الأربعاء 25 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز

متعة الجريمة.. لماذا تفرز النساء هرمون السعادة عند الاستماع لقصص العنف والجريمة؟

حرف

- «سبوتيفاى»: 75٪ من مستمعى بودكاست الجرائم الحقيقية من النساء

- خبيرة نفسية: القصص الجنائية تحفز مناطق المخ المسئولة عن التوقع والتحذير لدى المرأة

فى عوالم تتداخل فيها الظلال مع الأنوار، حيث تختبئ الأسرار خلف الابتسامات والدماء خلف القصص، تطل علينا حكايات النساء كمرايا تعكس ما نعرفه، وتكشف ما لم نجرؤ على مواجهته. 

لماذا تفضل المرأة سماع حكايات الجرائم وهى تستلقى فى سريرها؟ وكيف تتحول العزوبية من وصمة إلى حرية تغنيها السعادة؟ وما السر وراء تعافيها من الصدمات بطريقة تختلف عن الرجل؟

هذه ليست مجرد أسئلة، بل رحلة إلى أعماق النفس الأنثوية، حيث يلتقى العلم بالوجدان، والضعف بالقوة، والخوف بالفضول. 

هنا، فى هذه الصفحات، سنسبر أغوار ثلاث قضايا تمس صميم وجود المرأة فى عالم لا يزال يحاول فهمها.. أو ربما لا يريد أن يفهمها أصلًا.

نصدق الناجيات

كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحًا، والظلام يلف شقتها الصغيرة فى القاهرة، بينما كانت «ياسمين» تضع سماعات الأذن وتقلب فى قائمة البودكاستس المفضلة لديها. اختارت حلقة بعنوان «القاتل الذى لم يترك أثرًا»، وضغطت على التشغيل. صوت الراوى العميق ينساب كالضباب، يحكى قصة امرأة اختفت فى ظروف غامضة، ثم يُفصّل كيف حلّلت الشرطة الأدلة. «أشعر بأننى محققة!» تقول ياسمين لصديقتها فى اليوم التالى، بينما تتناولان القهوة. «فى كل حلقة، أحاول أن أتوقع الخطوة التالية.. كأننى أتدرب على مواجهة الخوف نفسه».

«ياسمين» ليست الوحيدة. وفقًا لإحصاءات «سبوتيفاى»، فإن ٧٥٪ من مستمعى بودكاستات الجرائم الحقيقية من النساء. الأرقام تتكرر فى الولايات المتحدة وبريطانيا والوطن العربى. لكن لماذا؟

الدكتورة «منى الشربينى»، أستاذة علم النفس العصبى، تشرح: «المرأة تطوريًا مبرمجة على اكتشاف التهديدات لحماية نفسها وصغارها. القصص الجنائية تحفز لديها مناطق المخ المسئولة عن التوقع والتحذير، وكأنها تمرين مجانى للبقاء».

لكن الأمر ليس مجرد غريزة. دراسة نُشرت فى «Journal of Neuroscience» توضح أن النساء ينتجن كورتيزول «هرمون التوتر» بنسبة أعلى عند سماع تفاصيل الجرائم، لكنهن أيضًا يفرزن الأوكسيتوسين «هرمون الارتباط» بشكل أسرع، مما يخلق شعورًا غريبًا بالمتعة والراحة بعد الخوف!

التحقيق الافتراضى لعبة ذكاء عاطفى

«لم أكن أعرف أن تحليلى للجرائم سينقذ حياتى حقًا!» تقول «سارة» من الرياض. قبل عامين، بينما كانت تستمع إلى حلقة عن جرائم النشل، لاحظت سيارة تتبعها. تذكرت نصيحة الراوى: «المجرمون يختارون الضحايا الأقل مقاومة». فغيرت طريقها فورًا ودخلت مركزًا تجاريًا. «البودكاست علمنى أن أكون واعية بكل شىء حولى».

هذا ما تؤكده «نورا على»، منتجة بودكاست «جرائم بلا حل»: «النساء يستخدمن القصص كخريطة للنجاة. يرسلن لى رسائل مثل: «تعلمت من الحلقة الفلانية ألا أثق بجارتى الغريبة».

فى مجموعة فيسبوك سرية تحمل اسم true crime»، تجتمع ٥٠ ألف امرأة عربية لتحليل القصص. «نتناقش فى أدق التفاصيل: لماذا ضحكت الزوجة فى المحكمة؟ كيف اكتشفت الأم أن ابنها هو القاتل؟» تقول «مريم»، إحدى الأدمن.

هذه المجموعات تُظهر جانبًا آخر: تحويل الصدمة إلى قوة. «بعد اغتصابى، كنت أشعر أن العالم كله خطر»، تقول «هدى» من الأردن. «لكن سماعى لقصص ناجيات حوّل خوفى إلى غضب، ثم إلى حافز للدفاع عن نفسى».

لكن الأضواء لا تخلو من ظلال. «ليلى»، طالبة جامعية من المغرب، تقول: «صرت أستمع إلى ٥ حلقات يوميًا. أفحص أقفال بابى ١٠ مرات. أخشى أن يتحول فضولى إلى رهاب».

الدكتور «خالد صبرى»، الإختصاصى فى اضطرابات القلق، يحذر: بعض النساء يُطورن «هوس الأمان»، حيث يعتقدن أن سماع المزيد من القصص سيحميهن، بينما هنّ يغذين قلقهن فقط.

مفارقة الظاهرة: كيف تحوّل النساء أخطر القصص إلى أدوات للتمكين؟ الجواب يكمن فى كلمتين: السيطرة على المجهول.

فى عالم يخبر المرأة أن تكون حذرة دائمًا، تصبح هذه البودكاستات تمرينًا على مواجهة أسوأ السيناريوهات.. لكن من داخل غرفة نومها.

العزلة القاتلة

كانت «نورا» تجلس فى حفل زفاف صديقتها، تراقب العروس وهى ترقص وسط الأضواء، بينما تتهامس النساء حولها: «متى دورك؟». ابتسمت، لكنها شعرت بثقل السؤال كصخرة على صدرها. 

فى طريق العودة إلى شقتها، فتحت هاتفها لتجد إعلانًا لعروسة تضع إكليل الزفاف بابتسامة مبالغ فيها، مكتوبًا تحتها: «لا تكتمل سعادتك إلا بالعثور على شريك العمر!»

«لماذا يصرّون على أننى تعيسة؟» تساءلت نورا بصوت عالٍ، بينما كانت تضع قدميها على طاولة القهوة فى شقتها التى تزينها لوحات اشترتها من رحلتها الأخيرة إلى إسطنبول.

«نورا» ليست الوحيدة التى تشعر بهذا التناقض. وفقًا لدراسة أجرتها «جامعة كاليفورنيا» عام ٢٠٢٣، فإن النساء العازبات فى العشرينيات والثلاثينيات من عمرهن أبلغن عن مستويات أعلى من السعادة مقارنة بالرجال فى نفس الفئة العمرية. والأكثر إثارة ٦٨٪ منهن قلن إنهن يشعرن «بالتحرر» من ضغوط العلاقات التقليدية.

لكن فى العالم العربى، تتحول العزوبية إلى وصمة. «عندما أقول إننى عازبة بمحض إرادتى، ينظرون إلىّ ككائن فضائى!» تقول «ياسمين» من لبنان، التى تفضل العيش مع قطتها «مشمش» بدلًا من الخضوع لزواج غير متكافئ.

لماذا تكون النساء أكثر سعادة؟ العلم يجيب. الدكتورة «هبة مرسى»، عالمة الاجتماع، تشرح: 

شبكات الأمان العاطفى: النساء يبنين صداقات عميقة تُطلق هرمون الأوكسيتوسين «هرمون الارتباط»، مما يقلل شعورهن بالوحدة.

الاستقلال المالى: ٤٢٪ من النساء العازبات فى الخليج يستثمرن فى مشاريع جانبية، وفقًا لتقرير «تمكين».

الهروب من «المسئوليات المزدوجة»: كثيرات يرفضن فكرة العمل ورعاية الأسرة معًا فى مجتمع لا يزال يتوقع من المرأة أن تكون «الخادمة المجانية».

فى المقابل، يعانى الرجال العزاب من «عزلة قاتلة»، كما يصفها «خالد» من الأردن: «أصدقائى المتزوجون اختفوا. المجتمع يعاملك كفاشل إذا تجاوزت الـ٣٥ دون زواج». 

دراسة فى «Journal of Men’s Health» وجدت أن الرجال العزاب أكثر عرضة للاكتئاب بـ ٢.٣ مرة من النساء فى نفس الحالة!

السبب؟

عدم تدريب الرجال على العناية بأنفسهم عاطفيًا: «أمى كانت تعد طعامى وتنظف ملابسى حتى تزوجت!» يعترف «مازن» من مصر. الوصمة أقسى عليهم: «يسخرون منى أننى (عانس)، لكنهم يشفقون على صديقتى العازبة!» يقول «عاصم» من تونس.

وفى غرفة معتمة بإضاءة خافتة، جلس عشرات النساء فى ورشة بعنوان «كيف تتزوجين نفسك؟» فى دبى. «هذا ليس تمردًا على الزواج، بل احتفال بالذات»، تقود الورشة «آمنة العلى»، التى تعلّم النساء طقوسًا مثل:

كتابة «عقد زواج» مع الذات يتضمن الالتزام بالاحترام.

«فى اليوم الذى (تزوجت) فيه نفسى، أدركت أن السعادة ليست مكانًا تصل إليه ببصمة إصبع زوج!» تقول «حياة» من السعودية، التى تحتفل سنويًا بـ«ذكرى زواجها» بنفسها!

لكن.. ماذا عن الرغبة فى الحب؟

«لا نرفض الحب، نرفض فكرة أننا (ناقصات) بدونه»، تجيب «لمى» من العراق، بينما تظهر على شاشة حاسوبها رسائل من معجبيها على تطبيق مواعدة. «أنا أختار، لا أستجدى العلاقات من باب اليأس».

فى حين يصور المجتمع العزوبية كنفق مظلم، تكتشف كثيرات أنها النافذة التى رأين منها العالم لأول مرة.

أسرار الدماغ الأنثوى

كانت «سلمى» تمسك يد والدتها بقوة، بينما كانت الطبيبة تشرح بالأشعة كيف أن حادث السيارة ترك شرخًا صغيرًا فى عظمة كتفها. لكن ما لم يظهر فى الأشعة كان الشرخ الأعمق فى نفسيتها. بعد عامين، بينما كانت صديقتها «ريم» - التى تعرضت لحادث مشابه- لا تزال تعانى من نوبات هلع، كانت سلمى قد بدأت تروى الحادث ببرود غريب، وكأنها تتحدث عن فيلم شاهَدته!

هنا يكمن اللغز: لماذا تتعامل النساء مع الصدمات بطريقة مختلفة عن الرجال؟

الدكتور «ياسر قطب»، أستاذ علم الأعصاب، يشرح بينما يشير إلى صورة مسح دماغى:

«لوزة الدماغ» (مركز الخوف): أكثر نشاطًا عند النساء عند استدعاء الذكريات المؤلمة، لكنهن أيضًا يستخدمن «القشرة أمام الجبهية» (مركز التحليل) بشكل أكبر لتهدئة ردود الأفعال.

هرمون «الإستروجين»: يعمل كدرع واقية، حيث تظهر الدراسات أن النساء فى منتصف الدورة الشهرية (عندما يرتفع الإستروجين) يتعافين من الصدمات العاطفية أسرع بـ٣٠٪.

لكن هذه الميزة لها ثمنها:

«دماغ المرأة يسجل التفاصيل المؤلمة بدقة عالية كآلية بقاء»، تقول الدكتورة «هبة مراد». «هذا يفسر لماذا قد تتذكرين كلمة جارحتكِ قبل ١٠ سنوات بينما نسيها صاحبها!».

«لم أكن أبكى.. حتى أصبت بآلام غامضة فى ظهرى!» تقول «منى» (٣٤ عامًا) من الجزائر، التى اكتشفت بعد سنوات أن آلامها كانت (جسدنة) لصدمة الطلاق.

الطب النفسى الجسدى يكشف حقائق صادمة:

النساء أكثر عرضة بـ٣ مرات من الرجال لتطوير أمراض المناعة الذاتية (مثل الذئبة الحمراء) بعد الصدمات النفسية.

٧٠٪ من حالات «التهاب المثانة الخلالى» (ألم مزمن فى المثانة) مرتبطة بصدمات جنسية غير معالجة.

«جسد الأنثى يصرخ عندما تُسكت النفس»، بهذه العبارة تلخص «د. نادين غريب» دراستها الميدانية على ١٠٠٠ امرأة عربية.

طقوس التعافى.. لماذا تبحث النساء عن «المجتمع» بينما يهرب الرجال إلى «العزلة»؟

فى مركز تأهيل نفسى بالقاهرة، تجلس مجموعة نساء فى دائرة، تروى إحداهن كيف تعرضت للتحرش، فتبدأ الأخريات بالتصفيق عندما تنتهى! هذا الطقس الغريب هو ما تسميه الإخصائية «سهام عبدالله»: «العلاج بالتطبيع».

«الرجل يفضل حل مشكلته بمفرده فى الجيم أو بالعمل الزائد، أما المرأة فتبحث عن شهادات الآخرين أنها ليست وحيدة»، تشرح «سهام».

دراسة فى مجلة «Nature» تثبت أن:

النساء يفرزن هرمون «الأوكسيتوسين» عند البكاء الجماعى، مما يقلل شعورهن بالألم.

الرجال يعانون من ارتفاع «الكورتيزول» (هرمون التوتر) عند التحدث عن مشاعرهم أمام آخرين!

الوجه المظلم: عندما يتحول التعافى إلى لعنة

لكن هذه الآليات قد تنقلب ضدها:

إدمان الحديث عن الصدمة: بعض النساء يعلقن فى حلقة مفرغة من سرد المعاناة، مما يعيد تنشيط الألم بدل التخلص منه.

التضحية الزائفة: «كنت أعتقد أن تحملى لأذى زوجى فضيلة!» تقول «هدى» من الأردن، التى اكتشفت متأخرة أنها كانت تعيد إنتاج صدمة طفولتها مع أبيها.

هل هناك «طريقة مثالية» للتعافى؟

الجواب المفاجئ فى عيادة الطبيبة «رنا الشمرى» بالرياض، حيث تطبق العلاج المقسوم حسب الجنس:

للنساء: علاج جماعى مع تمارين كتابة إبداعية (لتفريغ التفاصيل الدقيقة).

للرجال: علاج حركى (مثل الفنون القتالية) حيث يفرغون الغضب دون كلام.

وهكذا، بعد أن سافرنا عبر عقول النساء وقلوبهن، نعود ونحن نحمل أسئلة أكثر مما حملنا من أجوبة. هل كنا نعرف حقا ما يدور خلف تلك العيون التى تتابع بودكاستات الجرائم بلهفة؟ هل أدركنا يوما أن سعادة العزوبية قد تكون سرًا محفوظًا بين دفات يوميات لا يقرأها أحد؟ وأن جرح المرأة ليس مجرد ذكرى مؤلمة، بل هو بصمة تحدد طريقة سيرها فى الحياة؟

لكن.. ماذا لو كانت هذه القصص مجرد غيض من فيض؟ ماذا لو كانت هناك طبقات أعمق لم نكشفها بعد؟ استعدوا، فالحكاية لم تنته.. بل ربما لم تبدأ بعد. ففى كل مرة نظن أننا أمسكنا بخيط الحقيقة، نكتشف أن الخيط يقود إلى متاهة جديدة. فهل أنتم مستعدون لمواصلة الرحلة؟

العلم يقول لنا الكثير، لكنه لا يقول كل شىء.. فهل نجرؤ على سماع ما لم يقل بعد؟