الاستعمار الرقمى.. الجانب المظلم لإمبراطورية الذكاء الاصطناعى

- كتاب جديد يرصد أوجه تشابه صعود الذكاء الاصطناعى مع الإمبراطوريات الاستعمارية
- تطوير الذكاء الاصطناعى يُسبّب أضرارًا اجتماعية وبيئية كبيرة
فى وقت يتسارع فيه تطوّر الذكاء الاصطناعى بوتيرة تفوق التوقعات، وبينما تواصل شركات التكنولوجيا الكبرى اندفاعها نحو آفاقٍ غير مسبوقة من التطوير، يأتى كتاب «إمبراطورية الذكاء الاصطناعى» للصحفية كارن هاو، والذى يعد أحد الكتب الأكثر مبيعًا فى نيويورك تايمز، ليكشف النقاب عن كواليس صناعة تُعيد تشكيل العالم.
تتبع هاو، التى عملت فى وقت سابق مراسلة فى «وول ستريت جورنال» ومحررة تقنية فى «MIT Technology Review»، التحوّلات التى قادتها شركة «أوبن أيه آى»، تحت قيادة سام ألتمان، الاسم الذى بات مرادفًا لتقنية «شات جى بى تى»، وغيره من تطبيقات الذكاء الاصطناعى التوليدى، لتعيد طرح أسئلة أساسية حول السلطة والاستغلال وحدود الأخلاق فى عصر تُصاغ فيه القرارات الكبرى عبر خوارزميات غير مرئية.
من منظمة غير ربحية وُلدت بشعار «خدمة الإنسانية»، إلى كيان ربحى يلهث وراء مليارات الدولارات، ترسم هاو صورة مقلقة للتطورات فى مضمار الذكاء الاصطناعى، مستندة إلى تحقيقات استقصائية ولقاءات مع موظفين فى شركة «أوبن أيه آى».

إمبراطورية الذكاء الاصطناعى
فى حوارها مع «رويترز» تحدثت مؤلفة الكتاب عن بداية اهتمامها بموضوع الذكاء الاصطناعى إلى أن ظهر كتابها الناقد لما يجرى فى كواليس وادى السيلكون. قالت هاو إنها درست الهندسة الميكانيكية فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، لأنها أرادت العمل فى صناعة التكنولوجيا، إلا أنها أدركت بمجرد ذهابها إلى وادى السيليكون أنها لا تريد البقاء فى هذا المكان، لا سيما وأنه قائم على أنظمة تجعل من الصعب تطوير تكنولوجيا لخدمة الصالح العام، أو بناء تكنولوجيا تعزز الاستدامة وتخلق مستقبلًا أكثر عدلًا ومساواة، وهو ما جعلها تتجه إلى الصحافة لتغطية أخبار التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى.
وتابعت: عندما بدأتُ فى تغطية الذكاء الاصطناعى، أدركت أنه يمثل صورة مصغّرة لكل ما كنت أريد استكشافه؛ كيف تؤثر التكنولوجيا على المجتمع، وكيف يتفاعل الناس معها. كنت محظوظة بفرصة متابعة الذكاء الاصطناعى وأيضًا شركة «أوبن أيه آى» قبل هذا التطور الكبير مع «شات جى بى تى». أردت أن أكشف السياق الذى ولدت منه هذه التكنولوجيا، فلكى نفهم مسارها المستقبلى وتأثيرها علينا، لا بد أن نُدرك الخيارات البشرية التى شكّلت «شات جى بى تى» والذكاء الاصطناعى التوليدى اليوم. الأمر يدعو للقلق، ولدينا جميعًا دور نلعبه فى بدء تشكيل مستقبل هذه التكنولوجيا.

التوسع بأى ثمن
ترصد كارن هاو التحوّل الذى شهدته شركة «أوبن أيه آى»، من مؤسسة غير ربحية ترفع شعار «خدمة الإنسانية»، إلى كيان ربحى تدفعه اعتبارات السوق والمنافسة، وترى فى هذا التحوّل تجسيدًا حديثًا لأنماط بناء الإمبراطوريات القديمة، إذ يُستخدم الخطاب الأخلاقى كغطاء للمصلحة العامة، بينما تمضى السلطة فى طريقها إلى التوسّع، معتمدة على بنية من البيانات والموارد الرقمية والهيمنة التقنية.
وتُجادل هاو بأن قادة الشركة شيّدوا تصوّرًا نخبويًا يتيح لهم تبرير اتساع نفوذهم فى توجيه مستقبل الذكاء الاصطناعى عالميًا. فهم لا يرون أنفسهم مطوّرين لتقنية، بل حراسًا لمستقبل البشرية، وهو تصور يمنحهم شرعية زائفة لتراكم سلطة غير مسبوقة فى مجالى البحث والتطبيق، تحت ستار شعار «إنقاذ العالم».
فى حوار لها مع موقع «democracy now» بيّنت هاو أنها أرادت من خلال كتابها نقد مسار تطوّر الذكاء الاصطناعى، مسار وادى السيليكون الذى يقوم على مبدأ «التوسّع بأى ثمن»، فنماذج الذكاء الاصطناعى الحديثة تُدرّب باستخدام البيانات، وهى بحاجة إلى أجهزة حاسوب من أجل هذه العملية. لكن ما فعله وادى السيليكون، وخصوصًا «أوبن أيه آى» فى السنوات الأخيرة، هو تضخيم حجم البيانات المستخدمة والحواسيب المطلوبة للتدريب بشكل هائل.
واستطردت: نحن نتحدث الآن عن إدخال كامل المحتوى الإنجليزى على الإنترنت فى هذه النماذج؛ من كتب ومقالات علمية، إلى كمّ هائل من الملكيات الفكرية التى أُنتجت على مدى سنوات. إلى جانب ذلك، هناك حواسيب فائقة الضخامة تحتوى على عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من الرقائق، وتبلغ مساحتها ما يعادل عشرات أو حتى مئات ملاعب كرة القدم، وتستهلك تقريبًا ما يعادل استهلاك مدن بأكملها من الطاقة. هذا النوع من التطوير فى مجال الذكاء الاصطناعى استثنائى بالفعل، لكنه يُسبّب فى الوقت ذاته أضرارًا اجتماعية وبيئية وعمالية كبيرة.

استعمار رقمى جديد
بحسب المراجعة التى نشرها موقع Design Whine، ترسم كارن هاو فى كتابها «إمبراطورية الذكاء الاصطناعى» صورة معقّدة لمسار تتقاطع فيه الطموحات التكنولوجية الجريئة مع تنازلات أخلاقية واجتماعية وبيئية، كاشفة عن أوجه التشابه اللافتة بين صعود الذكاء الاصطناعى وبين الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية. فكلا المشروعين، كما لفتت هاو، يستند إلى خطاب يُعلى من «الغايات النبيلة» ليُخفى وراءه تمركزًا متزايدًا للسلطة والنفوذ.
فشعار «أوبن أيه آى» المعلن عن «خدمة البشرية جمعاء»، يُذكّر بخطاب «مهمة التمدين» الذى استخدمته القوى الاستعمارية لتبرير التوسّع والغزو. لكن هذا الخطاب يُخفى علاقة استغلالية ممنهجة مع المجتمعات حول العالم، إذ تعتمد الشركة على البيانات الشخصية التى يُنتجها المستخدمون من مختلف البلدان، وتستعين بـاليد العاملة زهيدة الأجر فى دول الجنوب العالمى لتدريب النماذج ومراقبة المحتوى، فيما تتركز عوائد هذه العملية وثمراتها بالكامل تقريبًا فى وادى السيليكون. وتُطلق هاو على هذا النمط اسم «الاستعمار الرقمى الجديد»؛ استعمار لا يعتمد على الغزو بالسلاح، بل بالخوارزميات والأكواد، ويعتمد على نهب غير محسوس للبيانات، والموارد، والكرامة الإنسانية.
تُقارن هاو بين سلوكيات صناعة الذكاء الاصطناعى وممارسات القوى الاستعمارية فى الماضى، فتشير إلى أن إمبراطوريات الذكاء الاصطناعى وإن كانت لا تمارس العنف الصريح والوحشية التى ميّزت التاريخ الاستعمارى، فإنها تستولى على موارد ثمينة وتستخرجها لتعزيز إمكانات الذكاء الاصطناعى، ومن هذه الموارد المنهوبة؛ أعمال الفنانين والكتّاب، وبيانات لا تُحصى لأشخاص ينشرون تجاربهم وملاحظاتهم عبر الإنترنت، والأراضى والطاقة والمياه اللازمة لاستضافة وتشغيل مراكز البيانات الضخمة وأجهزة الحوسبة الخارقة.

آثار سلبية عميقة
يُسلّط الكتاب الضوء على الآثار السلبية العميقة التى ترافق المسار الحالى لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعى، وفى حوارها مع «رويترز»، أشارت كارن هاو إلى أن كثيرين لا يُدركون حقيقة أن الذكاء الاصطناعى ليس «سحرًا»، بل يقوم على عمل بشرى كثيف لإنتاج وتطوير هذه الأنظمة، فشركات الذكاء الاصطناعى غالبًا ما تلجأ إلى دول الجنوب العالمى، حيث تتعاقد مع عمّال بأجور متدنية للقيام بمهام بالغة الأهمية، مثل تصنيف البيانات المستخدمة فى تدريب النماذج، أو مراقبة المحتوى الضار، أو التفاعل المباشر مع النماذج من خلال المحادثة وتقييم الردود، مما يساعد الخوارزميات تدريجيًا على تقديم إجابات تبدو «أكثر فائدة».
وروت هاو تجربتها الشخصية قائلة: «ذهبتُ إلى كينيا للقاء عمّال تعاقدت معهم شركة «أوبن أيه آى» لتصفية المحتوى لنماذجها. وقد كشف لى هؤلاء العمّال عن معاناة نفسية شديدة خلّفتها طبيعة العمل، فقد اضطروا إلى التعامل يوميًا مع أسوأ محتوى على الإنترنت، بما فى ذلك نصوص تحضّ على الكراهية والعنف والاعتداءات، وكثير منهم أصيبوا لاحقًا باضطراب ما بعد الصدمة، واستمرت آثار هذه التجربة لسنوات بعد انتهاء العمل. لكن الضرر لم يكن فرديًا، بل امتد ليُصيب النسيج المجتمعى ذاته، إذ أثّرت تلك المعاناة فى أسرهم ومَن يعتمدون عليهم، ما يكشف عن تكلفة خفية وثقيلة يدفعها آخرون فى مقابل كل «تقدّم تقنى» نحتفى به.
وفيما يخص الآثار البيئية السيئة للذكاء الاصطناعى، قالت هاو فى حوارها إن مراكز البيانات وأجهزة الحوسبة الفائقة قد وصلت إلى أحجام بات من الصعب تخيّلها بالنسبة للشخص العادى، فهناك مراكز بيانات يُجرى بناؤها بقدرات تتراوح بين ١٠٠٠ إلى ٢٠٠٠ ميجاوات، أى ما يعادل تقريبًا مرّة ونصف إلى مرّتين ونصف من إجمالى استهلاك مدينة سان فرانسيسكو للطاقة. بل إن شركة «أوبن أيه أى» نفسها وضعت خططًا لبناء حواسيب خارقة بقدرة ٥٠٠٠ ميجاوات، وهو ما يعادل تقريبًا الاستهلاك المتوسط لمدينة نيويورك بأكملها.
واستنادًا إلى وتيرة التوسع الحالية فى البنية التحتية الحوسبية، فإن مقدار الطاقة الذى سنحتاج إلى إضافته إلى الشبكة الكهربائية العالمية، بحلول نهاية هذا العقد، سيكون بمثابة إضافة ما يعادل استهلاك ولايتين إلى ست ولايات بحجم كاليفورنيا إلى الشبكة. وثمّة أيضًا مسألة المياه؛ إذ تُستخدم المياه العذبة فى كثير من الأحيان لتبريد هذه المراكز، وهو ما يشكّل ضغطًا إضافيًا على الموارد الطبيعية.

مشكلات الطاقة
فى حوارها مع «democracy now» تحدثت هاو على نحو أكثر تفصيلًا عن أثر وتيرة التوسع الحالية فى البنية التحتية للذكاء الاصطناعى على الطاقة والمياه، بقولها: فيما يخص الطاقة، نشرت شركة ماكنزى مؤخرًا تقريرًا قالت فيه إنه، وبناءً على وتيرة التوسع الحالية فى البنية التحتية للذكاء الاصطناعى، سنحتاج خلال السنوات الخمس المقبلة إلى إضافة طاقة إلى الشبكة العالمية تعادل ما تستهلكه ولاية كاليفورنيا من الطاقة سنويًا، بمقدار يتراوح بين ضعفين وستة أضعاف. وهذه الطاقة ستأتى فى الغالب من الوقود الأحفورى. نحن نشهد حاليًا تقارير تفيد بتمديد عمر محطات الفحم التى كان من المفترض أن تُغلق، لكن الآن لا يمكن تحقيق ذلك بسبب الحاجة لدعم مراكز البيانات. ونرى أيضًا توربينات غاز الميثان تُبنى بدون تراخيص، خصيصًا لخدمة هذه المراكز.
أما من ناحية المياه العذبة، فهذه المراكز تحتاج إلى التبريد باستخدام مياه عذبة فقط. لا يمكن استخدام أى نوع آخر من المياه، لأن ذلك قد يؤدى إلى تآكل الأجهزة أو نمو بكتيرى يضر بالبنية التحتية. وفى معظم الأحيان، يتم الاعتماد على مياه الشرب العامة، لأن هذه هى البنية الأساسية المتوافرة لتوفير المياه النظيفة للمنازل والشركات.
وتابعت: مؤخرًا، نشرت وكالة بلومبرج تحليلًا أظهر أن ثلثى مراكز البيانات الجديدة حول العالم تُبنى فى مناطق تعانى من ندرة المياه، أى فى مجتمعات لا تمتلك وصولًا كافيًا من مياه الشرب. لذلك، المشكلة لا تكمُن فقط فى كمية المياه المستخدمة، بل أيضًا فى أماكن وجود هذه المراكز وكيفية توزُّع الموارد حول العالم.

الجانب العسكرى من الذكاء الاصطناعى
وردًا على سؤال democracy now عن الجانب العسكرى من الذكاء الاصطناعى فى ظل حيث اتجاه شركات وادى السيليكون شيئًا فشيئًا إلى هذا المجال، قالت هاو إن من الأسباب الرئيسية التى تدفع شركات مثل «أوبن أيه آى» وغيرها إلى الاتجاه نحو قطاع الدفاع هو أنها أنفقت مئات المليارات على تطوير هذه التقنيات، وتدريب النماذج، وهذه الشركات تحتاج إلى تعويض هذه التكاليف. وفى ظل وجود عدد قليل فقط من القطاعات التى تمتلك القدرة المالية على الدفع بهذا الحجم، يأتى هذا الاقتراب المتزايد من الصناعة العسكرية.
وتابعت: نرى أيضًا أن وادى السيليكون يستخدم الحكومة الأمريكية باعتبارها جزءًا من طموحاته التوسعية، ويمكن أيضًا القول إن الحكومة الأمريكية تستخدم وادى السيليكون بالمثل، فى طموحاتها الإمبريالية. لكن الأمر المقلق هو أن هذه التقنيات لم تُصمم فى الأساس لتُستخدم فى السياقات العسكرية الحساسة. لذلك، فإن الاندفاع الكبير من هذه الشركات للحصول على عقود دفاعية ودمج تقنياتها فى البنية التحتية العسكرية بشكل متسارع هو أمر يثير القلق.
فى حديثها مع وكالة «رويترز»، عبّرت كارن هاو عن تصاعد قلقها من المسار الذى تسلكه صناعة الذكاء الاصطناعى، لا سيما بعد العمل على تأليف كتابها «إمبراطورية الذكاء الاصطناعى». وردًا على سؤال حول ما إذا كان هذا العمل قد غيّر منظورها للتقنية، قالت هاو: «لقد زاد هذا الكتاب من قلقى، فقد أدركتُ إلى أىّ مدى باتت هذه الشركات تتحكّم فى كل شىء تقريبًا. فى السابق، كنت قلقة من استغلال العمالة، ومن الأثر البيئى، وتداعيات الذكاء الاصطناعى على سوق العمل. لكن خلال إعداد هذا الكتاب، تكشّف لى أن هناك قلقًا أشمل، يتمثّل فى عودة منطق الإمبراطوريات، الذى يتعارض مع فكرة الديمقراطية. فحين يعيش الإنسان فى عالم لا يمتلك فيه بياناته، ولا أرضه، ولا موارده من طاقة ومياه، فإنه يفقد شعوره بالقدرة على تحديد مصيره بنفسه، وهذا هو الخطر الحقيقى الذى يلوح فى الأفق.