وجه آخر لصاحب التجليات.. هل تسبب فى «جلطة» لصديقه سمير ندا؟

- صديق عمره ذهب للقائه فى «أخبار الأدب» فأرسل سكرتيرته لتقول: «المقابلة بموعد مسبق»
- فؤاد قنديل: وصفه بأنه «واحد ماشى جنب السور» رغم أنه صاحب الفضل عليه
فى يوم عادى بدا كأى يوم، توجه سمير ندا إلى مقر جريدة أخبار اليوم ليلتقى صديقه القديم الأديب جمال الغيطانى، الذى ساعد فى نشر أولى قصصه قبل سنوات طويلة.
كان «ندا» قادمًا للتو من طرابلس، وحين وصل إلى مقر الجريدة، جلس ينتظر بلهفة لقاء صديقه الذى كان له الفضل فى نشر مجموعته القصصية الأولى «أيام الرعب» التى تحول عنوانها لاحقًا إلى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» باقتراح من الأديب يوسف القعيد.
لكن المفاجأة كانت قاسية، إذ أخبره سكرتير «الغيطانى» أن الأديب الكبير لن يقابله، وأن عليه تحديد موعد مسبق إذا أراد اللقاء، وصُدم «ندا» من هذا الرد الجاف، خصوصًا أنه لم يكن على علم بأى خصومة بينهما، ولو علم بذلك مسبقًا، لما تحمّل عناء الذهاب إلى الجريدة.
وغادر المقر محبطًا، وأصيب بحالة من الإعياء النفسى والجسدى، وبعد أسابيع قليلة من هذه الواقعة، سقط فى بيته مصابًا بجلطة، فى حادث أرجعها المقربون منه إلى الصدمة النفسية التى تلقاها من موقف صديقه القديم.

الحزن يقتل أحيانًا
فى شهادة نادرة نشرها موقع «صدى ذاكرة القصة»، كشف الكاتب محمد سمير ندا الذى فاز لتوه بجائزة «البوكر»، وابن الأديب الراحل، تفاصيل اللقاء المأساوى الذى جمع والده بجمال الغيطانى قبل رحيله.
الواقعة بدأت حينما حضر سمير ندا إلى مقر «أخبار الأدب» بعد عودته من طرابلس، حاملًا ذكريات ٣٠ عامًا من العلاقة الأدبية التى بدأت عندما ساعد «الغيطانى» فى نشر مجموعته الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» عبر سلسلة «كتاب الطليعة» التى كان يشرف عليها.
لكن المفاجأة كانت قاسية، فرغم الدور المحورى الذى لعبه «ندا» فى إطلاق مسيرة «الغيطانى» الأدبية- كما يؤكد يوسف القعيد- فإن السكرتير أخبره بأن رئيس التحرير لن يستقبله دون موعد مسبق، وغادر «ندا» المقر وهو يحمل صدمة لم يتعاف منها، ليتعرض لجلطة بعد أسابيع قليلة.
فى شهادته، يصف محمد سمير ندا والده بأنه «كان ينزف حبرًا لا دمًا»، مؤكدًا أن هذه الحادثة كانت الفصل الأخير فى علاقة إبداعية امتدت منذ أواخر الستينيات، حين قدّم «ندا» «الغيطانى» للوسط الثقافى عبر مجموعته الأولى التى غير عنوانها من «أيام الرعب» إلى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» باقتراح من يوسف القعيد.
يكمل محمد سمير ندا: «حسب علمى، لم يكن ثمّة خلاف بين أبى وجمال الغيطانى، فإن كانا على خلافٍ لما قرّر أبى زيارته فور استقراره فى مصر، فقد توجّه إلى مكتب رئيس التحرير، واستقبله الكثير من زملاء الأمس بحفاوة بالغة».
ويتابع: «لمّا طال به الانتظار فى مكتب رئيس التحرير، طلب من السكرتير أو السكرتيرة: لا أذكر على وجه الدقة، أن يذكّر الأستاذ الغيطانى أن صديقه (حسب اعتقاده) سمير ندا ينتظره منذ وقت طويل ويود لقاءه، خصوصًا أن مكتبه كان قد خلا من الزائرين، وتوقّع أن يستقبله رفيق الأمس بذات الحفاوة التى استُقبل بها منذ وصوله».
ويواصل: «بعد فترة صمت أخرى، طويلة، عاد السكرتير ليخبر أبى أن الأستاذ جمال الغيطانى مشغول، ولن يقابله اليوم، وأنه- أى أبى- قد حضر من دون موعد مسبق، وعليه أن يتصل لتحديد موعد قبل حضوره فى المرّة المقبلة!».
ويردف: «حتمًا سوف تزعج كلماتى هذه الكثير من الأصدقاء والقراء ومحبّى (الغيطانى)، لكنّنى أدوّن شهادة عن أعز الناس إلى قلبى، وهى شهادة أمام الله، لا أهدف منها إلى شىء إلّا عرض الحقيقة، خصوصًا أن الرجلين قد التحفا بالثرى، ولن تفيدهما كلماتى أو تضرّهما بشىء، يمكن الرجوع أيضًا إلى صفحة الأستاذ فؤاد قنديل- رحمه الله- على (فيسبوك)، حيث تناول هذا الأمر من قبل بمنتهى الوضوح والصراحة».
وحتّى لا أتمادى- والكلام لمحمد ندا- فى إزعاج الأصدقاء، لن أسترسل فى وصف حالة أبى عندما عاد فى تلك الليلة، ولكن هذا الموقف باختصار، يمكن اختزاله بأنه كان المسمار الأول فى نعش والدى. وبطبيعة الحال لم تتكرّر الزيارة، ولم تنشر «أخبار الأدب» أيّة مقالات لسمير ندا، أو أيّة أخبار عن روايته التى صدرت فى ذات الفترة الزمنيّة، إلا فيما ندر.

متعدد المواهب
فى محاولة لفهم الأبعاد الكاملة للقضية التى أثارت جدلًا واسعًا فى الأوساط الأدبية، لجأنا إلى يوسف القعيد الذى يعد شاهدًا أساسيًا على هذه الأحداث، وقبل أن نتمكن من التواصل معه، اكتشفنا أنه قد دون شهادة تاريخية وافية تضمنت كل التفاصيل التى كنا نسعى لمعرفتها.
وتتعدد الروايات حول هذه الواقعة المؤسفة، حيث أثار كل من شعبان يوسف فى صالون «الدستور»، وكذلك فؤاد قنديل، ومحمد سمير ندا، أسئلة محورية حول مدى مسئولية جمال الغيطانى عما حدث لسمير ندا، لكن تبقى الحقيقة الكاملة غامضة، مع وجود حلقات مفقودة فى هذه القصة المعقدة.
يقول يوسف القعيد فى معرض شهادته عن سمير ندا: «عرفته سنة ١٩٦٨.. كنت قد انتهيت من كتابة روايتى الأولى: (الحِداد)، وكان عنوانها الأصلى: (الحِداد يمتد عامًا آخر)، وحسب تعليمات الدولة المصرية فى ذلك الوقت. كان لا بد من الذهاب بمخطوط العمل الأدبى للرقابة. وكانت موجودة فى مبنى هيئة الاستعلامات بشارع سليمان باشا، بالقرب من ميدان سليمان باشا، ويومها اعترضت الرقابة على العنوان. قال لى الموظف المسئول: فال الله ولا فالك. سننتظر سنة أخرى حتى نزيل آثار العدوان؟».
ويكمل يوسف القعيد: «لم يكن الموظف يعرف أننا سننتظر سنوات حتى سنة ١٩٧٣ بالتحديد لكى تتم إزالة آثار العدوان، اخترت عنوانًا آخر لروايتى: (الحِداد يليق بأهل مصر). وبينما كنت أستعد للذهاب للرقابة بالرواية بعنوانها الجديد. نبهنى صديق إلى أن هذا العنوان هو عنوان ثلاثية مسرحية، كتبها المسرحى الأمريكى يوجين أونيل، عنوانها: (الحداد يليق بإليكترا)، تتناول أسطورة إليكترا الشهيرة فى التراث الإغريقى».
ويضيف: «فى اللحظات الأخيرة اكتفيت بعنوان: (الحِداد)، ولأن الكلمة طبعت غير مشكلة فى العنوان، نطقها كثير من الزملاء الصحفيين بل والمثقفين أيضًا «الحَدَّاد». والحِداد حالة إنسانية. بينما الحدَّاد مهنة. وكنت أضطر لتصحيح الخطأ أحيانًا وأتغاضى عن تصحيحه فى أحيان أخرى كثيرة. من باب الحياء لا غير».
ويواصل: «كنت أبحث عن ناشر ينشر روايتى. ولم تكن سوق النشر رائجة مثل أيامنا، ولم تكن دور النشر الخاصة كثيرة كما نراها الآن، كان عدد دور النشر التابعة للدولة والخاصة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، إلى أن وجدتنى وجهًا لوجه أمام سمير أحمد ندا، وهكذا قدم لى نفسه فى اللقاء الأول. رغم أنه اشتهر فيما بعد بسمير ندا فقط». ويستطرد: «ونحن وقوف فى هيئة الكتاب كان مسماها فى ذلك الوقت: دار الكتاب العربى. وكنا نقف بالقرب من مكتب صلاح عبدالصبور الذى كان يشغل مدير عام النشر، فى حين كانت رئيسة دار الكتاب العربى الدكتورة سهير القلماوى، يرحم الله جميع من رحلوا رحمة واسعة».
ويكمل: «عندما تعرفت على سمير ندا وقلت له: لدىَّ رواية أبحث لها عن ناشر. صحيح أننا فى دار النشر الرسمية، ولكن طوابير الانتظار فيها تصل حتى ميدان التحرير، كانت دار الكتاب العربى تشغل دورًا من عمارة أوركو بشارع ٢٦ يوليو المعروف جماهيريًا بشارع فؤاد، وعلى الفور قال لى إنه فى سبيله لتأسيس سلسلة شهرية تسمى: (كتاب الطليعة) تنشر الأعمال الطليعية للأدباء الجدد فى مصر».
تركته- والحديث ليوسف القعيد- على أساس أنه كلام والسلام. مثلما نفعل نحن أهل الثقافة. نتكلم كثيرًا ونفعل قليلًا، لكن سمير ندا كان مثقفًا وكانت لديه قدرة عملية فى الوقت نفسه، وكان يترجم ويكتب وينقد ويمارس كل هذا بدقة تثير الإعجاب، وبالفعل خلال أيام خرجت الفكرة إلى النور، وقدمت له مخطوط روايتى وذهبنا معًا لمطبعة صغيرة فى شارع الترعة البولاقية بشبرا كانت اسمها مطبعة الجبلاوى، وقام بعمل مقايسة لطبع الكتاب تعدت المبالغ المالية التى كانت معنا، وكان المطلوب العثور على كتاب أصغر من حيث عدد الصفحات لنبدأ به السلسلة.
ويواصل: «فاتحت صديقى جمال الغيطانى إن كان لديه عمل أدبى يريد نشره. وقد دهش من المفاتحة ونظر لى باعتبارى شخصًا غير طبيعى، وأحضر لى فى اليوم التالى مجموعته القصصية الأولى التى نشرت تحت مسمى: (أوراق شاب عاش منذ ألف عام)، وكان عنوانها الذى أعطاها لى به: (أيام الرعب)، وبعد قراءة المجموعة اقترحت عليه تغيير العنوان، لأن (أوراق شاب) فيها رؤية أكثر من (أيام الرعب) وقد وافق فورًا».
ويصف سمير ندا بأنه «دينامو يعمل على مدى الأربع والعشرين ساعة، ويبدو أن عقله يعمل حتى وهو نائم، فقد أخرج إلى الوجود مجموعة جمال الغيطانى وروايتى ومجموعة قصص لعبدالعزيز مصطفى، وديوان شعر لمجدى نجيب، ورواية (سمير) نفسه: (الشفق)».
ويستطرد أنه «لا يتصور أحد أن سمير ندا كان رجل أعمال أكثر من كونه رجل فكر، فعندما كتب رجاء النقاش مقاله الشهير: (هل أصبح نجيب محفوظ عقبة أمام الرواية العربية؟) ودلل فى هذا المقال على أنه فى أعقاب كل روائى كبير تأتى فترة تراجع فى كتابة النص الروائى، واستشهد بالسنوات التالية لوفاة (ديستويفيسكى) و(تولستوى) فى روسيا القيصرية ووفاة (فلوبير) فى فرنسا، وتشارلز ديكنز فى بريطانيا».

ورى أنه انطلاقًا من هذه المقولة قال رجاء النقاش- كان ذلك سنة ١٩٦٩- إن بعد الدور الضخم الذى قام به نجيب محفوظ فى دفع الكتابة الروائية لتحتل مركز الصدارة فى الكتابة الأدبية عمومًا، لا بد أن تأتى فترة جفاف واضمحلال وتراجع فى الكتابة الروائية قد تمتد سنوات طويلة.
ويبين أنه «كعادة نجيب محفوظ التزم الصمت تجاه القضية. وربما لم يتكلم إلا مع رجاء النقاش صاحب القضية نفسها فى حوار لم يؤكد فيه ما ذهب إليه رجاء أو ينفيه. لكنى أشهد أننا جميعًا التزمنا الصمت وخفنا من الدخول فى القضية، الوحيد الذى تصدى لرجاء النقاش بسلسلة مقالات كان سمير ندا. وأصبح يتردد يوميًا على (دار الهلال) وبيده مقالات يرد بها على ما جاء فى مقال رجاء النقاش ويثبت أن نجيب محفوظ لن يكون آخر المطاف فى الكتابة الروائية المصرية والعربية».
ويكشف عن أن سمير ندا «سافر بعد ذلك إلى العراق ورجع إلى مصر، ثم عاود السفر إلى المملكة العربية السعودية، ولبى نداء مصر وعاد إليها، ولم يلبث أن شدّ الرحال إلى ليبيا ومكث فيها سنوات وعاد منها ليقضى سنوات عمره الأخيرة يخرج من مرض ليدخل فى رحاب مرض آخر، ترك (شبرا) والمنزل الذى ترددت عليه فى ستينيات القرن الماضى وكان منزل والده. وآخر مرة هاتفنى وقال إنه يسكن فى شارع فيصل أو شارع الهرم بالهرم. ثم انقطع الاتصال حتى عرفت بخبر وفاته».
ويتابع: «سمير ندا كتب رواية (الشفق)، وعلاوة على تجربته الإنسانية التى تجلت فى روايته، فقد كانت فى الرواية أصداء قراءته للرواية الأوروبية من تيار الوعى وتداخل الأصوات وأنفاس الشعر، ثم كتب رواية (حارة الأشراف)، وبعدها رواية (وقائع استشهاد إسماعيل النوحى). وله فى المجموعات القصصية (الشروق من الغرب - والله زمان)، وكتب نصًا مسرحيًا هو: (لن نموت مرتين)».
ويوضح أن «مغامرة سمير ندا لم تتوقف عند حدود الكتابة، ولا كونه عمل مستشارًا إعلاميًا وثقافيًا فى العديد من البلدان العربية التى زارها وعمل بها، لكنه حاول إخراج بعض الأفلام التسجيلية، وإن كنت لم أشاهد أحد هذه الأفلام.، فقد سمعت عنها، وسمعت ثناء من شاهدوها عليها. وقولهم إن الرجل يمتلك رؤية تمكنه من الإخراج السينمائى».
ويرى أن سمير ندا متعدد المواهب، قائلًا: «كان يترجم. وما زلت أعتقد أنه هو الذى ترجم مسرحية صامويل بيكيت (نهاية اللعبة أو لعبة النهاية). وهى المسرحية التى اُعتبر صدورها فى أوروبا بداية لتيار أدبى كامل هو (مسرح اللا معقول)، وعندما قدمت على مسرح (الجيب) فى قاهرة الستينيات، أحدثت دويًا غير عادى، وزلزلت أركان الكتابة المسرحية المستقرة الواقعية التى كانت سائدة حتى تقديم هذه المسرحية، وأعتقد أن الدكتور محمد غنيم هلال كتب له مقدمة لترجمته لمسرحية صامويل بيكيت». ويكمل أن «مغامرات سمير ندا لم تكن تحدها حدود، فهو الذى ترجم مذكرات جولدا مائير رئيسة وزراء العدو الإسرائيلى. واستغربت كثيرًا من أن يُقدِم على هذه التجربة الخطيرة. فالترجمة ليست محاولة نقل من لغة إلى لغة. بقدر ما هى تمثُّل واستيعاب للنص فى لغته الأصلية. والقدرة على نقل النص من هذه اللغة إلى اللغة المترجَم إليها وهى اللغة العربية. وكان سمير ندا ضليعًا فيها».
ويختتم شهادته بقوله: «أقول الآن- ٢٠١٣- إنه لولا سمير ندا الذى توفى منذ أيام عن ٧٥ عامًا ما نشرت أنا روايتى الأولى. وما نشر جمال الغيطانى مجموعته القصصية الأولى».
ناكر الجميل
فى حفل تكريم سبعينية جمال الغيطانى بدار الأوبرا، أثار الأديب الكبير جدلًا جديدًا عندما ذكر أنه نشر كتابه الأول «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» على نفقته الخاصة وبمساعدة مالية من «واحد كان ماشى جنب السور»، متجاهلًا تمامًا الدور المحورى لسمير ندا فى إصدار العمل.
وردًا على ذلك، كتب فؤاد قنديل على صفحته الشخصية: «كيف نصف كاتبًا بحجم الغيطانى ينكر فضل سمير ندا عليه، الذى ضحى بكل ما يملك عام ١٩٦٨ لنشر كتابى زميليه وأجل كتابه الخاص؟ (الغيطانى) الذى لا يتوقف عن الحديث عن الأصالة والقيم، يعود ليتنكر لمن ساعده فى بداية الطريق».