الأحد 15 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز

الذين عرفوا أنهم غرباء.. بهاء عبدالمجيد يطل من العالم الآخر برواية جديدة

بهاء عبدالمجيد
بهاء عبدالمجيد

- دار «إبييدى» تنشر الرواية الأخيرة للأديب الكبير بعد 5 سنوات من رحيله

بعد 5 سنوات من رحيل الأديب المصرى، الدكتور بهاء عبدالمجيد، أستاذ الأدب الإنجليزى بجامعة عين شمس، الذى توفى متأثرًا بإصابته بفيروس كورونا عام 2020، أعلنت دار «إبييدى» للنشر عن إصدار روايته الأخيرة التى حملت عنوان «الذين عرفوا أنهم غرباء». صدور تلك الرواية يحمل خلفه قصة مثيرة، إذ ظلت مخطوطتها مفقودة داخل جهاز الكمبيوتر الشخصى للراحل، حيث كان يعمل عليها فى صمت قبل وفاته، وبذلت أرملته الدكتورة أمانى الدسوقى وابنه «ياسين» جهودًا كبيرة للعثور عليها، لكن محاولاتهما باءت بالفشل، حتى تدخل الناشر محمود عبدالنبى، مدير دار «إبييدى»، الذى تمكن من استخراج الملفات من الجهاز.

لم تكن الرواية مكتملة عند العثور عليها، ما دفع دار النشر إلى الاستعانة بالمحررة الأدبية المخضرمة، الدكتورة إيمان الدواخلى، لإتمام العمل مع الحفاظ على روح النص وأسلوب الكاتب الراحل، حيث درست أعمال «عبدالمجيد» بعناية قبل الشروع فى هذه المهمة الصعبة التى استغرقت عدة أشهر.

«حرف» التقت أرملة الراحل، أمانى الدسوقى، والناشر محمود عبدالنبى، والمحررة إيمان الدواخلى، فى حوار خاص كشف تفاصيل هذه الرحلة الأدبية الاستثنائية.

المحررة: كتبها خاتمة لحياته وليقول: «الإنسان صالح بسلوكه وليس بانتمائه ودينه» 

كشفت الدكتورة إيمان الدواخلى عن تفاصيل مشاركتها فى إكمال رواية الراحل، مبينة أن الناشر محمود عبدالنبى تواصل معها ليخبرها أنه عثر على الرواية محفوظة على جهاز الراحل، لكنها غير مكتملة.

وأضافت: «فى البداية، أخبرنى الأستاذ محمود أنه يعتقد أن الرواية اكتملت بنسبة ٨٠٪، فاقترحت أن نضع اسم الدكتور بهاء على الغلاف مع إضافة عبارة (أكملتها إيمان الدواخلى) بخط صغير، لكنه أوضح لى أن العمل يحتاج إلى الكثير من الجهد، إذ لم يكن مكتملًا بالصورة التى توقعها».

وتابعت: «قلت له: لا بأس، أرسل لى الرواية وسأعمل عليها فى جميع الأحوال. طالما أن العمل يحمل اسم بهاء عبدالمجيد، فهذا يكفينى، وأرسل لى النص وبدأت فى قراءته والعمل عليه بحرص شديد».

وكشفت أنها تعاملت مع المهمة بمنتهى الجدية والاحترام لتراث الراحل الأدبى، مشيرة إلى أنها بذلت جهدًا كبيرًا لضمان أن يكون العمل النهائى متسقًا مع أسلوب الدكتور بهاء ورؤيته الأدبية.

وأكملت «وجدت أنها مسودة مكتملة، وكانت الفكرة واضحة لى منذ البداية، لأننى أعرف (بهاء) جيدًا، وتحدثنا كثيرًا فى مواضيع متعددة، وراجعت له سابقًا رواية صدرت عن دار (أكتب)، لذلك أنا أفهم أسلوبه وطريقة تفكيره جيدًا».

وتابعت: «بهاء لديه انحياز تام للإنسان، وهو ضد أى تصنيف قائم على أى أساس، سواء جنسيات أو أعراق أو حتى أديان، يرى أن الإنسان الصالح هو ببساطة إنسان صالح، وأن الله لم يُنزل دينًا سيئًا، بل الناس يولدون معتنقين أديانًا معينة بحكم النشأة والأسرة، لكن قرار أن يكون الإنسان صالحًا أو لا، لا يأتى من دينه، بل من اختياره الشخصى، وهذه الفكرة كانت تؤرق بهاء منذ زمن، وقد لمح إليها فى معظم أعماله السابقة».

وواصلت: «أما فى هذه الرواية، فقد كانت وكأنها خاتمته، لقد طرح هذه الفكرة هذه المرة ليس على شكل تلميح ضمن شخصيات أو سياقات، بل جعلها هى الفكرة الأساسية والمحورية التى بنى عليها الرواية، لم يرد أن يُقال (أنا أتبع كذا إذن أنا إنسان جيد)، بل أراد أن يقول: (كن إنسانًا جيدًا فقط)».

ورأت أن هى ليست نبوءة لموته، لكنها بالفعل تعكس شعورًا بأن هذه كانت فرصته الأخيرة لإيصال فكرته، حيث أراد أن يعلنها صراحة: «هذه هى رسالتى للعالم، الرسالة التى كرست حياتى لأجلها، أقولها لكم بوضوح: الإنسان الصالح هو إنسان صالح، بغض النظر عن انتمائه».

وأكمل: «كان النص قد تم وضع هيكله العام، وبدأ بالفعل فى تفصيل الشخصيات، واختار مصر لتكون نقطة التقاء هذه الاختلافات، والزمن الذى اختاره كان هو الزمن الذى كانت فيه مصر فعليًا أرضًا (كوزمزبوليتانية) تلتقى فيها جميع الجنسيات والأعراق والأفكار دون حرج أو عداء، الغريب فى بلده كان يشعر فيها بأنه فى وطنه، ولم يكن يشعر بالغربة، فقد احتضنت مصر الأرمن، واليونانيين، والفرنسيين، والهاربين من النازية، وغيرهم، وكان كل من يأتى إليها يتوطن ويندمج، دون أن تكون هناك موانع لذلك، ودون عنف أو تعالٍ مبنى على الجنسية، الجيرة آنذاك كانت أقوى من التعصب الديني؛ فـهذا جارى، سواء كان مسلمًا أو مسيحيًا أو يهوديًا، لا فرق».

وتابعت: «لقد كان اختيار الزمن موفقًا جدًا، لأنه لو تحدثنا عن هذه الفكرة فى زمننا الحالى، لوجدنا أن المجتمع بات يعانى من التعصب لأتفه الأسباب، واختلاف الرأى أصبح سببًا فى اعتبار الآخر من الناس الأخرى، أما (بهاء)، فقد ألغى هذه الفكرة تمامًا، وأراد أن يركز على: (لماذا تكون إنسانًا جيدًا؟)».

وقالت «هذه الفكرة، بلا شك، تليق به، وبالنسبة لى، كنت أعلم منذ البداية، منذ أن عرفت أن الرواية لـ(بهاء)، أننى سأعيش داخل روح جميلة، كما تعلم، كنت قد توقفت عن الكتابة لفترة، واشتغلت فى تحرير كثير من الأعمال، ولدى القدرة على تقمّص الكاتب، وأن أفهم ما الذى يريد أن يقوله قلمه، وكيف يريد أن يرسم شخصياته».

وعن الأجزاء التى لم تكتب من الرواية، قالت إيمان الدواخلى: «فى الأجزاء التى لم تُكتب، أو التى كُتبت على شكل مختصرات للفصول (سطرين أو ثلاثة فقط)، كنت أستحضر (بهاء) أمامى، وأتقمص فكره، حتى تحافظ الرواية على روحه، ولم يكن هذا تحريرًا بالمعنى التقليدى، لأن الإضافة كانت كبيرة، بالتالى فهى تُنسب إلى شراكة وليس فقط إلى تحرير».

وأكملت: «نحن الآن نعيش فى زمن تملؤه العصبية، بالتالى قد تكون هذه الرواية بمثابة واحة ترحب بالقلوب التى تتمنى السلام، لكن فى ذات الوقت، قد تكون عرضة للنقد القاسى من المتعصبين، الذين أصبحوا كثيرين، وبما أننى اتفقت مع هذا الفكر واستمررت فيه، فأنا أتحمل مسئولية ما فيه، حتى وإن كان (بهاء) قد رحل، لكنه حاضر بقلمه وروحه».

وقالت «فى زمن آخر، ربما كانت هذه الفكرة ستُعتبر سلمية وجميلة، لكن فى زمننا هذا، أصبحت صدامية مع الفكر السائد، لذا كان من المهم أن يُكتب اسمى إلى جانب اسمه، لأن ما فى الكتاب من أفكار يستوجب تحمّل المسئولية المشتركة».

وأكملت: «بالنسبة لأسلوب الرواية، فقد حاولت أن أحاكى (بهاء) فى انسيابية الأسلوب وسلاسته، هو كان دائمًا يُفضل أن تصل رسالته بسهولة إلى القارئ، دون تعقيدات لغوية أو حيل سردية معقدة، كان يشعر أنه أشبه بالأستاذ الذى يريد أن يُفهم الفكرة لمن لا يفهمها، فيبسطها ويجعلها محببة، وهذا ما حاولتُ الحفاظ عليه؛ أن تصل الرسالة، لا أن يُبهر القارئ بالفنيات اللغوية فقط، لأننا نعلم أن الفنيات فى أى عمل أدبى مثل (علبة المكياج)، الجمال لا يأتى باستخدام كل محتويات العلبة، بل باستخدام ما يناسب فقط، وإن استخدمتَ كل شىء، خرج العمل مشوهًا».

أرملته: قضى أيامه الأخيرة منغمسًا تمامًا فى كتابتها

فى البداية، وصفت الدكتورة أمانى الدسوقى، زوجها الراحل بأنه كان إنسانًا بمعنى الكلمة، معتبرة أن أى حديث عنه لن يوفيه حقه.

قالت: «كان إنسانًا جميلًا بحق، يتمتع بقلب كبير وسخى، حتى عندما يُكرم آخرون أو يفوزون بجوائز، كان يفرح لهم كأن الجائزة له، كنتُ أتعجب دائمًا من هذه الروح النبيلة»، متابعة: «لم يكن مجرد كاتب مبدع، بل كان إنسانًا استثنائيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ترك فراغًا كبيرًا فى حياتنا جميعًا».

وأضافت أن تكريم الدكتور بهاء الآن بطباعة عمله الأخير جاء بفضل جهود الأستاذ محمود عبدالنبى، حيث يحتاج كل كاتب إلى هذا النوع من التقدير ليشعر بأنه ما زال حيًا بيننا، يُقرأ ويُكرّم.

وتابعت حديثها: «فوز الراحل بجائزة الدولة للتفوق عام ٢٠٢١ بعد وفاته كان شيئًا قيمًا، ولو كان «بهاء» بيننا لفرح بها فرحًا عظيمًا، لأنها تمثل اعترافًا بقيمته الأدبية، وهو الذى كان يستحق أكثر من ذلك بكثير. فكان إنسانًا موهوبًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإنسانًا جميلًا فى تعامله، رحمه الله وغفر له».

بهاء عبدالمجيد

وتابعت: «عندما اكتشفنا أن الرواية غير مكتملة، كانت استجابة الدكتورة إيمان ملهمة، تلقفت الفكرة بحماسة قائلة: «كيف يمكن أن نترك عمل الدكتور بهاء دون إكمال؟ سأبذل قصارى جهدى. والحمد لله، تحقق الحلم».

وأكملت حديثها بفخر: «الأجمل فى هذه القصة هو عودة اسم الدكتور بهاء إلى الواجهة الأدبية، ها هو الجميع اليوم يرى اسمه ويقرأ له من جديد، لدى ثقة كبيرة أن هذا العمل سينال إعجاب القراء، وكأن روح الدكتور ما زالت بيننا، ذكره باقٍ، وهذا بحد ذاته كان سيسعده كثيرًا».

وواصلت: «كان الدكتور بهاء شديد الاهتمام بهذا العمل فى أيامه الأخيرة، بذل جهودًا كبيرة لإنجازه، لكن القدر لم يمهله، الحقيقة أن هذا الإنجاز ما كان ليرى النور لولا التفانى الذى أظهرته الدكتورة إيمان والأستاذ محمود، إنه عمل يستحق القراءة، وسيظل شاهدًا على عظمة كاتبه».

وتابعت: «فى النهاية اتفقنا على أن تكون (منشورات إبييدى) هى المسئولة عن هذه المهمة، لأن مدير الدار محمود عبدالنبى كان الأقرب إلى الدكتور بهاء، وكان محل ثقته، وهذا حمسنى كثيرًا لأننى أعلم كم كان الدكتور بهاء يثق فى الأستاذ محمود».

وكشفت تفاصيل جديدة حول رحلة استعادة المخطوطة الأخيرة لزوجها، قائلة: «ابنى ياسين هو من أخذ اللابتوب والتقى الأستاذ محمود عبدالنبى. وبفضل تعاونهما المشترك، تمكنا أخيرًا من الوصول إلى العمل المفقود».

وأضافت: «الأستاذ محمود كان لديه علم مسبق بالمشروع، حيث كان الدكتور بهاء قد حدثه عنه أثناء كتابته، وقال لى (أنا أعرف أن هناك عملًا استثنائيًا كان يعمل عليه الدكتور). لكن رغم بحثنا المضنى، لم نتمكن من العثور عليه بمفردنا، كانت لحظة سعيدة حقًا عندما نجحوا فى استعادته».

وتذكرت الفترة الأخيرة من حياة زوجها قائلة: «فى أيامه الأخيرة، كان الدكتور بهاء منغمسًا تمامًا فى هذا العمل، وكان يقضى معظم وقته إما أمام (اللابتوب) يكتب، أو يدون أفكاره على الورق، لقد رأى فى هذا المشروع عملًا مهمًا، وكان يعطيه كل وقته وطاقته».

وأضافت: «رغم أن القدر لم يمهله ليرى حلمه يتحقق، إلا أننا اليوم نحقق له هذه الأمنية، إصدار هذا العمل وإعادة نشر كتبه هو أفضل تكريم لذكراه، وتعبير عن حبنا وتقديرنا لتراثه الأدبى الثمين»..

وعن خططها لإعادة نشر أعمال زوجها، أوضحت أن هناك عملًا مترجمًا لم ير النور بعد، وما زال محمود عبدالنبى يبحث فى تفاصيله، مضيفة: «أما أعماله السابقة، فأنا أعمل جاهدة على إعادة طباعتها، حلمى أن تكون جميع كتبه متاحة فى المكتبات، بحيث يتمكن أى قارئ من الوصول إليها، هذه أمنية عائلتنا جميعًا، ونأمل أن تتحقق بالتعاون مع دار النشر».

الناشر: كتب ثلثيها قبل وفاته وتختلف عن معظم أعماله

كشف محمود عبدالنبى، مدير دار «إبييدى» للنشر والتوزيع، تفاصيل جديدة حول رحلة استعادة المخطوطة الأخيرة للروائى الراحل، مؤكدًا أن علاقته بالراحل لم تكن مجرد علاقة عمل بين ناشر ومؤلف، بل كانت صداقة قوية ومحبة كبيرة.

وقال «عبدالنبى»: «الدكتور بهاء كان شخصية فريدة، تشعر وأنت تتحدث إليه أنك أمام إنسان مختلف عن الآخرين، كنا على تواصل دائم بخصوص أعماله الروائية والمترجمة التى كان يفكر فى إنجازها، وقد بدأ قبل رحيله فى كتابة رواية جديدة تختلف عن معظم أعماله، لكنها كانت تحمل أفكاره المميزة وخياله الأدبى الواسع، لكن مع رحيله المفاجئ، لم أكن أعرف إن كان قد أكملها أم لا».

وأضاف: «ترددت كثيرًا قبل أن أتواصل مع زوجته الدكتورة أمانى الدسوقى، لأخبرها بوجود عمل جديد كان الدكتور بهاء يعمل عليه، وطلبت منها البحث فى أرشيفه عن أى أثر له، وبفضل تعاونها وتشجيعها، تمكنا من العثور على الرواية فى (اللابتوب) الخاص به، وكانت قد اكتملت بنحو ثلثيها تقريبًا. كما عثرنا على عمل مترجم كان قد بدأه أيضًا».

وتابع: «طلبت من الدكتورة أمانى أن تسمح لى بإكمال الإجراءات اللازمة لنشر هذا العمل، لكنى وجدت نفسى فى حيرة من أمرى: هل أرسله إلى فريق التحرير فى الدار؟ أم أتوجه إلى الكاتبة الدكتورة مى التلمسانى؟ لكننى فى النهاية قررت التواصل مع الدكتورة إيمان الدواخلى، التى بمجرد أن اطّلعت على القصة، وافقت دون تردد على استكمال الرواية».

وأكد أن الدار وأسرة الراحل أصرّوا على أن يُذكر اسم الدكتورة إيمان بجانب اسم الدكتور بهاء عبدالمجيد، تقديرًا لمجهودها الكبير وإخلاصها فى إنجاز هذا العمل.