شهادة خاصة على واقعة علمية.. خطر خالد أبوالليل على الثقافة المصرية

قرأت خلال الأسبوعين الماضيين مقالين بالغى الأهمية لأخى وصديقى الدكتور محمد الباز، الباحث الأكاديمى والكاتب الصحفى والإعلامى الكبير، فى ملحق «حرف» الثقافى، الصادر عن مؤسسة «الدستور»، بعنوان الأول: «الكتاب الكارثى.. تزوير تاريخ مصر لصالح الإخوان بتوقيع خالد أبوالليل» والثانى: «الاستهانة بالدولة.. جريمة جديدة بتوقيع خالد أبوالليل».

قد تناول فيهما حديثًا بالغ الأهمية عن الدكتور خالد أبوالليل الذى تم انتدابه مؤخرًا بقرار من الدكتور أحمد هنو، وزير الثقافة، للعمل نائبًا لرئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب. والحقيقة أن المقالين بالغا الأهمية لكشفهما تبنى الدكتور خالد أبوالليل سرديات الإخوان فى كتابه الكارثى.
عندما قرأت المقال الأول للدكتور الباز فى الأسبوع الماضى تذكرت واقعة مهمة حدثت لى عندما كنت فى سيمنار الماجستير فى الرسالة المقدمة منى بعنوان «اتجاهات النقد فى الصحافة الأدبية المصرية خلال الفترة من ١٩٥٢ إلى ١٩٦٧». وفوجئت بهجوم عنيف من الدكتور خالد أبوالليل، جعل الراحل الكريم الدكتور أحمد شمس الدين الحجاحى يتصدى له. ولم أكن ساعتها أعرف الأسباب، وفوجئت بعدها بأن أبوالليل زعلان لهجومى على جماعة الإخوان الإرهابية. وقد رويت هذه الواقعة للدكتور الباز، واختتم بها مقاله الثانى ولم يذكر اسمى. وهنا أعلن أننى الباحث الذى يقصده الباز، وأعيد نشر ما أورده..
«لا أعرف ما الذى يمكن أن يقوله الدكتور خالد أبوالليل فى الشهادة التى استمعت إليها من باحث اشتبك معه خالد فى السيمنار العلمى لقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وتحامل عليه وهاجمه بعنف، للدرجة التى جعلت الدكتور شمس الدين الحجاجى يتدخل ليهدئ من هجومه وتحامله، لأنه رأى أن ما يقوله ليس موضوعيًا بالمرة.
هذا الباحث الذى حصل على الدكتوراه من أكاديمية الفنون يعمل صحفيًا، ونشر عدة مقالات ضد جماعة الإخوان فى جريدته، كما أشرف على عدة حملات صحفية ضد الجماعة الإرهابية، ولم يكن لديه تفسير لهجوم الدكتور خالد عليه فى سيمنار كلية الآداب إلا أنه إن لم يكن إخوانيًا، فهو على الأقل يتبنى رواية الإخوان ورؤيتهم.
عن نفسى لا أتبنى رواية الباحث- فهو وحده المسئول عنها- الذى أعتقد أن الدكتور خالد أبوالليل يعرفه جيدًا، ويذكر الواقعة التى جمعت بينهما، لكننى أسأله الآن عن تفسير ما جرى.. هذا إذا كان لديه تفسير بالطبع».
وعلى كل حال أوجه التحية إلى الدكتور محمد الباز الذى فضح تغلغل فكر الإخوان فى تقييم عصر عبدالناصر، حيث يبرز صوت الدكتور محمد الباز كمنارة للوعى والتحليل النقدى، خاصة فيما يتعلق بمحاولات التغلغل الفكرى لجماعة الإخوان الإرهابية فى الخطاب العام. وقد تجلى هذا الدور بوضوح فى تحليله العميق لكتاب الدكتور خالد أبوالليل، الذى يتبنى رؤية الإخوان حول عصر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى مصر. ولم يكن تحليل الباز مجرد مراجعة نقدية عابرة، بل كان عملية جراحية دقيقة كشفت عن التناقضات، والتفسيرات المنحازة، والأجندات الخفية التى يمكن أن تتسرب إلى السرديات التاريخية، خاصة عندما تكون مدفوعة بأيديولوجيات معينة. لقد أثبت الباز، بأسلوبه الواضح والمباشر، قدرته على فك شفرة النصوص المبطنة، والتى قد تبدو للوهلة الأولى مجرد دراسة أكاديمية، ولكنها فى جوهرها تحمل بذور التشكيك فى رموز وطنية وتاريخية أساسية، مستهدفة وعى الأجيال الجديدة. لقد جاء حديث الباز فى زمن تتداخل فيه الحقائق بالأكاذيب، ويتعرض فيه التاريخ للتشويه المتعمد.
إن جرأة الدكتور محمد الباز فى مواجهة هذا النوع من التناول التاريخى ليست غريبة عليه، فهو معروف بتاريخه الطويل فى مقارعة الفكر المتطرف، وكشف تزييفاته. ما قام به الباز فى تحليل كتاب أبوالليل ليس مجرد عمل صحفى أو نقدى، بل هو واجب وطنى وثقافى بامتياز. فقد تناول الباز ببراعة كيف يحاول الكتاب إعادة صياغة تاريخ عبدالناصر، ليس من منظور نقدى بنّاء، بل من منظور يتسق مع رؤية الإخوان السلبية والمتحاملة على فترة حكمه. هذه الرؤية التى دائمًا ما كانت تسعى إلى شيطنة عبدالناصر، وتصوير فترة حكمه على أنها فترة قمع واستبداد، متجاهلة مشروعه التحررى الذى كان له صدى واسع فى العالم العربى وإفريقيا. ويدرك الباز جيدًا أن استهداف عبدالناصر ليس مجرد استهداف لشخصية تاريخية، بل هو استهداف لرمزية الدولة الوطنية، وتفكيك للوعى الجمعى الذى تشكل حول هذه الرمزية. وبالتالى، فإن تصديه لهذا الكتاب يعد دفاعًا عن الذاكرة الوطنية، وتصحيحًا للمسار التاريخى الذى يحاول البعض تحريفه لأغراض أيديولوجية.
التحليل الذى قدمه الدكتور الباز لم يقتصر على مجرد فضح الميول الإخوانية فى كتاب أبوالليل، بل تجاوز ذلك ليقدم نموذجًا للتحليل النقدى الرصين. فقد استخدم الباز أدواته المعرفية، وموسوعيته الثقافية، وخبرته الطويلة فى فك شفرة النصوص وتبيان خباياها. لقد أظهر كيف يمكن للتلاعب باللغة، أو الانتقاء الانتقائى للمعلومات، أو إخراج الأحداث من سياقها، أن يشوه التاريخ ويخدم أجندات معينة. إن ما يميز تحليل الباز هو قدرته على إظهار كيف يمكن لفكر جماعة الإخوان، التى تعتمد على التغلغل الناعم والتدرج فى فرض رؤاها، أن يتسرب إلى مجالات تبدو أكاديمية أو فكرية بحتة. هذا يبرز خطورة ما يسميه الباز «التدليس التاريخى» الذى يستهدف ليس فقط تشويه الماضى، بل التأثير على رؤيتنا للحاضر والمستقبل. فإذا ما نجحت هذه الروايات فى التغلغل، فإنها يمكن أن تؤدى إلى زعزعة الثقة فى رموز الدولة ومؤسساتها، وتمهد الطريق لقبول أفكار أكثر تطرفًا.
والأهمية القصوى لتحليل الدكتور محمد الباز تكمن فى توقيته، ففى ظل سعى الدولة المصرية الحثيث لمكافحة الإرهاب والتطرف، وفى ظل جهودها المستمرة لتصحيح الخطاب الدينى والثقافى، يأتى هذا التحليل ليؤكد أن المعركة ضد الإرهاب ليست مقتصرة على المواجهة الأمنية، بل تمتد لتشمل الجبهة الفكرية والثقافية. إن كشف محاولات تزييف التاريخ، وفضح من يقف وراءها، هو جزء لا يتجزأ من حماية الأمن القومى والمجتمعى. لقد قدم الباز خدمة جليلة للرأى العام، حيث قام بتبصيره بخطورة ما يحاول البعض تمريره تحت ستار البحث العلمى أو الأكاديمى. هذا الدور التنويرى هو ما نحتاج إليه بشدة فى هذه المرحلة، حيث تتسم الساحة الفكرية بكثرة الأصوات، وتتطلب قدرة على التمييز بين الغث والسمين.
إن إشادتى بالدكتور محمد الباز ليست مجرد إشادة بشخصه، بل هى إشادة بالمنهجية العلمية، والنزاهة الفكرية، والشجاعة الأدبية التى تجلت فى تحليله. لقد وضع الباز نفسه فى مواجهة مباشرة مع من يحاولون اختطاف التاريخ وتوظيفه لخدمة أجندات أيديولوجية ضيقة. وبتسليطه الضوء على أبعاد هذا الكتاب، وربطه بالميول الفكرية لجماعة الإخوان الإرهابية، يكون الباز قد قدم نموذجًا للعمل الصحفى والفكرى الرصين الذى يخدم الحقيقة والمصلحة الوطنية. هذه ليست مجرد معركة حول كتاب، بل هى معركة حول الوعى، وحول من يمتلك القدرة على تشكيل السردية التاريخية.
وقد أثار قرار تعيين الدكتور خالد أبوالليل نائبًا لرئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب جدلًا واسعًا وصدمة كبيرة فى الأوساط الثقافية والسياسية المصرية، لا سيما مع تنامى الحديث عن ميوله الإخوانية، وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول معايير الاختيار وتأثيره المحتمل على المشهد الثقافى فى مصر. لم يكن هذا التعيين مجرد خبر عابر، بل اعتبره كثيرون تجاوزًا لخطوط حمراء فى دولة تسعى جاهدة لمحاربة الفكر المتطرف، خصوصًا بعد سنوات من الصراع مع جماعة الإخوان الإرهابية. كانت المفاجأة صادمة للعديد من المثقفين والمفكرين الذين يرون فى الهيئة المصرية العامة للكتاب منارة للتنوير، ومؤسسة يفترض أن تكون بعيدة كل البعد عن أى تيارات أيديولوجية تحمل فى طبيعتها بذور التطرف أو التوجهات التى تتعارض مع توجهات الدولة المدنية الحديثة.
يتساءل الكثيرون: كيف يمكن لمؤسسة بهذا الحجم، التى تعد واجهة مصر الثقافية، أن تضم فى قيادتها شخصية تحوم حولها شبهات الانتماء الفكرى لجماعة الإخوان؟ هذه الجماعة التى عرفت بتوجهاتها المتشددة، والتى كانت على خلاف دائم مع الفنون والآداب التنويرية، بل عملت على تقييدها فى فترات سابقة. كانت الصدمة ليست فقط فى اسم الدكتور خالد أبوالليل نفسه، بل فى دلالة هذا التعيين. فالهيئة المصرية العامة للكتاب ليست مجرد دار نشر أو مكتبة، بل هى مؤسسة تساهم فى تشكيل الوعى الجمعى، وتؤثر فى الذوق العام، وتتحمل مسئولية كبيرة فى دعم الإبداع والابتكار.
والمخاوف تتجاوز مجرد الانتماء الفكرى إلى تداعيات هذا التعيين على طبيعة الأعمال التى ستصدر عن الهيئة، والمعارض التى ستنظمها، والسياسات التى ستتبعها فى دعم المؤلفين والناشرين. هل ستكون هناك محاولات لتمرير أجندات معينة؟ هل سيتم تهميش أعمال أدبية وفكرية لا تتوافق مع التوجهات الفكرية للجماعة؟ هذه الأسئلة ليست افتراضية، بل هى مبنية على تجارب سابقة، حيث كانت جماعة الإخوان، فى فترات سيطرتها أو تأثيرها، تسعى دائمًا إلى فرض رؤيتها على كل مناحى الحياة، بما فى ذلك الثقافة والفن. لذلك يرى كثيرون أن تعيين شخص بمثل هذه الميول فى هذا المنصب الحيوى يمثل خطرًا على الحراك الثقافى، وقد يؤدى إلى تضييق الخناق على الإبداع الحقيقى، وفتح الباب أمام نوع معين من المحتوى يتوافق مع رؤى متحفظة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا التعيين يأتى فى وقت تسعى فيه مصر لتعزيز صورة الدولة المدنية الحديثة، التى تحترم التنوع الفكرى وتحارب التطرف بكل أشكاله. هذا القرار، فى نظر الكثيرين، يضرب فى صميم هذه الجهود.
إن مصر دولة ذات سيادة، لا تتهاون مع أى أفكار متطرفة، وأن مؤسساتها الثقافية هى حصن منيع ضد أى محاولات للاختراق الفكرى. ولكن، مع هذا التعيين، أصبحت هذه الصورة مشوشة. ومن المهم أيضًا الإشارة إلى أن الجدل حول الدكتور خالد أبوالليل ليس جديدًا، فقد كانت هناك أحاديث سابقة عن قربه من جماعة الإخوان عندما تولت الحكم فى غفلة من الزمن وخرج فى مظاهرات الجماعة داخل الحرم الجامعى. وأذكر أن الدكتور جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة السابق، تصدى لهذه المواقف حينذاك. ويبقى أن تعيينه فى هذا المنصب الآن هو الذى ألقى الضوء على هذه القضية بشكل أكثر حدة.
الثقافة ليست مجرد ترفيه، بل هى جزء لا يتجزأ من الأمن القومى، ومن المهم الحفاظ على نقائها وحريتها.
تعيين الدكتور خالد أبوالليل نائبًا لرئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، مع خلفيته التى يشار إليها بوجود ميول إخوانية، يمثل صدمة حقيقية للمشهد الثقافى المصرى. هذه الصدمة ليست مجرد رد فعل عابر، بل هى تعبير عن مخاوف عميقة من تأثير هذا التعيين على حرية الإبداع والتنوع الفكرى فى مصر. ولا بد من مراجعة هذا القرار لتهدئة المخاوف.