خبيئة أمل دنقل.. أنس دنقل: نشر قصائد ومسرحية وكتابات نثرية جديدة لـ«شاعر الرفض».. قريبًا

- والدنا كان شاعرًا.. وما زلت أحتفظ بقصيدتين له إحداهما عن فلسطين أعتبر كلَّ ما كتبَه مِلكًا لعُشاقه ولا أبتغى من نشره جزاءً ولا شكورًا
- مشروعه فى إرجاع المفردة العربية إلى أصلها الثنائى «ثورة فى اللغة العربية»
- كتب معظم أعماله وعمره لم يتعدَّ الـ22 عامًا
- نصوص «قصائد أولى» كُتبت فى الستينيات ولم تُنشر فى الأعمال الكاملة
- اليُتم ومسئوليته عن أسرته فى سن العاشرة وراء تفجر موهبته الشعرية
- التهم مكتبة والده فى سن الـ16 وكتب قصائده الأولى قبل الـ22
فى خطوة تضىء جانبًا مجهولًا من مسيرة أحد عمالقة الشعر العربى، أصدرت دار «كيان» للنشر كتاب «أمل دنقل.. قصائد أولى»، بتحرير أنس دنقل، شقيق الشاعر الراحل، الذى يكشف فيه عن نصوص شعرية مبكرة لم تُنشر من قبل، تظهر التكوين الأوّلى لـ«شاعر المرارة والرفض».
يروى أنس دنقل، فى حواره مع «حرف»، قصة اكتشاف مسودات هذه النصوص، وكواليس البحث المضنى فى أوراق شقيقه، التى ظلت حبيسة الأدراج لعقود، إلى جانب استعراضات البدايات الشعرية لـ«أمل»، وما تكشفه هذه القصائد عن مسار تحوّله الفنى.
ولم يقف الاكتشاف عند حدود الشعر، إذ يكشف «أنس» عن عثوره على مسودات لمسرحيات شعرية ودراسات نثرية غير منشورة للشاعر الراحل، ما يفتح آفاقًا جديدة لقراءة إبداع أمل دنقل، بعيدًا عن القصائد التى اشتهر بها، ويُظهر جوانب أخرى من عبقريته الأدبية التى لم تنل حظها من الدراسة والتحليل.

■ بداية.. لماذا تأخر كتاب «أمل دنقل.. قصائد أولى» عن النشر حتى ٢٠٢٥؟
- عقب وفاة شقيقى أمل دنقل يوم السبت ٢١/٥/١٩٨٣م، كان فى بيتنا بالصعيد العديد من مخطوطات قصائد لـ«أمل» مجمعة فى أجندة تعود لعام ١٩٦٢ ما يشير لتاريخ كتابتها، أهمها مجموعة قصائد بعنوان «قلبى والعيون الخضر» سبق أن نشر «أمل» قصائد منها ضمن ديوانيه «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» و«مقتل القمر»، إضافة إلى بعض الجرائد والمجلات المنشور بها العديد من القصائد التى لم تتضمنها دواوينه المنشورة، بالتالى لم تُصدر ضمن أعماله الكاملة، فقررت إصدارها وإعادة طباعتها.
وأتوجه بالشكر إلى دار «كيان» للنشر، وعلى رأسها محمد جميل صبرى ونيفين التهامى، على اهتمامهما بنشر تراث أمل دنقل، وأعتقد أن هناك نية لنشر باقى كتابات «أمل» النثرية والشعرية التى لم تجد طريقها للنشر حتى الآن معهما.

■ قلت إن هناك مسرحية جديدة تم اكتشافها لأمل دنقل.. ما تفاصيلها؟
- هى مسرحية «الخطأ»، ومكتوبة مطلع الستينيات عقب حرب اليمن، وتنتقد الأنظمة العسكرية، ولدىّ ٣ مسودات لها، وكنت قد اتفقت مع الدكتور سيد البحراوى على كتابة دراسة كمقدمة لها، لكن الموت فاجأنا برحيل هذا الناقد الفذ، وصديق أمل دنقل الصدوق، ما عطل صدور تلك المسرحية. حاليًا أنوى إصدار هذه المسرحية، وإن كنت أبحث عن قامة بمثل مستوى الدكتور سيد البحراوى لإجراء دراسة وتقديم لها، لكن لم يقع الاختيار على الكاتب بعد.

■ هل هناك مسودات لأعمال أخرى؟
- نعم بالتأكيد، هناك مُسودات ديوان «أقوال جديدة عن حرب البسوس». نشر «أمل» فى حياته شهادة الملك «كليب» بعنوان: «لا تصالُح»، كما نشر شهادة «اليمامة بنت كليب»، بقيتْ شهادة «جسَّاس» مع تبريراته لجريمته، وشهادة «جليلة بنت مُرَّة» المُمزَّقة بين البطلين: زوجِها وأخيها، إضافة إلى شهادة بعض الشخصيات التى تلعب دورًا مُعلقًا على الأحداث، حسبما ذكر «أمل»، نفسه فى حوار أجراه مع جهاد فاضل بمجلة «آفاق عربية»، قبل عامين من رحيله.
كما يوجَدُ مخطوطُ مسرحيةٍ شعريةٍ بعنوان: «مأساة الحاكم بأمر الله»، رأيتُها بعينى بين أوراقه بالقاهرة، كما تحدَّثَ «أمل» عن المخطوط فى برنامج «أُمسيَّة ثقافية» بالتليفزيون المصرى فى حواره مع الشاعر فاروق شوشة.
لكننى أؤكد أننى كنتُ حريصًا، وما زلت، على الوصول إلى الأعمال الأخيرة لـ«أمل»، خوفًا من وقوعها بين يدى مَن لا يعرفُ قيمة ما لديه من أوراقٍ أدبيةٍ. والحقيقة أنا أعتبر كلَّ ما كتبَ «أمل» ملكًا خالصا لعُشاق ودارسى شعره، لا أبتغى من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا، وحسبى أن يصل صوتُه لهؤلاء الذين أحبَّهم وكتبَ لهم.

■ قلت إن «أمل» كان لديه مشروع كبير عن إرجاع المفردة العربية إلى أصلها الثنائى.. ما معنى ذلك؟
- هناك مسودات لمشروع دراسة لُغوية تحدث عنها «أمل» فى حواره مع عبدالله على صائغ فى مجلة «الثقافة العراقية»، العدد الأول عام ١٩٧٧. يقولُ فى هذا الحوار: «لدى َّمشروعٌ بدأتُه منذ سنتين، كان فى البادئ فكرةً تُؤرِّقنى كثيرًا، والمشروعُ - ببساطة- هو إرجاعُ المُفردة العربيَّة إلى أصلِها الثنائى، أتصوّر أنَّ تجاربى حققتْ اكتشافاتٍ هائلةً، ويومَ أُعلنُ عنها سيتحركُ الماءُ الساكنُ. لماذا نُضيِّعُ لُغتَنا العربيَّة الجميلة بدراسة قواعد الإملاء والصرف والنحو من زاوية مُعقدة؟».
ويضيف: «إنَّ إرجاع المفردة العربية إلى الثنائية سيجعلُ عوائلَ المُفرداتِ تتقارَبُ. سوف تعقدُ العوائلُ المُتباعدةُ ما بينَها علاقاتِ مُصاهرة، وكذلك سوفَ تتنافرُ بعضُ العوائِل المتقاربة، أى إنَّ ثورة حقيقية يمكنُ أن تبدأ بمشروع (ثنائية المُفردة). الكلمة الثلاثية أصلُها ثنائى، وكذلك الكلمة الرُّباعية بل وحتى الخماسية والسداسية، كنتُ أعرفُ أنَّ لُغتَنا ليست يتيمة، لأنَّ لها أبًا شرعيًا، وعندها شقيقاتٌ يشاركنها القواعدَ والظروفَ والأصوات والمعانى».

ويواصل «أمل»: «من هنا استعنتُ بصديقٍ يحملُ (الدكتوراه) فى اللغة العبرية، وثانٍ فى اللغة الفارسية، وثالثٍ فى اللغة الحبشية، ثم وضعتُ جداولَ صممتُها لعوائل المُفردات، وأدركتُ أخيرًا أنّى مُحتاجٌ إلى جَهدٍ استثنائيٍّ فى (فقه اللغة المقارن) و(فقه المنطق)، وجلستُ فى غُرفتى أتابعُ نتائجَ تجاربى، وأثبت هنا بأنَّ مشروعى هو صورة لتعلقى بالعربية وحبى لها، والمشروع يسير بِهمَّةِ، ولستُ شاكيًا من تعبٍ أو عُقوقٍ، وسوف أطبعُ نتائجَ أبحاثى وتوصياتى فى كتاب مُستقل وقريبًا».
كما انتهيت من تجميع المقالات النثرية لـ«أمل دنقل» لإصدارها فى كتاب، وهى تضم مقالات عن شعراء زمنه: صلاح عبدالصبور وعبدالمعطى حجازى، إضافة لاستعراض أهم الكُتاب مثل يوسف إدريس ومقالات أخرى.

■ قلت إن والدك كان شاعرًا.. هل تمتلك أى قصائد له؟
- نعم.. كان والدى شاعرًا، ويحمل شهادة العالمية فى اللغة العربية عام ١٩٤٠، والحقيقة أن له قصيدتين ما زلت أمتلك مخطوطتيهما، إحداهما كُتبت عام ١٩٣٦ بعنوان «حرب فلسطين»، والثانية اسمها «أيها الموسرون»، وكتبها فى عام ١٩٤١.


حرب فلسطين
يا فتى النيل يا حفيد الحروب
هذه أختنا غدت فى الكروب
فاستفق واستفق من النوم وانهض
مستميتًا فى حقها المسلوب
ما فلسطين غير روح لجسم
أين جسم بغير روح طروب
ما فلسطين غير قلب لعرب
فى شروق من الدنى وغروب
أسعف القلب واحفظ الروح
واهتف لجهاد فى جيئة وذهوب
حقق النصر بالدماء وبالمال
وبالناس فى شريف الحروب
واحمل السيف وامشِ فى الأرض بثبات
يبعث الرعب فى جميع القلوب
كن كما كان خالد فى جهاد
واشترِ الخلد بالدم المسكوب
ما حصون البلاد إلا رجال
وهبوا الروح عند كر الخطوب
أغسطس ١٩٣٦

أيها الموسرون
أيها الموسرون ردوا عذابًا
قد غدا فى البلاد بحرًا عبابا
وارحموا أنفسًا طواها شقاء
فيه تلقى من الحميم شرابا
انظروا وانظروا إلى جل شعب
قد بدا بطنه خرابًا يبابا
عضه الجوع بالنيوب المواضى
فمضى يأكل القذى والترابا
أيها الموسرون إن لم تجودوا
فاحذروا الصفو أن يعود ضبابا
واحذروا الجوع أن يصير ذئابًا
تجعل المال فى اليدين سرابا
إنما الجوع كافر لا يبالى
حكمة أو نصيحة أو عتابا
حاذروا واحذروا وكونوا
سماءً يغمر السهل غيثها والهضابا
حاذروا واحذروا وكونوا دواءً
يسعف الجرح يطرد الأوصابا
إنما هذه الحوادث حلت
بيننا كى نراعى الآدابا
ويجود الفتى بالمال لا أن
يجعل المال للمآثم بابا
ويكون الكتاب خير دليل
يملأ الكون حكمة وصوابا
ضل قوم لم يسمعوا الصوت منه
واتخذوا الرجس فى الحياة طلابا
أيها الموسرون هذا رسول
الله قد زان بره الأحقابا
فاقتدوا بالرسول فى كل أمر
واعملوا ما يناسب الألقابا
واتقوا الله فى الرغيف تنالوا
حسن ذكر مخلد وثوابا
ديسمبر ١٩٤١

■ إلى جانب موهبته.. ما العوامل التى صنعت من أمل دنقل هذا الشاعر الكبير فى رأيك؟
- أعتقد أن اليتم بكل معانيه فى سن مبكرة، وتبدل علاقات الأهل والأصحاب مع أسرته الصغيرة، التى أصبح «أمل» مسئولًا عنها فى سن الـ١٠ سنوات. تحول «أمل» إلى صورة من الأب الراحل، ولأن الأب كان شاعرًا، أصبح الابن نموذجًا صغيرًا من أبيه.
التهم «أمل» مكتبة أبيه اللغوية والدينية فى سن مبكرة، فقد كان والدى حاصلًا على شهادة العالمية فى اللغة العربية من جامعة الأزهر، ويمتلك مكتبة ضخمة فى بيته، قرأ «أمل» كل ما تحتويه من كُتب ولم يتعدَّ عمره الـ١٦ بعد، قرأها بحب وشغف، لينطلق بعدها مستوعبًا ثقافات عصره وآفاق جديدة، إضافة إلى الثقافة التقليدية الراسخة.

أمل دنقل كتبَ معظم هذه الأعمال التى بين يدى القراء وعمره لم يتعدَّ الـ٢٢ عامًا، لذا تشعر فى حروفها ببكارة الكلمات، ووهج الشعر الصادق بعيدًا عن أى صنعة. قد يقول قائل إن بعض هذه القصائد، وليس كلها، دون المستويين الفكرى والفنى اللذين وصلت إليهما قصائد «أمل» فى مرحلته الأخيرة، لكنها السنة الأولى التى صاغ فيها الشعر، وكان مما كتبه الأبيات التى يقول فيها:
صديقى الذى غاصَ فى البحر.. مات!
فحنطتُه..
واحتفظتُ بأسنانه..
كلَّ يوم إذا طلعَ الصُبحُ.. آخذ واحدةً..
أقذفُ الشمسَ ذاتَ المُحيَّا الجميل بها..
وأردد: يا شمسُ أعطيك سِنته اللؤلؤية..
ليس بها من غبار.. سوى نكهة الجوع!!
رُديه .. رُديه.. رُديه
يروى لنا الحكمة الصائبة
ولكنها ابتسمتْ بسمَة شاحِبة!ل كان أمل بالفعل يحمل دائمًا صورة

■ هل كان أمل بالفعل يحمل دائمًا صورة للشاعر محمود حسن إسماعيل؟
- عندما ذهب شقيقى أمل دنقل إلى القاهرة لأول مرة، قرب نهاية خمسينيات القرن الماضى، حمل معه صورتين لشاعرين من الجيل السابق له، اقتطعهما من مجلة «الإذاعة المصرية»، كانا ممن تتلمذ على يديهما شعريًا، الأول هو الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل، الذى ظلت صورته بين طيات حاجيات «أمل» حتى رحيله.
أما الثانى فينتمى إلى نفس جيل محمود حسن إسماعيل زمنيًا تقريبًا، وعندما ذهب «أمل» للقائه، وجده أمام إحدى المؤسسات الثقافية، فى الشارع، منتصبًا واضعًا يديه أمامه، فى استهزاء وأدب مصطنع، منتظرًا تشريف أحد جنرالات الثقافة ليكون خلفه فى شرف افتتاح أحد المشروعات الثقافية وقص الشريط، لذا مزق «أمل» صورة هذا الشاعر وانصرف. بينما ظل محمود حسن إسماعيل وصورته إلى النهاية، يرثيه «أمل» بينما ينهشه المرض العضال:
واحد من جنودك يا سيدى
قطعوا يوم «مؤتة» منى اليدين
فاحتضنت لواءك بالمرفقين
واحتسبت لوجهك مستشهدى
واحد من جنودك- يا أيها الشعر- هل يصل الصوت
والريح مشدودة بالمسامير؟!
هل يصل الصوت
والعصافير مرصودة بالنواطير؟!
هل يصل الصوت
أم يصل الموت؟
قل لى فإنى أناديك
من زمن الشعراء الأناشيد
للشعراء السجاجيد
من زمن الشعراء الصعاليك
للشعراء المماليك
أرسم دائرة بالطباشير لا أتجاوزها!
كيف لى؟ وأنا أتمزق ما بين رخين!
والقدمان معلقتان بفخين!