الخميس 17 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

عـروس طالبان.. سيرة أفغانية طهّر الحبُّ قلبها من الوجع: «أنا شجرة مُتشبثة بالصخر»

حرف

- فى أفغانستان الفتيات يُسجّلن فور نزولهنَّ من الأرحام بقوائم التنازل عن الحلم

- لا يُقاس العمر بالسنين بل بعدد الصيحات المكتومة ومرات نهش الكرامة

- «طالبان» دخلت المدينة كالطاعون وخنقت الأنفاس قبل الأحلام

- والدتها قالت لها: «أبوك أعطاكِ لأحدهم... باعكِ يا ابنتى!»

- انتهت طفولتها فى بيتٍ طينىّ تحكمه حماتها التى لا تعرف سوى العصا

«مرجان».. فتاة أفغانية لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، أُجبرت على الزواج من مقاتل ينتمى إلى حركة طالبان، دون أن تعرف حتى معنى الزواج.

القصة نشرها موقع Aeon، بقلم الكاتبة الأفغانية زالا، وتقدم صورة واضحة لواقع النساء في أفغانستان تحت حكم طالبان، حيث تُقنن القسوة وتُشرعن السيطرة الذكورية باسم الشريعة، يتحول الزواج إلى أداة إخضاع، وتُختزل المرأة فى كونها غنيمة حرب أو وسيلة تحالف قبلى.

وبعين الصحافة، وقلب امرأة تعرف جيدًا ما تعنيه كلمة «قهر»، تأخذنا «زالا» فى رحلة داخل بيت تلك العروس الطفلة، لتكشف لنا الجانب الآخر من الحجاب والسلاح، حيث لا يُسمع بكاء البنات، ولا يُسأل عن مصيرهن.

اخترنا ترجمة هذا المقال إلى العربية لأن القصة، رغم أنها تدور فى أفغانستان، تشبه الكثير من القصص التى تحدث فى مجتمعاتنا، وإن اختلفت الأسماء. إنها ليست فقط شهادة على ما يحدث هناك، بل دعوة للتأمل، والغضب، وربما التغيير.

فى رقعةٍ من الأرض تُدعى أفغانستان، حيث يَجرح الضوء صمته ليُلقى بعضًا من أشعته على جدرانٍ متشققة، تئنّ أرواح النساء كما تئنُّ الأرض تحت أقدامٍ لا تعرف الرحمة. هناك، لا تُولد الفتيات، بل يُسجّلن فور نزولهنَّ من أرحام الأمهات فى قوائم التنازل عن الحلم. فى تلك الأرض، لا يُقاس العمر بالسنين، بل بعدد الصيحات المكتومة، والمرات التى نُهشت فيها الكرامة بسننٍ تُدعى تقاليد، وتفسيرات مشوّهة لما أُنزل من السماء.

تلك البلاد لا تعترف بأنوثةٍ تمشى مستقيمة، ولا بطفلةٍ تفتح كتابًا، أو امرأةٍ تطلّ من نافذة. هنالك تُشدّ ستائر البيوت على مصائر النساء كما تُسدل الأكفان، ويُرسم لهنّ قدرٌ لا خيار فيه سوى الصمت أو الموت. هناك وُلدت مرجان.

مرجان لم تكن إلا فتاة من آلافٍ لا يُعرفن إلا إذا بُحنّ بأوجاعهن. ابنة كابول، المدينة التى كانت تتلمّس طريقها نحو النور، قبل أن تُختطف على يد رجالٍ سود الوجوه والقلوب. فى عامها الثانى عشر كانت مرجان تقف أمام مرآة الزمن، تمشط ضفيرتها وتحلم بأن تصير طبيبة، لا لتصنع مجدًا، بل فقط لتُنقذ أمها من الكنس، وتنقذ نفسها من المجهول.

لكن «طالبان» كانت أسرع من حلمها، دخلت المدينة كالطاعون، وخنقت الأنفاس قبل الأحلام. حُرّمت المدارس، واعتُقلت الكتب، وأُغلقت الأبواب على الأمهات والبنات. كانت أمها عاملة نظافة فى وزارة حكومية، ووالدها عاطل عن العمل، جُلّ ما يملكه هو غليونه المعبأ بالحشيش. ومع قدوم الطالبان، فقدت الأم مصدر رزقها، فغرق البيت فى ظلمة الجوع.

وذات مساءٍ خانق، حين لم يبق فى البيت سوى خبزٍ يابس لا يلين إلا بالماء، دقّت جارة الباب. لم تكن تحمل طعامًا، بل صفقة. كلماتها الناعمة أخفت سُمًا يختبئ بين الكلمات. دخلت وجلست وتحدثت، ثم خرجت وهى تبتسم. وفى اليوم التالى، عاد الأب ببقالة لم يرها الأطفال منذ شهور: خبزٌ طازج، سكر، حلوى، وحتى لحم وحشيش.

فرحت مرجان، لا لعودة الطعام فقط، بل لأن أباها، الذى اعتاد الصراخ والضرب، كان ضاحكًا للمرة الأولى. أما أمها، فظلت تبكى بصمت، تمسد شعر ابنتها كأنما تودّعها. ولم تفهم مرجان السرّ حتى قالت الأم: «أعطاكِ لأحدهم... باعكِ يا ابنتى».

كانت الصدمة كالسوط، تُهوى على عقل الطفلة ولا تعرف أين تهرب. لم تصرخ. فقط، ظلت تحدق فى لا شىء. أما الجارة، فقد عادت حاملة فستانًا مخمليًا أخضر، أثقل من أن تحتمله صدر الطفلة، مطرزًا بقطع فضية، غطّت جسد مرجان بالكامل، وحجبت ملامحها عن السماء.

تم الزفاف فى البيت، دون غناء، دون زغاريد، بلا حناء ولا ضحكات. رجالٌ بوجوهٍ مغلقة، يتفاوضون على سعر العروس كما تُساوم القبائل على الماشية. كان «ميراج»، أحد مقاتلى طالبان، هو المشترى. لا تعرف عنه مرجان إلا أنه جاء من الجبل، ملتحٍ، ضخم الجسد، عابس النظرات. لم يتكلم معها، بل تجاهلها كأنها متاع أُضيف إلى بيته الجديد.

وهكذا انتهت الطفولة، وبدأت الرحلة فى بيتٍ طينىّ، تحكمه «آدى»، والدة ميراج، امرأة لا تعرف من الأمومة سوى العصا، ومن السلطة سوى القهر. كانت مرجان غريبة اللسان والعُرف، يتيمة اللهجة والحنان، تعيش بين نساءٍ لا ينظرن إليها إلا شزرًا، وتُضرب إن أخطأت، أو حتى إن صمتت طويلًا.

دخلت مرجان بيت زوجها الجديد، لا عروسًا بل أسيرة، لا فتاة بل شاة أُهديت إلى ذبح مؤجل. لم يكن فى البيت ما يدل على أنه مأوى حياة. كل شىء فيه يشى بالموت: الجدران الطينية المتآكلة، السقف المنخفض، الغرف المعتمة، وأهمها تلك الوجوه. لم تكن «آدى»، والدة ميراج، امرأة عادية، بل كابوسًا من جلدٍ وعصا. بصوتها الأجشّ كانت تصرخ على الجميع. قوانينها مكتوبة على أجساد النساء: من تكشف وجهها تُضرب، من تُهدر الطعام تُجلد، ومن تبكى تُهان. وكانت مرجان، كعادة القادمين من النور، الأكثر تعرضًا للسياط.

لم تكن اللغة عائقًا وحسب، بل لعنة. كلما نطقت بكلمةٍ بلهجتها الكابولية، سخروا منها. وكلما صمتت، اتهموها بالتكبر. لم تجد مأوى، حتى فى البكاء، فقد كان البكاء ترفًا فى ذلك البيت، لا يُسمح به إلا للصبيان حين يُضربون. أما النساء، فعليهن الصمت، حتى لو انكسر ضلع، أو دُفن حلم.

أما زوجها ميراج، فكان يظهر نادرًا، ولا يتحدث. لا نظرة مودة، لا همسة، لا حتى سباب. وجوده كان كظل البندقية، ثقيلًا، صامتًا، لا يقترب إلا ليؤكد هيمنته. فى كل مرة كانت تتوسل إليه أن يزورها أهلها أو تعود إلى كابول، كان يرمقها بنظرةٍ جامدة كالصقيع، ويقول: «كُتب لكِ أن تكونى هنا، فانسى ما كان».

وهكذا، توالت الأيام كأعوام، والليالى كقبور. تعلمت مرجان لغة البيت تحت الضرب، وعرفت مهام الحظيرة كما تعرف المرأة تفاصيل مطبخها، وأتقنت إخفاء دموعها فى الزوايا. كانت تطعم الماعز وتغسل الأوانى وتُعد الطعام ولا تنال منه إلا الفُتات. لا يُسمح لها بالأكل مع الرجال، ولا حتى مع النسوة الكبيرات. كانت تُقدِّم الطعام، وتعود إلى المطبخ تنتظر ما يتبقى.

فى هذا الخضم، كان هناك وجه واحد لا يشبه البقية: «نسيم»، ابن أخ ميراج. شاب فى الثامنة عشرة، لم يكن قاسيًا، ولا متعجرفًا. كان يتعامل معها باحترام غريب، وكأنه وُلد بقلب غير قلب القبيلة. لم يرفع صوته عليها قط، بل كان يجيبها إن سألته، ويبتسم إن صمتت. لكن مرجان، وقد تكلست داخلها مشاعرها، لم ترَ فيه إلا شبحًا لطيفًا فى غابةٍ من الوحوش.

وذات ليلة، عند منتصف الليل، جاء ميراج ومعه رجلان. نزلوا من السيارة يجرون رجلًا ثالثًا مكبّل اليدين، وجهه مغطى بكيس أسود. لم يكن هذا أمرًا غريبًا، فطالما كانت البيوت فى تلك الجهات مخازن للظلال والسلاح والبشر. أُدخل الرجل إلى قبوٍ فى أسفل البيت، زنزانة من حديد، باردة، معتمة. سمع الجميع صوت الأغلال، ثم بابًا يُغلق على قدرٍ جديد.

قال ميراج لوالدته: «أسير من الكفار، سنبادل به أحد رجالنا»، ثم التفت إلى مرجان وأمرها: «أطعميه، ولكن لا تتكلمى». لم ترد، بل انصاعت. هكذا كانت الحياة هنا: أوامر تُلقى، وجلودٌ تُجلد، ولا مكان لـ«لماذا».

حين نزلت مرجان إلى القبو، ارتجفت. الضوء الخافت تخلّل الزنزانة، فكشف عن وجهٍ لم تر مثله من قبل. كان الرجل أبيض البشرة، أشقر الشعر، عيناه زرقاوين مفعمتين بالذهول، وجهه مُنهكًا لكنه هادئ. ارتعدت يدا مرجان وهى تمد له الطعام من خلال الفتحة الحديدية، لكنه لم يتكلم. فقط همس: «شاى».

لم تفهم فى البداية، ثم أشارت له إلى كوب الماء. لكنه أصرّ: «شاى»، كانت تلك الكلمة أول اختراقٍ لحاجز الرعب. عادت، غلت له كأسًا من الشاى، وعندما أخذها وابتسم، شعرت بشىء يُدعى «إنسانية» يعود للظهور.

صعدت إلى الطابق العلوى، فوجدت آدى جالسة فى زاويتها تنظر إلى السهل الفارغ. نادتها مرجان لتتناول طعامها، لكنها لم تجب. اقتربت منها، لم تلتفت. مدت يدها، فهوت العجوز إلى جانبها كما تسقط خشبةٌ ميتة.

صرخت مرجان، للمرة الأولى بصوتٍ مسموع. كانت آدى قد ماتت. تلك المرأة التى كانت العدو الأول لها، صارت جثةً تتشارك معها فى الوحشة. شعرت فجأة أن الظالمين حين يموتون لا يتركون راحة، بل فراغًا مُرعبًا.

كان موت «آدى» لحظة فارقة لا تُشبه شيئًا مما سبق. فمهما بلغت قسوة المرأة، كانت حية، وكانت وجودًا يُشغل العقل، يُخيفه، يُصارعه. أما موتها فكان صمتًا هائلًا اجتاح البيت، كأن السقف نفسه بات يئن من الوحدة.

جلست مرجان بجوار الجثة، ترتعش لا خوفًا منها، بل مما بعدها. كان الظلام سميكًا، والقبو يعجّ بأنفاس الأسير، والسهل فارغًا كصدر مهجور. لم يكن فى البيت سواها... وسجين غريب.

عادت إلى زاويتها تنتظر نسيم، وهو الوحيد الذى خرج فى ذلك اليوم ليجلب ما يحتاجونه من طعام وزيت وقماش. كانت تحسب اللحظات، وتسمع همسات الموت تدور فى جدران البيت. كانت نظرات آدى، وقد جمدت فى مقلتيها، تلاحقها، تُحاسبها، كأنها تحتجّ حتى بعد رحيلها.

حين عاد نسيم أخيرًا فتحت له الباب وانهارت فى بكاءٍ صامتٍ وهو يحدّق فى الجسد المسجى. خفض رأسه، ثم قال: «رحمها الله». أغلق عينيها بأصابعه، ووضع وسادة تحت رأسها كما لو كانت لا تزال تنام. ثم نظر إلى مرجان، لا بوصفها ضحية أو فردًا من العائلة، بل بشىءٍ لم تستطع أن تفسره، نظرة مليئة بالسكينة والحذر.

قال لها: «سأُرسل لميراج، يجب أن يأتى ويرى موت أمه، وإلا اتهمونا نحن بقتلها».

ثم أضاف، بعد لحظة صمت طويلة: «لن أتركك وحدك».

فى تلك اللحظة، رأت مرجان فى «نسيم» ملامح لم تكن تراها من قبل. بدا أكبر سنًا، وجهه شاحب وفى عينيه تجاعيد سنوات. خصلات من شعره شابت، تمامًا مثلها. كلاهما كبُرا دون أن يعيشا.

أرسل نسيم رسولًا، وفى الليل جاء ميراج، كما دخل سابقًا، ومعه رجلان. لم يسأل شيئًا. جلس إلى جوار جسد أمه، لم ينبس بكلمة، لكنه بكى. لأول مرة، رأته مرجان يبكى، وبكت معه، لا حزنًا على آدى، بل على ما تبقى من آدميتهم.

حُملت آدى فى السيارة، وجلس نسيم ومرجان بجوارها فى الخلف. كانت الجثة بينهما، وكانت نظرات الصمت أبلغ من أى حديث. ثم أنزلوا الأسير، وكأنهم يحملون معه ثقل السنوات الماضية. لم تنظر مرجان إليه طويلًا، لكن شيئًا ما فى قلبها كان قلقًا عليه، غريبًا... كأنها خافت أن يُقتل بلا ذنب، فقط لأنه وُجد فى بيتٍ لم يختره.

وصلوا إلى مدينة لم تعرف اسمها، وُوريت آدى الثرى فى مقبرة على أطرافها. أما الأسير، فقد سُلّم لحركة طالبان، التى كانت قد استعادت السيطرة على البلاد. تكرّر التاريخ. ذات الشعارات، ذات الوجوه، نفس القيد الذى أُجبرت على ارتدائه قبل أربعة وعشرين عامًا، ها هو يعود.

وصلوا إلى كابول، المدينة التى غادرتها مرجان طفلة، فعادت إليها امرأةً تجرّ خلفها مقبرة من الأيام. استأجر ميراج بيتًا كبيرًا، واشترى سيارة فخمة، وكان يتبختر فى شوارع العاصمة كأمير من أمراء الإمارة الإسلامية. أما مرجان، فلم يُسمح لها بمغادرة البيت. طلبت أن ترى أمها أو إخوتها، فقابلها ميراج بضحكةٍ ساخرة: «لا أحد يعرف أين هم الآن، انسيهم».

ولم يمضِ كثير، حتى أعلن ميراج زواجه من امرأة ثانية، هذه المرة من «قابلة» متعلمة. لم يُخفِ الأمر، بل تفاخر به، وقال أمام مرجان : «الشرع يبيح لى أربعًا». لم تسأل مرجان عن حق، لم تُناقشه. فقط استرجعت كيف تم بيعها له بنفس الحجة، وكيف تكرّر الألم نفسه مرةً أخرى، وكأنها تسير فى لولب من العار لا فكاك منه.

نسيم ظل يعيش فى نفس المنزل. وقد تجاوز الأربعين، وأرادت عائلته تزويجه من إحدى بنات العم، لكنه رفض، بحجة أنه لم يجمع بعد مهر «الشير باه». كانت نظراته تزداد وضوحًا، تُشير إلى شىءٍ لا يُقال، لكنه يُشعر، كريحٍ تهز الستائر دون أن تُرى.

مرت الأيام فى كابول كأنها لا تتحرك، بل تتكرر، كالضجر الذى لا يعرف نهاية. كانت مرجان تمضى نهارها فى أروقة البيت الكبير، كأنها تسير فى متحف لأشباحٍ تعرفها، وتمضى ليلها فى صمتٍ ثقيل، تتأمل وجوه زوجات ميراج الأخريات، وتسترجع طفولتها التى سُرقت منها على مذبح العار والبيع.

لكن شيئًا ما كان يتآكل فى أعماقها، شيئًا لم يعد يحتمل. كان اسم أمها يتردد فى قلبها كالأنين. فأصرت، للمرة الأولى، على أن تعرف الحقيقة. توسلت إلى نسيم أن يُساعدها، أن يخرجها من سجنها ولو ساعة، بحجة الذهاب إلى الطبيب. وافق، دون نقاش، وكأن ما كان يؤجله سنينًا قد حان وقته.

قادها فى السيارة بصمت. كانت الطريق طويلة لكنها مألوفة، مرت بأماكن تنكرت لها المدينة فيها، كانت الجدران قد تهدمت، واللافتات قد تلاشت، لكن الذاكرة، كعادتها، لا تنسى. توقفت السيارة أمام منزلٍ تعرفه، رغم مرور ربع قرن. طرقت الباب، وخرجت امرأة. لم تعرفها، لكنها حين قالت: «أنا مرجان.. ابنة فلان»، صرخت المرأة وبكت، وأدخلتها.

فى الداخل، علمت مرجان أن والدها قُتل فى تفجير انتحارى فى زمن الحكومة السابقة، أما أمها وإخوتها فقد نزحوا إلى إيران، ويعيشون هناك. لم تبكِ على والدها. لم يكن يستحق دمعة واحدة. لكنه كان لها بابًا موصدًا أُغلق إلى الأبد.

أعطوها رقم والدتها. كانت تلك لحظة مضيئة وسط الليل الطويل. ضمّت الرقم إلى صدرها كما تُضم صورةٌ ضائعة. نظرت إلى نسيم، وقالت بصوتٍ كاد أن يُكسر: «أشكرُك».

فى تلك الليلة، شعرت مرجان بشىء جديد. لأول مرة منذ عقود، شعرت أن الزمن يُمكن أن ينكسر، أن الماضى وإن جثم على القلب، فثمة ثقب فى الجدار، يُطل على احتمال. عادت إلى البيت ولم تُخبر ميراج بشىء. كانت تحمل الرقم فى مكانٍ آمن لا يبلغه أحد.

مرّت أيام، وأحست مرجان أن حبل الحياة يجرّها نحو مفترقٍ جديد. لكنها لم تتوقع أن يأتى المفترق على هيئة موت. كان ميراج فى طريقه لحضور افتتاح مدرسة دينية حين انفجرت عبوة ناسفة أودت به. قُتل فى الحال، تاركًا ثلاث زوجات، وبيتًا، وماضيًا ثقيلًا.

وحين اجتمع كبار العائلة ليقرروا مصير النساء الثلاث، قالت مرجان فى داخلها: «لن أُساق كبهيمة مرة أخرى». لم يكن أمامها سوى حلٍّ واحد: نسيم.

نظر إليها الجميع، منتظرين قرارها. هى التى لم تكن يومًا صاحبة قرار، هى التى لم يُسأل رأيها فى زواجها، ولا حتى فى مصيرها. نظرت إلى نسيم، وقالت بصوتٍ مبحوح: «أريده».

فى تلك اللحظة، تغيّرت نظرات نسيم. كانت الدهشة أولًا، ثم السكون، ثم ابتسامة حزينة، وقال: «كنت سأرعاكِ دون أن تطلبى، لكن إن طلبتِ، فلكِ منى العمر كله».

تزوجا فى صمت، بلا احتفال، بلا كلمات كثيرة. لم يكن زواجهما حبًا عاصفًا، بل حبل نجاةٍ فى محيطٍ غادر. ولأول مرة، شعرت مرجان أن أحدًا اختارها، لا اشتراها.

نسيم، رغم خجله وصمته، صار بيتًا لها، لا سجنًا. عاملها بكرامة، وابتعد عن البيت الكبير، واستأجر لها غرفةً صغيرة فى حى هادئ، تعلّمت فيه أن تخرج وحدها، أن تشترى خبزًا من السوق، أن تتحدث مع الجارات، أن تعيش.

وفى إحدى الليالى، بينما كانت تُعد الشاى، دخل نسيم الغرفة بهدوء، جلس أمامها، وقال: «أنا أحببتك من أول مرة رأيتك فيها. يوم دخلتِ بيتنا عروسًا مرعوبة، كنتُ أعرف أنكِ لستِ واحدة منهم. وكنتُ أريد أن أحميك، لكن لم يكن لى حول ولا قوة. الآن، وقد أصبحتُ زوجك، أعدك أن أمسح كل ما مضى، أو أظل معكِ حتى تتعلمى أن تنسى».

لم ترد.. كانت الكلمات أثقل من أن تُحمل، وأخفّ من أن تُنطق. فقط، نظرت إليه، وفى عينيها شىء يُشبه الشكر.. ويشبه البداية.

فى بيتٍ صغير على أطراف كابول، بدأت مرجان أخيرًا تتنفس. لا لأن الوجع انتهى، بل لأنها تعلّمت أن تحمله دون أن يقتلها. كانت تستيقظ على رائحة الخبز، تمسح الغبار عن النافذة، وتُشعل مصباحها الصغير فى المساء لتقرأ ما بقى من كتب المدرسة القديمة، كتب أخفتها فى خيالها سنين.

كانت الجراح لا تزال تسكنها، تأتيها فى نومها كأطياف النساء اللواتى شاركنها نفس المصير. تحلم بالأسير الذى لم تعرف اسمه، بآدى، بعينى أمها، بجارتها القديمة التى كانت سببًا فى كل شىء، بحذاء عرسها الأخضر، وبنظرة ميراج الأخيرة قبل موته. لم تكن الأحلام طوق نجاة، لكنها نافذةٌ وحيدة على ما فاتها من الحياة.

فى أحد الأيام، جلست بجوار نسيم وقالت: «هل تظن أن من عاش كل هذا الألم يمكن أن يحب؟».

ردّ بهدوء: «نحن لا نحب رغم الألم، بل بفضله. لأن الألم يُطهّر القلب من الأوهام، ويترك فيه فقط الحاجة الصادقة للسلام».

هزّت رأسها، وأجابت: «ربما أنا لا أحتاج الحب.. أحتاج أن أفهم نفسى».

لم يُجادلها. فقط وضع يده فوق يدها، وكأن صمته يقول: «خذى وقتكِ.. أنا هنا».

مرت الشهور، وتغيرت مرجان. لم تعد تلك الطفلة الخائفة، ولا تلك المرأة المكسورة. صارت شيئًا جديدًا، خليطًا من الصبر والقوة، من الذكرى والإرادة. لم تكن حرة بالكامل، لكن قلبها بدأ يخرج من الأسر.

قررت أن تكتب.. لم يكن لديها ورق كثير، فمزّقت صفحات قديمة، وبدأت تحكى كل ما عاشته. لم تكن تريد أن تقاوم النسيان، بل أن تُخلد الحقيقة. كتبت عن الجوع، عن البرقع، عن فستان الزواج، عن القبو، عن السجين، عن آدى، عن أول دمعة، عن آخر صفقة، عن المرة الوحيدة التى ابتسم فيها والدها.

قالت فى أوراقها:

«لم أكن يومًا عروسًا، كنتُ أسيرة. لم أُهدَ لزوج، بل قُدمت كقربانٍ لصفقة خاسرة. ولدتُ فى بلد يكره البنات، ويحرق وجوه النساء إن أطللن منها. لكنى بقيت. أنا هنا. جسدى لم يُكسر، قلبى لم يُنسف. كنتُ شجرة، ظنّوا أنهم قلعوها، فإذا بجذورى تتشبث بالصخر».

كانت تكتب فى الليل، وتُخفى الأوراق فى صندوقٍ تحت السرير. قالت لنفسها: «إن متُّ، فهذه شهادتى». لكنها لم تمت.. بل كتبت أكثر، كل ليلة.

اتصلت بأمها. لم تكن المكالمة سهلة. كان الصوت باكيًا، مرهقًا، مشوشًا، لكنّه حقيقى. قالت لها الأم: «سامحينى». فردت مرجان: «يكفينى أنكِ حيّة».

فى كل مرة كانت تمشى فى شوارع كابول الجديدة، ترى بنات صغيرات يحملن كتبًا على ظهورهن، تشعر أن شيئًا ما تغيّر. ليس كثيرًا، لكنه كافٍ لتُدرك أن القصص لا تموت إن رُويت، وأن المآسى، حين تُكتب، تصبح سلاحًا.

واليوم، تروى مرجان قصتها لا لتبكى، بل لتشهد. لتقول إن فى أعماق الصحارى قلوبًا لم تُكسر، وإن من تحت عباءة العار تخرج نساءٌ يصنعن من الرماد حبرًا، ومن الحزن أغنية، ومن السجن كتابًا.

مرجان ليست فردًا، بل أمة. حكايتها ليست نادرة، بل متكررة. إنها وجهٌ لكل فتاة حُرمت من اسمها، لكل امرأةٍ سُلِبت إرادتها، لكل أمٍ أُجبرت على كتمان فجيعتها. إنها أنتِ، وأنا، وهى.

وهى، رغم كل شىء.. لم تُهزم.