الأحد 08 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فَخت الأَفاعى.. فصل من رواية تصدر قريبًا

الأَفاعى
الأَفاعى

- لأن المكاسب كانت خيالية؛ صعد المسرح ورقص مع الغاز ية وحىَّ المدعوين فرد فرد

- اندفع شباب العائلة والتفوا حولهم ونزلوا صفع وضرب بالشلاليت

إنه الحَظُّ العَاثِرُ الذى جعل أبى يقوم برى البرسيم فى أواخر ليل «طوبة». فلم ير جثة رجل مجهول نحيف مقطوع الرأس، حملتها مياه الخزان، لترسو فى أرضنا الكائنة ببطن الجسر المحاذى للنهر، وتتغير صورتنا بين أهل البلدة من أسرة غلابة وفواعلية؛ تأكل وتشرب بالقطارة، وتنام بعد صلاة العشاء، لتصحو مع صوت أذان الفجر، وتكد حتَّى الغروب لتعيش مستورة أمام الناس؛ إلى بيت مشبوه، خطر ومصدر للشرور. 

بدأ أهل البلدة فى نسج وتداول روايات خيالية مُثيرة منها: تجارة المخدرات وترويجها فى عزبات؛ أبوسيف، أبويعوالى، العزبة الجديدة، والحاجر. وصلت إلى الذروة من خلال فتيان مدمنين على مشاهدة الأفلام الهندية، على قناة زى أفلام وبوليوود؛ انتشرت كوباء بين ربات البيوت فى سوق الثلاثاء، وسايبر النجوم الثلاثة. ومقهى صالح أبوضب، ومركز شباب أبوغالب، والبريد، ومستوصف الدكتور وليد خيرى، ورواد الجمعية الشرعية من السلف الصالح، وبنك القرية، والإصلاح الزراعى، وبين أروقة مبنى المستشقى العام الضخم، الذى تبرعت ببنائه، محسنة كويتية، وفارغ من الأطباء، إلا من طبيب باطنة، اعتبر وجوده فى هذا المكان منفيًا، فبدا كئيبًا، وزاد وزنه بشكل فظيع، والممرضات يطلقن عليه اسم دكتور أفخاذ. يعامل المرضى باحتقار، وبمجرد أن تنطق المريضة أو المريض؛ يهش بيده ويكتب الروشتة، ويناولها للممرضة، التى تتناول عدة أظرف ورقية صغيرة، وتضع فيها أقراصًا متفاوتة الأحجام والألوان من العلب، وتناولها للمريض الذى يذهب إلى الصيدلية، ويحصل على زجاجة دواء للإنفلونزا والكحة والشعب الهوائية.

عندما تداولت هذه الروايات أثناء تناول العشاء؛ استنكر كبار السن والشباب الفِتك الذين يعرفون الفُوْلة: «والله كلام كله جخ فى جخ»! لأن من يحتكر تجارة المخدرات والسلاح فى المنطقة؛ أصحاب الأيادى السوداء أولاد عبدالبر. ولا طاقة لأحد فى منافستهم. لأنهم مدربون ولديهم شبكة توزيع محترفة، توارثوها من سُلالة تقدس المخاطرة ولا تعبأ بالنتائج. رغم الأحقاد المريعة فيما بينهم، إلا أنهم يدٌ واحدة فى مواجهة الخصوم. ويتميزون بجسارة نادرة، وتفانٍ وإنكار للذات للحفاظ على وحدة العائلة وقوتها. فبمجرد نشوب نزاع أو مشاجرة، وهذا نادرًا ما يحدث، تجدهم يتجمعون، كيف؟ لا تعرف! مَنْ فى السوق يترك الجاموسة ويخلق سيارة بأسرع ما يمكن، والنائم يوقظ من يروى الأرض ويتركها ويولع الزرع. ومن فى المدرسة يعود. ومن يعتلى زوجته ينزل فورًا. ومن يمسك المحراث يتركه ويركب الماكينة. يتجمعون حزمة واحدة، ويدخلون الشجار دون إحم ولا دستور. لا يسألون من صاحب الحق، لأن الحق دائمًا معهم. تقول جراد؛ يندفعون كالثيران المعلوفة، بالشوم والسكاكين والمطاوى والسلاح، يضربون بشراسة وعنف بالغ، فلديهم قوة بدنية وجسارة، تجعلهم يسحقون العدو فى مدة قصيرة. ثم يعودون داخل محيطهم السكنى المغلق، ويعقدون اجتماعًا لتلافى تداعيات الكارثة التى جرت، فالأمر شورى بينهم، ومن يدلى برأى راجح ينفذ فورًا. وعمليًا لا ينطق فى هذه الحالة، غير رأس واحد بدأ من الحاج محمود البودى المهيمن أثناء الحكم الملكى، والذى يمثل أسطورة داخل عائلة البودى. وقد جمع السلطتين فى البلد الدينية والدنيوية، وكان ظل الله على الأرض، يفعل ما يريد. ثم هرم وحُجبَ مع حركة الضباط، وبعده استلم القيادة فريد ثم فرحات، وانتهت أخيرًا بالحاج نجاح الداهية، الذى أوقع عُشُرَىْ العائلات فى بعض، ونجح فى مجلس الشعب. 

كل واحد يعرف دوره فمن يقوم بمتابعة القضايا، ومن له باع طويل فى المستشفيات، والأطباء، والجنازة، وإقامة العزاء، ومن يتعامل مع الحكومة. نسجوا شبكة علاقات مع المنظومة الحاكمة أى كانت؛ يمينية، يسارية، عسكرية، إقطاعية، أو عشائرية. لديهم قدرات استثنائية عبر تاريخ طويل فى تضفيرها، يستحيل فضها ولو بالدم. والنسب جزء من تشبيك هذه المنظومة مع البيروقراطيين وأبناء الطبقة الفقيرة الطموحين، والذين صعدوا قطار الثراء بمدد المثابرة والكد، ورشى تخليص الأوراق، وتمرير الصفقات الفاسدة، وقرابة دم مع العائلات الثرية فى القرى المجاورة. المستشار سعيد حامد ابن عمتهم، واللواء سعيد هريدى ابن بنت الخال عوض، وضابط النقطة إبراهيم سلامة ابن العم لزم، وعضو مجلس الشعب من قلب العائلة، إذا جاء من خارج البلدة يحتوونه، ويدعمونه فى الحملات الانتخابية. وطبيب الوحدة البيطرية، ومدير البنك، والجمعية الزراعية، والإصلاح الزراعى. فى النهاية هم يعرفون ديَّة كل قتيل، لذلك استقر لهم الأمر دون منافسة. حتى قام جمال الأسود بكسر هذا الاحتكار، وتحدى العائلة فى عقر دارهم فى بلدة «أبوغالب». كان حدثًا استثنائيًا فريدًا يجب تسجيله، تقديرًا للشجاعة النادرة، خاصة أنه لا يمتلك عزوة تحميه، ولا ذراعًا قوية يستند إليها. ولكن ماذا ستأخذ الريح من البلاط؟ فهو شاب انتحارى ليس لديه ما يخسره، ويُعْرَف أنه مجرد عود فى وسط حزمه عفية، ورغم ذلك تجرأ واشترى نبات البانجو من تاجر جملة منافس للعائلة، يوزع فى دوائر أوسع، ويتمركز فى مدينة المناشى. فباع له بسعر بخس كنوع من المكايدة وضرب تحت الحزام. لم يتركوه وقالوا: شق الخراء تحتك..! لا بل قدموا له خطة ذكية لتوزيع المخدرات، بحيث لا يُثير مشاكل، حتى يقوى ويثبت تجارته. ووعدوه بحماية من الشرطة. لذلك ظل يوزع فى نطاقٍ ضيقٍ بين الأصدقاء والأقرباء. ويبدو أن العائلة شمت خبرًا، ولكنها لم تتخذ أىَّ إجراء ضده، حتى لا يعملوا له قيمة. هذه الطريقة لها خطورتها أيضًا. هكذا أشار فرحات الخبيث صاحب اللَّدغة المميتة. أنصت الحضور ليقدم وجهة نظره، ولكنه أشعل عود كبريت ورماه على فرش الكنب، فجرى شاب وبكف يده وأد النار فى مهدها. كبير العائلة غضب وقال: يا هوووه يا فرحات! هتخلينى أسب للخلفوك، دا أنتَ قعدتك غمْ ونكد!

ــــ أهو جمال عود كبريت، لو لم يطفئ بسرعة، كان حرق الكنب، وممكن يحرق البيت كله!

ــــ عيل يا فرحات لو شفته يقل منىّ، سيبه يغلط، الحجر الدائر لا بد من لطه، وأنهى الاجتماع بخروج كبير العائلة لصلاة العشاء فى الجامع الكبير الذى بناه زوجان من الكويت؛ الزوجة من آل الخرافى، والزوج من آل غانم. فالعائلة لديها التزام صارم بالصلاة فى المسجد، ولا يمنعهم إلا الشديد القوى. وعندما تسأل كيف يجتمع الفُجر مع الصلاة؟ يرد: دى نقرة ودى نقرة ثانية خالص. ويُقال والعهدة على الرواة؛ أن شفيق البودى أثناء زيارة بيت سيئ السمعة فى القناطر، وقبل أن يهم بلقاء الحبيبة؛ تذكر أنَّه لم يُصَل العشاء بعد. فطلب حصيرة وسأل عن اتجاه القبلة، فلم يعرف أحد. وكانوا فى غاية الارتباك والتوتر، بسبب جديته المبالغ فيها. لذلك خرج من البيت وسأل صاحب دكان قريب من البيت، ثم عاد وصلى العشاء على المصطبة. وعندما غضب رفيقه، وبخه وقال: الصلاة صلة. وعندما دخل على العفيفة السيدة راوية العايقة؛ ظلت مدة غير قادرة على الاندماج فى الحالة، ولكنها تفوقت على نفسها فى النهاية، وأزاحت الخيالات التى أرقتها، لأنها تؤمن بقيمة العمل. وخرج آخر نشوة وانسجام، مع أن السيدة راوية ظلت طوال الليل تبكى خوفًا من الله.

ـــ نكَّد علىّ ابن الكلاب هو داخل زاوية؟!.. ما يصلى فى بيتهم! وأقسمت بعزة جلال الله ألَّا يدخل بيتها مرة ثانية. 

هذا الحرمان ضرب سويداء القلب فعلًا، لأن شفيق كان استثناءً فى هذه العائلة. فهو عاطفى وراثة من أخواله، وهذه الرومانسية ركبته من الداخل، وجاءت له بمصائب لا تنتهى، وعقاب مرعب من الأب والعم والجد، لكى يستوى عوده، ولينضم لحزمة الشر. ولكن أبدًا! رأسه وألف صندل قديم، أنَّه يفضل زى ما هو؛ بهلول عبيط ابن كلب. لكن تقول إى؟.. الخال يكسر فى الركبة! 

حاول بعد ذلك مرات كثيرة مع المحتجبة راوية، ولكنه فشل. اقترح عليه ابن عمه بيوتًا أخرى سمعتها زى البرلانت، ولكنه رفض. وفى يوم ربيعى مميز؛ نسيم رقيق، ورائحة زهور البرتقال تفوح فى الجو، ومناخ صحو بديع؛ قرر أن يفض الالتباس ويزيل العوائق والشوائب العالقة بينهما. وركب السيارة وعندما وصل؛ وجد راوية تقف أمام البيت، وعندما رأته دخلت بسرعة وأغلقت الباب. لم يتراجع، ودق على الباب، ثم تذكر فجأة المغنى محمد قنديل، فرفع صوته يغنى محاولًا تقليده:

سحبْ رمشه ورد البابْ 

كحيل الأهدابْ. 

نسيت أعْمل لقلبى حجابْ 

وقلبى دابْ. 

رموشه تميل على خده 

جناح رفرف على ورده. 

ولو طلب القمر وده أمل كدابْ.

راوية فتحت الباب، وعيناها تدمعان وقالت: اُدخلْ يا ابن الكلب! 

وكانتْ سهرة زىْ الكتاب ما يقول، على أنغام صوت كوكب الشرق الخالد.

جمال بدأ يراكم فلوس، ويزيد من حجم تجارته فى سرية، ولأنه ودود وطيب بدأ يكتسب أرضًا جديدة. حتى جمع مبلغًا كبيرًا، وقرر أن يظهر للعلن باعتباره تاجرًا للمخدرات محترمًا. يبيع بسعر مناسب للجميع. وجاءت له الفرصة على طبق من ذهب. فرح ابن عمته وهو من أسرة ثرية، لأنهم تجار كبار للتين الشوكى والموالح أبًا عن جد، ولهم علاقات واسعة. لذلك جهز نفسه جيدًا بكمية كبيرة من المخدرات. دفع نصف الثمن، وبعد الفرح النصف الآخر. اعترض التاجر على تهور جمال ورعونته، ولكنه رضخ أخيرًا لأن فى النهاية؛ لا بد من مجازفة ومواجهة، شاء من شاء، وكره من كره. وباركوا الصفقة وقالوا: تجربة؛ يا صابت يا اتنين عور. واستعان باثنين من أصدقائه والدنيا «زهزهت».

أولاد عبدالبر لم يحضر أحد منهم الفرح، فص ملح وداب. انتشى جمال. والد العريس أخذه على جانب وقال له: جمال! خلى بالك؛ أنا شامم ريحة وحشة، عدم حضور حد من أولاد عبدالبر مايطمنش! 

ـــ ولا يهمك يا خال. وضرب على سيالة الجلابية، وقال: اللى يقرب منى؛ ملوش عندى إلا طلقة بتسعة صاغ فى دماغه، م الأخر أنا مستابيع.

ـــ أنا ما أطيق خلقتهم الوحشة. لكن اتقاء لشرهم؛ أرسلت لهم دعوة زيهم زى غيرهم.

ــ عملت الواجب يا خال، واللى ما يجيش فى داهية؟!

البيع يتوالى والحسابة تشتغل داخل دماغ جمال. ولأن المكاسب كانت خيالية؛ صعد المسرح ورقص مع الغازية وحيّا المدعوين فرد فرد، ورمى الفلوس تحت رجليها. انتهى الفرح قرب الفجر، ولم الغلة وخرج سكرانًا، فاستقبله أولاد عبدالبر، وأيمان المعجزات قيدوه وربطوه فى تويوتا وجروه فى الشارع، حتى انسلخ جلده. نحلوا وَبَرُه يا جدع، وأخذوا منه كل الفلوس والمخدرات المتبقية، وتركوه غارقًا فى دمه. حتى جاء أهله ورفعوه من الشارع، بعد وساطة شيخ البلد الحاج عبدالهادى عمر، عند أولاد عبدالبر. ظل ثلاثة أشهر فى المستشفى فى غيبوبة حتى نجا بقدرة قادر. جمال مثل القطط بسبع أرواح، رأى الموت بعينه عدة مرات؛ منها أثناء انتخابات مجلس الشعب ١٩٩٠، عندما أخذ يبرم حول مرشح البلدة الحاج عبدالحميد البودى، لَزْقَة بغيره. يعمل شاى للزائرين، يحمل صوانى الطعام للضيوف، يلتقط الميكروفون ويهتف للحاج وعائلة البودى. ولكن العائلة بدأت ترتاب فيه، خاصة أن كثيرًا من الأخبار تسقط فى حجره. فبدأ شباب العائلة فى الحط منه، لحوح يريد وظيفة فى بنك القرية، عرض عليه الحاج أن يسعى لتعيينه فى الوحدة المحلية، ولكنه رفض لضعف الراتب، فضربه الحاج برجله وألقاه بعيدًا، وقال له: تتبغدد يا ابن الكلب يا وسخ؟! صلب طوله وأخذ ينظر للحاج نظرات نارية، وقال له: شكرًا يا حاج، أنت زى والدى، مش عيب إنك تضربنى؟ 

ـــ ولو مش زى والدك يا ابن الكب يا وسخ؟ تعمل إيهِ يعنى؟!

التف حوله بعض شباب العائلة، ودفعوه وهم يطبطبون عليه: معلش؛ سيب الحاج دلوقت، عنده مشكلة كبيرة، وراكبه ستين عفريت.. حقك علينا.

فى اليوم التالى؛ استعار بدلة وكرافت من الأستاذ رمضان مدرس اللغة الإنجليزية، وذهب إلى المرشح المنافس. وأصبح بعد فترة وجيزة ضمن دائرته القريبة. يقوم بعشرات المهمات بمهارة وقدرة فائقة، فلديه جراءة وصوت واضح وكلام مرتب. يقتحم أىَّ مجلس ليمدح الحاج سيد سليم مديحًا مبالغًا فيه، دون أن يرتبك. يُخلص الحاج من المتطفلين واللحوحين بطريقة ظريفة. وهو أول من لقب الحاج بالبرنس كبير الدائرة. وتم تغيير يفط الدعاية، واستبدل كلمة الحاج بكلمة برنس الدائرة. أثناء الانتخابات عمل توكيل يسمح له بالدوران على اللجان. لو يتمتع بمليم كياسة كان لف خارج مقر البلد الانتخابى؛ لكنه كياد ورخم، كل فترة يتفقد سير العملية الانتخابية، ثم جمع عائلته قليلة العدد فى اليوم الأخير وتقدمهم إلى المقر الانتخابى فى مدرسة صلاح الدين الابتدائية، ليدلوا بأصواتهم. ويا ليته لم يذهب! فقد وصل للأسف فى وقت والعائلة روحهم فى مناخيرهم؛ وجوههم سوداء من الكمد، بسبب تفوق المرشح المنافس. عندما رأوهم؛ اندفع شباب العائلة والتفوا حولهم، ونزلوا صفع وضرب بالشلاليت، السياج الذى ضربوه حولهم، تفكك قليلًا لتخرج أهله وعندما حاول الانفلات، فشل. وأخرج واحد منهم مقصًّا وشدَّ الكرافتة وقصَّها. ونزلوا عليه ضربًا وهو يردد: عيب لا يصح الكلام ده! 

أخذ الطريحة التمام، وتركوه يخرج بالفانلة. هذه العلقة التى أخذها، كانت مسوغ تعيينه فى وزارة الكهرباء.