الأربعاء 11 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ساحر الفخار.. الفنان النيجيرى إدريس أولابودى: لمس الطين بيدى «مقدس»

الفنان النيجيرى إدريس
الفنان النيجيرى إدريس أولابودى

- أود زيارة مصر وأن أرى الأهرامات وأسير فى الأسواق القديمة

وكأى يومٍ من أيامنا التى باتت تشبه بعضها، فى نسخة مُكررة دون أى لون، كنت أتنقل على «إنستجرام»، أبحث عن صدفة، عن دهشة، عن أى «مانع للملل». هناك، وسط صخب الصور، توقفت أمام لقطة تحمل سكونًا ناعمًا: شاب أسمر بلون الأرض، يحتضن بيديْه قطعة من الفخار، يحتضنها بحق وكأنه يرمم بها قلبه!

حساب يحمل اسم «Clay of Lagos»، يفيض بالجمال الصادق، حيث كل قطعة فنية تنبض بمشاعر دفينة، كأنها رسائل من الطين إلى القلب! هرعت إلى الحساب، تتبعت خطى صاحبه، ولم أتردد لحظة فى التواصل معه لطلب هذا الحوار مع «حرف»، فرحب الفنان النيجيرى إدريس أولابودى بالفكرة، وأرسل إجاباته بروح منفتحة وصادقة.

■ إدريس، كيف بدأت رحلتك مع الفن؟

- وُلدتُ فى منزل فنان. كان والدى مُصممًا للديكور الداخلى والخارجى، ونشأت فى أحضان عالمه الإبداعى، حيث رأيت الفن ليس مجرد زخرفة، بل شىء متجذر فى حياتنا اليومية. كنت طفلًا شغوفًا بالإبداع. أمضيت وقتًا طويلًا فى رسم الشخصيات، كتابة القصائد، والتعبير عن نفسى عبر كل ما يتصل بيدى أو مخيلتى.

■ متى بدأت تدرك أن العمل بيديك هو طريقتك فى التعبير؟

- لطالما شعرت بارتباطى بالعمل بيدى، حتى فى طفولتى. لكن الأمور أصبحت أكثر وضوحًا عندما التحقت بالجامعة لدراسة الرسم. كان ذلك مسارى الأصلى: سرد القصص عبر الألوان والأشكال على اللوحة. لكن الحياة كانت لها خطط أخرى. كانت هناك لحظة غيرت حياتى، رسبت فى مادة «النحت» التى تضمنت العمل بالطين، ما كلفنى سنة إضافية فى الجامعة، شعرت بأنه فشل، لكن فى تلك السنة الإضافية لم يكن أمامى خيار سوى مواجهة المادة التى تحدتنى!

■ هل أصبح الطين وسيلتك للشفاء؟ للتعبير؟ للبحث عن الذات؟

- نعم، العمل بالطين كان بالنسبة لى شفاء وتعبير وهدف. أصبح الطين أداة للعلاج، ليس لى فحسب، بل للآخرين أيضًا. هناك عنصر علاجى عميق فى هذه العملية، فى اللمس والتشكيل. أجد السلام أثناء العمل بالطين، وأرى كيف تعمل قطعى الفنية على تهدئة الآخرين وإثارة التأمل لديهم. أصبح الطين صوتى وطريقى للتعبير عما لا أستطيع قوله بالكلمات. من الشكل إلى الملمس والألوان، أستخدم النحت لمشاركة مشاعرى وقصصى وحقائقى. بمرور الوقت وجدت إحساسًا قويًا بالهدف من خلال هذه الممارسة، وصار الطين صوتى حين تعجز الكلمات.

■ فى زمن أصبحت فيه التكنولوجيا تحكم الفن، لماذا اخترت البقاء فى مساحة العمل اليدوى؟

- العمل بيدى يمنحنى لغة لا تستطيع الأدوات الرقمية تقديمها. يسمح لى بالتواصل مباشرة مع المادة، مع اللحظة ومع ذاتى. هناك شىء عاطفى، يكاد يكون مقدسًا، فى لمس الطين، فهو يستجيب لضغطك وإيقاعك ومزاجك. إنه يصغى. ومن خلال يدىّ أطلق العنان للشكل والشعور أيضًا. الأدوات الرقمية رائعة بلا شك، لكنها تخلق حاجزًا بينك وبين العمل. بينما مع يدىّ يصبح العمل امتدادًا مباشرًا لأفكارى ومشاعرى. لا يوجد وسيط، إنه أنا والطين والمسافة بيننا. فى هذه المساحة يحدث الشفاء، لهذا السبب أقول دائمًا إن الفخار ليس مجرد فن بل علاج.

■ هل تذكر رد فعل ترك أثرًا عميقًا لديك تجاه أحد أعمالك؟

- تلقيت العديد من ردود الأفعال، لكن أكثر ما بقى معى ليس المدح أو الإعجاب، بل كلمات مثل: «فنك شفانى»، أو «شعرت بأننى مرئى عندما رأيت عملك». أتذكر شخصًا وقف أمام إحدى أوانىّ الفخارية وبكى، وقال إنه ذكّره بأمه، التى كانت تعمل فى الفخار وتوفيت.

■ من أين تبدأ شرارة العمل الجديد؟

- عادة ما يكون مزيجًا من العاطفة والفكرة. لستُ فنانًا يخطط لكل شىء مسبقًا، لا أرسم مسودات، بل أكتب وأدوّن الأفكار والقصائد والمشاعر، وأحيانًا تتحول هذه الكلمات إلى أوعية. عندما تصبح العاطفة ثقيلة جدًا، ألجأ إلى الطين لأطلقها.

■ كيف يظهر التراث الإفريقى فى أعمالك؟

- تحمل أعمالى بصمات من التقاليد الإفريقية، خاصة عبر لغة الندوب الجلدية «scarification». لم تكن الندوب مجرد وسيلة للتجميل، بل أيضًا علامة هوية، وسيلة لتسجيل القصص والنسب العائلى وحتى الحالات العاطفية. أدمج هذه الرموز فى أعمالى الخزفية لأننى أريد إبقاء هذا الجزء من تاريخنا حيًا.

■ ما رؤيتك لمستقبل الحِرف فى إفريقيا؟

- أعتقد أن مستقبل الحِرف التقليدية فى إفريقيا مشرق. نحن فى لحظة إعادة اكتشاف، حيث بدأ الناس يفهمون قيمة ما كدنا نخسره. بدأت الرموز والممارسات والتقنيات التقليدية تجد طريقها إلى الموضة والسينما والفن المعاصر.

■ هل ترغب فى زيارة مصر أو عرض أعمالك هناك؟

- بالتأكيد! كان لى توقف سابق فى مطار القاهرة، وكانت رحلتى الداخلية الوحيدة عبر «مصر للطيران». مجرد التواجد هناك شعرت بأهميته، شعرت بالتاريخ والطاقة وعمق الثقافة. اسمى «إدريس»، وشعرت بأنى أقرب إلى جذورى هناك. أود أن أرى الأهرامات، أمشى فى الأسواق القديمة، ألتقى بالفنانين هناك، وأتعلم منهم. سيكون شرفًا لى أن أعرض أعمالى فى مصر، أن أكون جزءًا من هذا الإرث الفنى القديم والمستمر. ولقد صنعت بالفعل قطعة تضم نقوشًا هيروغليفية.

وبصفة عامة، أرغب فى مواصلة تعليمى، وربما السعى للحصول على الدكتوراه فى مجال يربط الفن بالشفاء. أريد إنشاء مدرسة أو استديو، حيث يمكن للشباب أن يتعلموا الفخار ليس فقط كحرفة، بل كوسيلة لفهم أنفسهم بشكل أعمق.