هيثم الحاج على: القصة القصيرة تنتصر على الرواية قريبًا

- القصة القصيرة تزدهر فى الأزمات.. والرواية تناسب فترات الطموح والثورة
- رؤيتى هذه نتاج دراسة دقيقة لتاريخ السرد المصرى من 1917 لـ2017
- تمايز فن أدبى فى فترة ما أمر طبيعى ولا يعنى أن الآخر سيئ
- انتظروا رواجًا كبيرًا فى جوائز القصة القصيرة خلال الفترة المقبلة
«أرى أن الفترة القادمة هى فترة صعود للقصة القصيرة على حساب الرواية، لأن الطبقة الوسطى بدأت تتحول من حالة الثورة والطموح إلى حالة الأزمة».. كلمات كتبها الدكتور هيثم الحاج على، الناقد الأدبى الرئيس السابق للهيئة العامة للكتاب، عبر صفحته الشخصية بموقع «فيسبوك»، وتستحق التوقف عندها بالبحث والمناقشة وإثارة التساؤلات.
فبما يملكه الرجل من خلفية نقدية وأكاديمية، وتطبيق عملى من خلال رئاسته الهيئة العامة للكتاب، لن يقول مثل هذه الكلمات دون أن يحلل الواقع الأدبى الحالى، ويقارنه بما كان عليه منذ بدايات القرن الماضى، الذى أثيرت فيه هذه القصة كثيرًا، وصولًا إلى حد وصف الزمن الذى نعيشه بأنه «زمن الرواية».
هل سننتقل من «زمن الرواية» إلى «زمن القصة القصيرة»؟ وما الأسباب التى تجعله يؤمن بهذا التوقع؟ وهل مررنا من قبل بما يشبه هذه الفترة، وكان ذلك تأكيدًا على صعود القصة القصيرة؟.. أسئلة وغيرها الكثير نحاول الإجابة عنها فى الحوار التالى مع الدكتور هيثم الحاج على.

■ قلت إن الفترة المقبلة هى فترة صعود القصة القصيرة.. علام اعتمدت فى رؤيتك؟
- حديثى عن صعود القصة القصيرة ليس معناه أن هناك منافسة ما بين القصة والرواية، بل معناه أنهما أداتان تكملان شكل الإنتاج السردى الذى له علاقة بفكرة الطبقة الوسطى، وأن واحدة منهما تكون أكثر ازدهارًا لأنها أكثر ملاءمة للتعبير فى وقت من الأوقات عن الأخرى، وليس معنى هذا أن الأخرى سيئة أو أن تعبيرها ناقص، ولكنها مسألة لها أبعاد أخرى دعنا نتحدث عنها.
الناقد المجرى جورج لوكاش، وهو واحد من الناس المهمين فى النزعة ما بعد الشكلانية الروسية، قال ببساطة شديدة جدًا: «عندما تكون الطبقة الوسطى مأزومة تزدهر القصة القصيرة، وعندما تكون الطبقة الوسطى طموحة أو ثائرة تزدهر الرواية»، وهى المقولة التى أكدها ونقلها كما هى، مع الإشارة إلى قائلها، أستاذنا الكبير الدكتور شكرى عياد.
■ هل فى التاريخ المصرى حدث ما يشبه هذه الفترة وكان تأكيدًا على صعود القصة القصيرة؟
- أنا درست المقولة سالفة الذكر، وحاولت أطبقها على ٠٠١ عام من السرد المصرى، منذ ٧١٩١، عام نشر قصة «فى القطار» لمحمود تيمور، حتى ٢٠١٧، وهذه الفترة قسمتها حسب الدراسات التاريخية والاجتماعية لـ«فترات ثورة» و«فترات طموح».
والسؤال هنا: هل الفترة التى أنوى الحديث عنها، فترة بها الإحساس بفكرة الثورة أم أن الطموح أعلى عند الطبقة الوسطى؟ فوجدت أننا أمام مجموعة من الأزمات حدثت خلال القرن الـ٢٠ وبداية القرن الـ٢١، ومجموعة فترات كانت فيها الطبقة أقرب إلى الثورة والطموح.
مجموعة الأزمات تبدأ بعد ثورة ١٩١٩، حيث طبقة الأفندية الناشئة- الطبقة الوسطى المصرية- قامت بثورة، لكن ببساطة زعيم الثورة تم نفيه، ولم تحدث مطالب الثورة على الإطلاق، ولم يحدث استقلال تام حسبما كانوا ينادون، وبينما سعد زغلول فى المنفى تم التنكيل بالكثير من المشاركين فى الثورة.
من هنا بدأت هذه الطبقة فى الشعور بالأزمة، وبالتزامن كان يصعد مجموعة من الكُتاب فى القصة القصيرة، ويشكلون «جماعة الفن الحديث»، وهم محمود ومحمد تيمور وعيسى وشحاتة عبيد ومحمود طاهر لاشين ويحيى حقى.
هناك أثر ما لفكرة الأزمة أيضًا فى عام ١٩٣٦، الذى شهد توقيع النحاس باشا «معاهدة ١٩٣٦»، التى «قننت» الوجود الإنجليزى على أرض مصر بشكل ما، وساهمت بذلك فى تحول الطبقة الوسطى المصرية، خاصة طلبة الجامعات والمدارس العليا، الذين بدأوا فى تكوين جمعيات سرية وتوزيع منشورات وإقامة مظاهرات.
كان نتيجة ذلك أن حالة الثورة بدأت تترسخ تدريجيًا بشكل ما، مع قليل من الانفتاح الذى حدث فى هذه الفترة، التى شهدت مثلًا زيادة عدد الأفراد المنتمين للجيش المصرى، وفتح الكلية الحربية أبوابها للمصريين لأول مرة، ليدخلها أبناء الموظفين المدنيين وليس الباشوات، وكلنا نعرف أن والد جمال عبدالناصر كان موظفًا بسيطًا فى مصلحة البريد المصرى، إلى جانب معظم «الضباط الأحرار»، الذين دخلوا الكلية الحربية بعد «معاهدة ١٩٣٦» مباشرة.
بدءًا من عام ١٩٣٧ نستطيع القول إن الطبقة الوسطى المصرية بدأت فى التحول إلى حالة من حالات الطموح أو الثورة بشكل ما، والنتيجة المباشرة بعدها أن نجيب محفوظ بدأ يكتب وينشر فى هذا العام أولى رواياته، بعد أن نشر قصة قصيرة هى «همس الجنون» عام ١٩٣٦، والتى جاءت نتيجة ما شهدته فترة ما قبل ١٩٣٦. لكن بعد هذا العام كتب نجيب محفوظ مجموعة من الروايات التى يسميها النقاد «الرواية التاريخية»، أو «روايات التاريخ المصرى القديم».

■ وماذا عن فترتى الخمسينيات والستينيات؟
- حالة الثورة والطموح سالفة الذكر استمرت إلى نهاية الخمسينيات وحتى بداية الستينيات، حين شعر أبناء الطبقة الوسطى بأن هناك أزمة فى العلاقة بينهم وبين النظام الحاكم فى هذا الوقت.
وفى فترة الستينيات خرجت «حملات التطهير»، وبدأ نمط من أنماط الأزمة التى يشعر بها أبناء الطبقة المتوسطة، ووصلت إلى ذروتها عام ١٩٦٧. ورغم أنه كان هناك إنتاج روائى عالٍ جدًا فى فترة الستينيات، يُقال إن الستينيات هو «عقد القصة القصيرة العربية» بامتياز، لأن الشعور بالأزمة كان أكثر.
وهكذا، مجموعة أزمات تتوالى مع مجموعة طموحات حتى نصل إلى الآن. ودائمًا ما يكون هناك تراوح بين صعود وازدهار أكثر لنوع معين، والنوع الثانى لا يكون مرفوضًا لكنه ليس على نفس درجة التعبير عن الفترة الزمنية أو التاريخية. بهذا الشكل يكون لدينا رؤية واضحة لـ١٠٠ عام، وصورة ما نستطيع أن نخرج منها بقاعدة الكتابة القصصية والروائية.
■ هل ما تذكره من تغير الطبقات ينطبق على مصر فقط أم الأزمات فى العالم العربى كله؟
- هناك أزمة ما بعد غزو العراق أو ما يسمى بـ«عاصفة الصحراء»، هذه كانت واحدة من الأزمات التى لفتت أنظار الطبقة الوسطى العربية، وكان من المفترض أن يكون لدينا إنتاج قصصى أكبر فيها، وهذا ما حدث بالفعل.
من بعد عام ١٩٩١ ستجد أن هناك الكثير من كُتاب القصة بامتياز، لكن هؤلاء تأثروا بمقولة الدكتور جابر عصفور، التى نشر ملفًا كاملًا عنها فى مجلة «فصول» عام ١٩٩٢: «هذا زمن الرواية»، بالإضافة إلى تأثير فوز نجيب محفوظ بجائزة «نوبل» كروائى، على الرغم أنه كتب مجموعة كبيرة من القصص القصيرة.
وسنجد الكثير من كُتاب هذه الفترة شاركوا فى مسابقة «أخبار الأدب» للقصة القصيرة عام ١٩٩٤، كانوا أسماءً مهمة جدًا، وبدأوا يكتبون بشكل ما روايات، لكن هذه الروايات متأثرة جدًا بتقنيات كتابة القصة. وقتها أنا قلت: «هذه الروايات مكتوبة بحبر القصة القصيرة».
بدأت رواية الأصوات تظهر وتنتشر، وبدأت رواية المتواليات الروائية تظهر وتنتشر، وبدأت الكتابة الذاتية فى الرواية، أو الروايات القصيرة، أو الرواية التى تعتمد على حركة ذات واحدة، وكلها أقرب روحًا لتقنية كتابة القصة القصيرة منها للرواية، لكنها كُتبت داخل روايات تماشيًا مع مجموعة من المتغيرات الاجتماعية بشكل ما، تحديدًا المتغيرات الثقافية.

■ هل يمكن أن يفرز صعود القصة جوائز أخرى لها غير «جائزة الملتقى» وغيرها؟
- هذا ما حدث بالفعل، فمثلًا أول جائزة تدشنها مؤسسة «غايا» كانت للقصة القصيرة، وأظن أن جوائز القصة القصيرة تحديدًا ستشهد رواجًا خلال الفترة المقبلة. كما أننا لا بد أن ننظر إلى متغير مهم جدًا هو المتغير الرقمى أو «السوشيال ميديا»، التى ساهمت فى فكرة «التويت» أو «النصوص القصيرة»، بعدما جعلت الكتابة بهذا الشكل أقرب إلى رؤية الشباب بشكل ما، وهذا سيفرز ليس جوائز جديدة فقط، بل وسائط جديدة يبتكرها كُتاب القصة القصيرة فى الفترة المقبلة.
■ لماذا ما زالت دور النشر تتعامل مع القصة القصيرة والشعر على أنهما فى مرتبة بعد الرواية إذن؟
- أظن أن هذا من قبيل الارتكان إلى السائد. ونحن لدينا مشكلة، ليس فقط فى النشر، بل أيضًا فى التعامل مع المنتج الثقافى عمومًا، خاصة مع وجود ميزانية تُصرف، فالناس تركن إلى المقبول، والمقبول هنا والأكثر انتشارًا هو الرواية، رغم أن هناك الكثيرين يقرأون القصص القصيرة، وهناك اتجاه أكبر للتمسك بها.
أؤكد من جديد أن هذه ليست حربًا بين القصة القصيرة والرواية، لكن كما قلت من قبل، فى وقت من الأوقات واحدة منهما يمكن أن تكون أكثر اقترابًا من النفس عن الأخرى، وهذه واحدة من الأمور التى يمكن أن تفسر مقولة جورج لوكاش، بأن القصة القصيرة أكثر تعبيرًا عن النفس البشرية وأزماتها الخاصة، أو كما قال الدكتور شكرى عياد: «كاتب القصة القصيرة أقرب للمحلل النفسى، وكاتب الرواية أقرب للباحث الاجتماعى».
بالتالى من المنطقى جدًا أن تكون القصة القصيرة الأكثر انتشارًا ودقة فى التعبير عن الأزمة، بينما الرواية الأكثر تعبيرًا فى الحراك الاجتماعى والإيجابية الاجتماعية، وهذا لأن القصة القصيرة تركز على فرد واحد، والرواية تركز على شريحة اجتماعية.
وفى كل الأحوال، ليست هناك قواعد ثابتة، وإنما هى رؤى يمكن تطبيقها على مجالات أوسع وتخرج لنا ما يشبه القاعدة، لكنها ليست قاعدة نهائية ولا مغلقة بشكل ما، وليست معركة بين القصة القصيرة والرواية، كما سبق أن ذكرت وأكدت.

■ هل تمسُّك بعض الكُتاب مثل الدكتور محمد المخزنجى والدكتور أحمد الخميسى بالقصة القصيرة يدخل ضمن نطاق القاعدة الاجتماعية الذى تتحدث عنه؟
- محمد المخزنجى وأحمد الخميسى وزكريا تامر ومحمد حافظ رجب ويوسف الشارونى تمسكوا بالقصة القصيرة لأن تقنياتها أقرب إلى روحهم كفنانين ومبدعين، وهو أمر آخر غير القاعدة الاجتماعية التى نتحدث عنها.
من المهم جدًا تأكيد أنه ليست هناك معركة بين الرواية والقصة القصيرة، فالفنان متجاوران دائمًا، جناحان لفن السرد، الذى يعد الأكثر تعبيرًا عن حركية الطبقة الوسطى فى العصر الحديث، وبالتالى حين يتمسك كاتب بأيهما فإن ذلك يرجع لكون هذا الفن هو الأقرب لرؤيته بشكل ما.
ما حاولت عمله هو مجرد رصد لبعض الظواهر الأدبية كى ندرك ماهية المراحل الزمنية التى مرت بنا، وكيف تذهب وتأتى، بمعنى آخر: لماذا كتب نجيب محفوظ «همس الجنون» عام ١٩٣٦ كمجموعة قصصية، ولم يكتب مجموعة قصصية أخرى إلا فى عام ١٩٦٢؟
الإجابة هنا: إن هناك تحولًا فوريًا حدث فى شكل الطبقة الوسطى، وكان هناك طموح فى الفترة من ١٩٣٦ إلى ١٩٦٠، ثم رجع «محفوظ» لكتابة القصة مرة أخرى، فى فترة كان فيها شعور وإحساس بالأزمة المعاشة التى دخلتها الطبقة الوسطى على المستويين الاجتماعى والسياسى آنذاك.

■ هل فوز مصر بـ«البوكر» يمكن أن يتنافى مع وجهة نظرك حول صعود القصة القصيرة؟
- المسألة ليست بها نفى أو تأكيد، فهناك كتابة جيدة فرضت نفسها، بغض النظر عن الحديث الدائر حول أن «البوكر» هذا العام مصرية أو غير مصرية، فى ظل نشر الرواية الفائزة خارج مصر. الفوز بالجوائز الكبرى مثل «البوكر» محاولة لتثبيت أو ترويج نوع أو اتجاه أدبى ما، وهو أمر ليس سيئًا إذا أخذنا المسألة بمنطق غير المعركة بين الرواية والقصة القصيرة.
كل النصوص المطروحة على الساحة الآن ناتجة من حالة الطموح التى كانت موجودة من قبل، والتحول لحالة الأزمة سينتج نصوصًا أخرى، أو نستطيع القول إن الذى يحدث من تقبل وتلقى النصوص الجديدة الموجودة الآن هو ناتج لفترة الطموح، وإن الطبقة نفسها أو المجتمع المتلقى نفسه سيذهب إلى استقبال القصة القصيرة فى الفترة المقبلة، خاصة إذا تم تدعيمها بالوسائط الرقمية الجديدة، التى حولت المتلقى من «جمهور» إلى «فرد متلقٍ» بصورة ما.

■ أخيرًا.. فكرتك عن صعود القصة القصيرة وليدة هذه الفترة أم قديمة؟
- ليست وليدة هذه الفترة، فقد سبق أن كتبت بحثًا بعنوان: «القصة القصيرة وأزمات الطبقة الوسطى»، يركز على فترات الأزمات وعلاقتها بالقصة القصيرة، ونُشر فى مجلة «سرديات» الصادرة عن «جمعية السرديات المصرية»، فى عام 2023.
والحقيقة هذا البحث نواة لكتاب، وكان من ضمن الأبحاث الأكاديمية المنشورة، ويركز على هذه الفكرة بشكل مُدقق علميًا، ويؤصل لها من مقولات النقاد الكبار، مع محاولة تتبع شكل الظاهرة دون انحياز.