصعيد، حيث الدولة غائبة تمامًا عن يومهنّ- لا أمن، لا خدمات، لا بنية تحتية. لذا، بدت لهنّ تدخلات الدولة، حين وقعت، غريبة وغير مفهومة.

قابلت أيضًا سيدة من العريش، ابنها كان بطلًا فى حرب أكتوبر ونال وسام نجمة الشرف العسكرية. اعترفت على نفسها بجرم لم ترتكبه حتى لا يُسجن ابنها وتضيع حياته. كانت تقضى عنه العقوبة، وفى قلبها أمومة تتجاوز الملامح المألوفة للتضحية.

لا تقتصر الحكايات على السجينات فقط، بل تمتد إلى السجّانات أنفسهن. أتذكّر إحداهن من سكان الوراق، وكانت تعمل فى سجن القناطر أثناء بداية حفر مترو الأنفاق. لديها طفل صغير، وكانت الطرق صعبة جدًّا، فبدأت تترك طفلها مع السجينات طوال الأسبوع، وتعود لتأخذه فقط يومَى الخميس والجمعة. الغريب أن السجينات تنافسن جميعًا على رعايته، فكان مدلّلًا على نحو لم أره فى حياتى، وأيقظ فى كثيرات منهنّ مشاعر أمومة خامدة. تخيّل هذا المشهد: سجينات يتناوبن على الإرضاع والرعاية، فقط ليظل الطفل فى أحضانهن. 

كلّ هذه النماذج عشتُها فى ١٥ يومًا فقط، هى مدة اعتقالى كسجينة سياسية. لكن فى قلبى، شعرت أنّنى قضيت عمرًا كاملًا فى تلك الأيام. لو طالت المدة، لكنت عرفت المزيد، وربما تغيّرت كتابتى إلى الأبد.

حين كتبتُ «العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء» ترجمت إلى أكثر من ١٧ لغة، لا لأننى كتبت عن السياسة أو السجن، بل لأننى كنت أكتب عن الناس، عن الجوهر الإنسانى المختبئ خلف القضبان، الممنوع من البوح، والمستحق للاهتمام.

أنا أكتب عن هؤلاء، عن المهمّشين الذين يمرّون بنا يوميًا دون أن نراهم. ليست المسألة واقعية أو سياسية فقط، بل مسألة انحياز للإنسان فى أكثر حالاته هشاشة. 

تمامًا كما فعل يوسف إدريس حين كتب عن عمال التراحيل، أو حين كتب طه حسين عن «المعذّبون فى الأرض» و«دعاء الكروان»؛ تلك النماذج التى جاءت من قاع المجتمع، لكنها تنتمى إلى جذره، إلى تربته، إلى الشجرة التى تحملنا جميعًا.