السبت 07 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

كريم القاهرى: قضيت 10 سنوات فى «مطبخ الكتابة» فخرجت بـ«غيمة».. والهندسة أفادتنى فى البناء

كريم القاهرى
كريم القاهرى

- المحبة الشخصية والتمرد فى الرواية وراء كتابة إهدائها لسيد درويش 

- وجود مفردات عامية «متعمد» لأنى أكتب عن «مطبعجى» 

- القصة القصيرة فن أهابه جدًا وضرورى أن يمر به أى كاتب رواية

- انتهيت من عمل جديد شعبى.. وهذا النوع من الكتابة ما زال «بِكرًا»

بعد 10 سنوات من الصمت الإبداعى، يعود الكاتب كريم على القاهرى بعمل روائى يُعلن من خلاله عن تحوله من فن القصة القصيرة إلى فضاء الرواية الأوسع.

فى 2015، أصدر «القاهرى» مجموعته القصصية الأولى «إنسانزم». ورغم أنها لاقت صدى نقديًا لافتًا، ظلّ يعمل فى صمتٍ طويل، يقرأ ويكتب ويُعيد التشكيل، حتى اكتملت لديه روايته الأولى «غيمة»، بعد 10 سنوات من التجريب والبحث. 

فى حواره التالى مع «حرف»، يكشف كريم على القاهرى عن كواليس هذه الرحلة الإبداعية الطويلة، وكيف تحوّل من كاتب قصص مكثَفة إلى روائى يبنى عوالم متخيلة أكثر تعقيدًا، ويحكى ما الذى تغيّر فى تجربته، وما التحديات التى واجهها فى كتابة «غيمة».

■ ١٠ سنوات فاصل زمنى بين صدور مجموعتك القصصية الأولى «إنسانزم» وإطلاق أولى رواياتك بعنوان «غيمة» مؤخرًا.. لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟

- أولى تجاربى فى النشر كانت مجموعتى القصصية الأولى «إنسانزم». بعدها دخلت إلى مطبخ الكتابة، فى فترة كانت بمثابة إعادة حسابات، ومرحلة تدريب كبيرة وتطوير على مستوى اللغة والرؤية.

كنت أختار وأبحث عن الأدب الذى أنتمى إليه، أكتب وأقرأ يوميًا، ولى عدة قراءات نقدية فى أعمال صدرت خلال هذه الفترة. ظللت كذلك حتى ألحت على عقلى فكرة «غيمة»، وبدأتها وأنهيتها خلال ٣ سنوات، والفكرة تغيرت وتطورت أثناء عملية الكتابة حتى صدرت على ما هى عليه.

■ تُظهر «غيمة» انشغالك بفكرة الاعتراف من خلال شخصية «خلف»، الذى يعتبر الراوى الرئيسى فى الرواية.. ما السر وراء ذلك؟

- فى الأصل لدىّ هوس بالسير الذاتية، وفكرة الاعتراف تشغلنى، وهذا واضح فى الرواية فعلًا. كنت مشغولًا أيضًا بفكرة الحى، أردت أن أكتب عن حى ما، ومن خلاله أعبر عن الأسئلة التى تشغلنى، والمواضيع التى أريد أن أتناولها، مثل علاقة المادى بالمعنوى.

لذا تجد فى الرواية دائمًا ثنائيات، مثل الأب والابن، وتجد أيضًا «الراوى العليم»، وهو الشخص المزوّر، الذى تجد عنده علاقة صداقة مع «كمال عزازى» العاطفى جدًا. كما أن فكرة التجريب تدخل فى طريقة الرواية نفسها، من خلال «الورق الأبيض والورق الملوّن».

■ الرواية تدور حول «مُزوِر».. هل عرفت أشخاصًا مشابهين فى حياتك وتعرفت منهم على هذا العالم؟

- لم أفعل ذلك، لكن ما استفزنى لطرح الموضوع هو الكيل بمكيالين، أو استحلال شىء ليس من حق الشخص، مثل السرقة. إذا أوقفت شخصًا على «فَرشة كتب» فى الشارع وسألته: هل الكتب المزورة هذه سرقة أم لا؟ قد لا تكون لديه هذه القناعة راسخة فى ذهنه، بل إنه قد لا يملك هذه القناعة أصلًا، رغم أنها سرقة، عكس سرقة هاتف مثلًا.

هذه القناعة بأن استحلال حقوق الملكية الفكرية سرقة ليست موجودة، وليست راسخة فى العقل الجمعى باعتبارها سرقة. بالعكس تجد «فرشات الكتب» فى الشارع، بجانبها مثلًا أفراد أمن يقفون وكأن هذا ليس من اختصاصهم، رغم أن تزوير الكتب بُفسد صناعة النشر برمتها.

■ قلت إنك استخدمت تقنيات مثل «الورق الأبيض والملون» و«الراوى العليم» فى الرواية.. ما الذى تعنيه؟

- هى جزء من العمل. أنا أصلًا مشغول بفكرة السرد، وفكرة «الراوى العليم» هذه مرتبطة بى، لأننى يهمنى كيف سأروى، أريد أن أجرب قول شىء جديد بطريقة جديدة، هذا ما يشغلنى.

فكرة «الراوى العليم»، التى أصبحت موضة قديمة، كانت تستفزنى شخصيًا. كنت وما زلت أقول: الأسلوب ليس موضة أزياء. أعطيت سببًا لاختيار اسم الراوى، هو التخفى، لأنه فى هذا العمر لن يكون فى موقع مساءلة. كما أنه حين كان يعمل «مطبعجى» سمع فكرة «الراوى العليم» والتصقت به، فأصبحت لديه قناعات، واستفزّه هذا، فتخفى وراء الراوى الذى يحكى.

■ فى أول الرواية ذكرت أن «الراوى العليم» نفسه يعانى من «ألزهايمر».. هل كان هذا حيلة سردية؟

- كنت أقصد أن تكون حيلة فعلًا، لأنه قد يكون كل ما رواه قد حصل أو لم يحصل، قد يكون صحيحًا أو لا، والقارئ هو الذى يقرر، وهذه من ضمن الحيل التى أبحث عنها دائمًا أثناء الكتابة، لأنى أريد الدهشة، أريد أن يشعر القارئ دائمًا بأن ما يقرأه جديد، نحن فى النهاية نقدم فنًا، أريد إبهاره بطريقة جديدة، بطريقتى الخاصة، لا أريد للقارئ أن يشعر أنه رأى النص من قبل، لذا الأسماء فى الرواية كلها غير حقيقية، إلا اسمًا واحدًا فقط هو «حسن».

■ لغة الرواية يشوبها الكثير من المجازات.. ما سر ذلك؟

- هذا يدخل فى صلب السرد، هو مرتبط بالسؤال الأول، فرق الـ١٠ سنوات بين الكتابين الأول والثانى، طبيعة لغتى أنها فيها مجازات كثيرة، وخلال الـ١٠ سنوات هذه، كان من أبرز التحديات التى واجهتها أن أطوّع لغتى، بحيث لا أفقد بصمتى الشخصية التى تتمثل فى هذه المجازات، أو التى تجعلنى أكتب نصًا يعجبنى شخصيًا، لأنه من المهم أن يعجبنى ما أكتبه، وفى نفس الوقت يكون مناسبًا للسياق.

كانت التدريبات اليومية السبيل للوصول إلى حالة رضا دون أن أفقد بصمتى والإعجاب بالنص. لذا كتبت أكثر من ٥٠ افتتاحية، والسبب فى هذه الافتتاحيات هو اللغة، لأنى كنت أريد أن تكون الصفحة الأولى عينة لما سيكمل القارئ قراءته، استخدام التعابير العامية، واستخدام نفس التراكيب، هذه بصمتى اللغوية، أحاول دائمًا ضبطها حسب النص.

■ إذن أنت لست مع الرأى القائل: «كثرة المجاز تضعف النص»؟

- لا، على حسب كيفية استخدامه، والكيفية التى أقدمه بها. وجوده فى رأيى لا يضعف النص طالما أننى ككاتب سأستخدمه داخل الكتابة بشكل صحيح، ويتوقف على ما إذا كان النص نفسه يحتمله، وبأى درجة؟ لأن هناك نصوصًا يضعفها المجاز الكثير فعلًا.

هناك أمر آخر هو الحيلة السردية أو السرد نفسه. أعتقد أن «غيمة» هكذا، الحيل السردية تحتاج المجاز لإتمامها أو إنجاحها، لأن الرواية أشبه بـ«البازل»، وفى «غيمة» تحديدًا كل فصل يكشف جزءًا خفيًا، والمجاز هنا هو التروس التى تساعد على بقاء الدهشة لدى القارئ.

■ رغم أن الرواية مكتوبة بالفصحى تتضمن بعض المفردات العامية.. لماذا؟

- كان ذلك متعمدًا، لأن الشخصيات نفسها فرضت علىّ هذا الأسلوب، فأنا فى النهاية أكتب عن «مطبعجى»، رجل يجلس فى الشارع، لذا من مفردات الرواية: «القهوة»، و«بسيط عبدالهادى»، المساعد الذى يُعتبر صعلوكًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

كان لابد أن تكون هناك وسيلة للكلام العامى، لأننى لا يمكن أن أرسم حيًا أو شارعًا وشخصيات جالسة على القهوة، ثم أضع على ألسنتهم لغة لا تنتمى لهذا المشهد، خاصة ذلك الشخص المتأثر بالأمثال. طابع الشارع والحى يطغى على تفاصيل الرواية. لذا اتجهت إلى تطعيم النص بألفاظ عامية، وأتمنى أن أكون قد وفقت فى هذا.

■ أشرت فى الرواية إلى تعمد بعض المطابع «قص ما يرون أنه منافٍ للدين والآداب العامة» بالاتفاق مع دار النشر».. من أين عرفت هذا المشهد؟

- من خلال القراءة عن كواليس عالم النشر، والمعارك الصحفية، وما يدور حول صناعة الكتاب قديمًا وحديثًا، فكما قلت، خلال الـ١٠ سنوات التى قضيتها بين الكتابين، كنت أقرأ يوميًا.

أنا من محبى قراءة المعارك الصحفية، وكواليس عالم النشر، وهذا ما دفعنى لأن أكتب فى أول رواية لى عن موضوع له علاقة بمشاكل النشر، إلى جانب انشغالى أصلًا بعلاقة المجال الثقافى بالشأن الدينى، و«التناوش» المستمر بينهما.

■ الموضوعات الواردة فى الرواية تُظهر أنك عملت عليها كثيرًا.. أليس كذلك؟

- المواضيع كانت فى ذهنى، كتبت عن كل موضوع منها بشكل منفصل، وما كان ينقصها هو القالب الروائى أو الفنى الذى يجمعها، لأننى يهمنى ألا أتكلم عن موضوع إلا إذا وجدته فى قالب سردى روائى فنى، وإلا سيظهر كأنه مقال.

ما كان يشغلنى هو شكل القالب الروائى أو النص الروائى، كيف سأحكى الحكاية؟ كيف سيكون السرد؟ هذا ما دفعنى أيضًا لفكرة الاعتراف أو فكرة السير الذاتية، كنت أريد تحويل هذه الحالة إلى حالة روائية.

من هنا، جاءت فكرة «الجدار» و«الورق»، لأننى مشغول أيضًا بفكرة البوح، وهو عادة شخصية عندى، لأننى دائمًا أريد أن أكتب على الورق، لدىّ دافع مستمر للحكى، فجمعت كل هذا معًا كى أعبر عن المواضيع والأفكار التى تشغلنى.

■ ما الذى استفدته من الكتابة القصصية فى «غيمة»؟

- فن القصة القصيرة، الذى أهابه جدًا وأعتبره فنًا شديد الأهمية، ضرورى أن يمر به أى كاتب رواية، سواء بالكتابة أو بالقراءة، لأن القصة القصيرة يُنمى موهبة الكاتب فى التكثيف، والوصول إلى المعنى بأدق وأسرع طريقة.

هذا ينعكس بالرواية فى الفصول، لأننى جعلت كل فصل وكأنه قصة قائمة بذاتها. يمكنك أن تقرأ كل فصل منفصلًا وتخرج منه بقصة أو معلومة أو لمحة أوحالة فنية. أعتقد أن هذا تأثر واضح بفن القصة القصيرة، وأيضًا بكتب السير الذاتية. أنا أحب كُتب السير الذاتية، مثل كتاب صلاح عيسى «شخصيات لها العجب»، والذى رغم أنه مكتوب بأسلوب مقالى، يحتوى على سرد روائى، فيه تعبيرات أدبية ووصف أدبى.

إلى جانب «التكثيف»، التقنية الثانية التى استفدتها من القصة القصيرة هى «تيار الوعى»، الذى يعبر عنه الشخص الذى يعانى من «ألزهايمر» فى الرواية، فيأتى السرد أحيانًا مخاتلًا، وهنا يجب على القارئ أن يدقق: هل ما يقوله حقيقى أم يخدعنى، وكأن القارئ نفسه مشارك فى هذه العملية، وهى عملية اكتشاف الرواية، والتى كانت من ضمن الأهداف التى وضعتها لنفسى ككاتب.

من التحديات التى سعيت للنجاح فيها، جعل القارئ مشتركًا معى، فطالما أن القارئ مشترك معى فى تجميع قطع «البازل» التى أبنيها، فأنا نجحت، لأن القارئ يظل يتساءل: يريد أن يعرف، يريد أن يقلب الصفحة، يخمّن معى: هل هذا حقيقى أم لا؟ هذه النقطة التى جعلتنى أكتب كثيرًا وأعيد التنقيح كى أحافظ على هذه «التيمة» والوتيرة، وبالتالى كانت أكثر ما أتعبنى فى كتابة النص.

■ وهل استفدت من عملك كمهندس؟

- أنا مهندس تخطيط، وكما أضع جداول زمنية للمشاريع، أضع جدولًا زمنيًا لأى نص أكتبه. لكن خروج الرواية بهذه الطريقة الهندسية، من حيث الترتيب وطريقة الكتابة وتعشيقة «البازل» مع بعضها، وحتى شخصية المهندس الذى يعانى من أزمة يوم السبت، كل هذا مارسته دون قصد.

قد يكون هذا الجانب الشخصى طغى على النص. لكن أعتقد أننى استطعت عرضه بشكل جيد. وفى النهاية، بالتأكيد النص متأثر بالحالة الهندسية، بصورة أو بأخرى، لا أعرف إن كان هذا التأثر سيستمر معى فى النصوص القادمة أم لا، القارئ هو من سيقرر ذلك.

■ على الغلاف صورة «طفل فاقد إحدى عينيه».. ما الذى ترمز إليه؟

- الغلاف يرمز إلى «غيمة» أو «حسن»، ورؤيتى له مرتبطة بفكرة الطفولة نفسها، هو طفل أعمى، وفى نفس الوقت يُمارس عليه تنمر من شخص، سنفاجأ أنه والده فى النهاية، لذا فإن الغلاف يرمز إلى فكر خطف البراءة منذ الولادة.

■ الإهداء كان موجهًا لسيد درويش فى مئويته.. لماذا؟

- أنا أحب سيد درويش على المستوى الشخصى، هذا أولًا. كما أن النص نفسه فيه نزعة تمردية، شباب يريد أن يعلن عن نفسه، لكنه يقع فى فخاخ كثيرة، فيتمرد بالغناء. وموسيقى سيد درويش أصلًا ذات طبيعة تمردية، تدعو للانتفاض الشخصى والانتفاض العام، ولكن بطريقة فنية.

لذا، وجدت أن موسيقى سيد درويش ملائمة تمامًا لطبيعة النص. كما أننى انتهيت من الرواية عام ٢٠٢٣، الذى وافق مئوية سيد درويش، الذى أحبه كما قلت، فوجدت أنه من الواجب أن أهدى له الرواية، علمًا بأن أول إهداء كان لوالد زوجتى، الذى كنت أتمنى أن يقرأ النص.

■ بما أنك انتهيت من الرواية فى 2024هل بدأت فى عمل جديد؟

نعم، بدأت فى عمل جديد وانتهيت منه وأراجعه الآن، وهو نص شعبى، وأنا أحب النصوص الشعبية جدًا، وأشعر أن هذا النوع ما زال «بكرًا»، لم يُكتب فيه بعد بالشكل الذى أراه مناسبًا. وأظن أننى مهدت لهذا فى «غيمة» من خلال قهوة «بسيط عبدالهادى». أنا من الظاهر والعباسية، ولدىّ ما أقوله عن هذه البيئة، مع إضافة جانب عصرى وحديث، لأننى مشغول بالاشتباك مع الواقع الحالى، والواقعية تشغلنى.