الفلسطينى محمود شقير: المقاومة وسيلة لخدمة الحياة وليست هدفًا

- حين تغرق الرواية فى أحداث التاريخ تخسر هويتها الإبداعية
- روايتى الأولى كانت بيانًا سياسيًا فخبأتها خمسين عامًا ثم نشرتها مؤخرًا بعد حذف ثلثها
- لا أستطيع الادّعاء بأننى عبّرت عن فداحة المأساة الفلسطينية
مسيرة طويلة من الإبداع خاضها الكاتب الفلسطينى محمود شقير، تنقّل خلالها بين القصة القصيرة والرواية والسيرة وأدب الفتيان، كما كتب للمسرح والتليفزيون، ليصير واحدًا من أبرز وجوه الأدب الفلسطينى المعاصر، ممن عبّروا عبر أعمالهم المتعددة، وعلى امتداد عقود، عن تحولات المأساة الفلسطينية.
تربو مؤلفات شقير على خمسين عملًا، تنوّعت فى أجناسها وأزمنتها. ومن أحدثها السردية القصصية «حفيدة من هناك»، والكتاب النقدى «المشهد الروائى الفلسطينى»، ورواية «منزل الذكريات»، و«خريف آخر».
حصل الروائى الفلسطينى على عدة جوائز أدبية، من أبرزها جائزة محمود درويش للحرية والإبداع، وجائزة القدس للثقافة والإبداع، كما وصلت روايته «مديح لنساء العائلة» إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» عام 2016، ونال جائزة فلسطين العالمية فى الآداب.
فى هذا الحوار نقترب من العوالم السردية لمحمود شقير، ونسأله عن الأدب الفلسطينى وخصوصيته، وعما يمكن أن يقوله الكاتب وسط هذا الخراب المستمر، كما نناقش معه البُعد السيرى فى كتاباته، وتجربته مع أدب السيرة الذاتية، وأحدث أعماله الروائية.

■ فى كتابك الأحدث «حفيدة من هناك» تظهر غزة من خلال عيون الجد وحفيدته الخيالية.. لِمَ اخترت الكتابة عن الأوقات العصيبة من هذا المنظور؟
- الحفيدة ليست خيالية، بل هى إنسانة من لحم ودم، وهى طالبة جامعية كانت ستتخرج بعد فصل واحد فى كلية الآداب، قسم اللغة الانجليزية، لولا الحرب التى مضى عليها قرابة عامين. كانت تعيش فى بيت أهلها فى مدينة رفح، ثم اضطرّت هى وأهلها إلى مغادرة البيت للعيش فى بيت للأقارب فى مدينة خان يونس، ثم اضطر الأهل والأقارب إلى النزوح من البيت للعيش فى خيام فى مواصى خان يونس.
فى هذا الكتاب وصف عبر السرد القصصى الشاعرى المكثف لغياب الحفيدة، واسترجاع لبعض صفاتها وهواجسها ومخاوفها من الحرب، على نحو فيه إضاءة على وحشيّة هذه الحرب، وتنكيلها بالناس الأبرياء وقتلهم.
■ ما الذى أتاحته لك خلفيتك البدوية من أدوات أو زوايا مختلفة فى تمثيل الهوية الفلسطينية مقارنة بسرديات المدينة أو المخيم؟
- لا يوجد أى تضادّ بين سرديات البداوة وسرديات المدينة والمخيم فى تمثيل الهوية الفلسطينية، بل هناك تكامل وإغناء. ذلك أن هذا القطاع الواسع من الشعب الفلسطينى، أقصد قطاع البدو والبداوة، ظلّ مهملًا من الروائيين الفلسطينيين والروائيات.
وحين شعرت بالحاجة إلى كتابة الرواية، كنت قد احتشدت بمعلومات كافية عن حياة كلٍّ من أبى وأمّى وجدّى وأخوالى وأقاربى وقريباتى فى البرّية، واعتماد العشيرة التى أنتمى إليها، وهى عشيرة الشقيرات، على تربية الماشية والعيش من خيراتها، ثم اضطرار العشيرة إلى مغادرة البرّية فى ثلاثينيات القرن العشرين من جرّاء سنوات القحط التى جعلت من المتعذّر على العشيرة البقاء هناك، والرحيل من البرّية إلى تخوم مدينة القدس، والسكن فى بيوت من حجر بعد بيوت الشَّعَر، والتحوّل من البداوة إلى أنماط معيشة أخرى بعد اشتغالهم فى الزراعة، وفى الوظائف الحكوميّة والعمل المأجور فى الفنادق والمطاعم والشركات المختلفة.
آنذاك، ولحفظ الذاكرة الفلسطينية من التبديد والنسيان، ولتعزيز الهويّة بتلك التجربة العريضة التى مثّلها بدو فلسطين، فقد آثرت أن أكتب عن تلك التجربة التى ظهر غناها فى الروايات التى كتبتها عن عشيرة العبد اللات البدوية، وهى ليست العشيرة التى أنتمى إليها، وإن كانت بعض سمات عشيرتى تتقاطع مع سمات العشيرة التى ظهرت فى الروايات.

■ روايتك «منزل الذكريات» تختلف عن أعمالك السابقة من حيث التناصّ مع روايات عالمية.. واعتمادها على الأحلام، واستحضار شخصيات من نصوصك القديمة.. فما الذى دفعك إلى هذا النوع من الكتابة فى هذا التوقيت؟ وما الذى أتاحه لك التناص من إمكانات فى هذا العمل؟
- ما دفعنى إلى كتابة هذه الرواية اجتيازى سنّ الثمانين من عمرى، وإعجابى بروايتىّ «كاواباتا» و«ماركيز»، ثم إن حضور شخصيّات من رواياتى السابقة يشير إلى أن «منزل الذكريات» تعدّ امتدادًا لثلاثيّة العائلة مع استقلال فى الوقت ذاته عن هذه الثلاثية الروائية.
أمّا عن التناصّ فى «منزل الذكريات» فهو أسلوب جرّبته من قبل فى كتابى القصصى «احتمالات طفيفة» الذى عدّه بعض النقّاد رواية تذكّر ببعض روايات الكاتب الإيطالى أليساندرو باريكو، حيث استحضرتُ فيه بعض أجواء دون كيخوته والجندى الطيّب شفيك وسعيد أبى النحس المتشائل، للإضاءة من خلال هذه الشخصيّات الروائية على رؤيتى الشخصية للمأساة الفلسطينية.
وفى التناصّ مع روايتىّ «كاواباتا» و«ماركيز» طوّرت أسلوب الاستحضار بأن جعلت بطلى هاتين الروايتين يدخلان إلى الحيز الذى عاش فيه محمّد الأصغر بطل «منزل الذكريات» بقصد إجراء تفاعل بين ثلاث ثقافات، وتقديم رؤية فلسطينية للحبّ ولمقاومة عسف الزمن فى زمن الشيخوخة، وأدّعى أننى نجحت فى ذلك، والدليل على ذلك تلك المقالات والدراسات التى حظيت بها الرواية وتجاوزت الثلاثين مقالة ودراسة.

■ قلت إنك كنت دومًا معنيًا بأن تكون كاتب قصة.. لكن التوق إلى الرواية لم يفارقك.. كيف ترى اليوم تحولك السلس إلى الرواية؟ وما الذى أفدت منه فى كتابتك للقصة؟
- ما زلت وفيًا للقصّة ولم أغادرها إلى الرواية كما فعل ويفعل بعض الروائيين الفلسطينيين والعرب. فمنذ ظهور رواية «فرس العائلة» عام ٢٠١٣ إلى ظهور رواية «منزل الذكريات» عام ٢٠٢٤ نُشرت لى ثلاثة كتب قصصية هى «سقوف الرغبة» عام ٢٠١٧، و«حليب الضحى» عام ٢٠٢١، و«نوافذ للبوح والحنين» عام ٢٠٢٢، وأخيرًا جاءت السردية القصصية «حفيدة من هناك» عام ٢٠٢٥.
وبسبب ما يقال إنه عزوف القرّاء عن القصّة لصالح الرواية، فقد لجأت فى كتبى القصصيّة إلى توفير سياقات روائية فى هذه الكتب، بحيث يمكن قراءة الكتاب كما لو أنه رواية مكوّنة من وحدات قصصيّة متّصلة فيما بينها، منفصلة فى الوقت ذاته ومكتفية بذاتها عن غيرها.

■ حين كتبت ثلاثيتك العائلية، بدأت بـ«فرس العائلة» ثم توسّعت فى «مديح لنساء العائلة» و«ظلال العائلة».. لماذا اخترت شكل الثلاثية تحديدًا لرواية هذه الحكاية.. وما التحديات السردية التى واجهتك فى الحفاظ على ترابط الأجزاء دون أن تكرّر نفسك أو تقيّد القارئ بجزء سابق؟
- أظن أن الزمن الواقعى هو الذى فرض علىّ شكل الثلاثية، علاوة على تنوّع تجارب الناس وطبيعة اهتماماتهم، وردود أفعالهم على الأحداث العاصفة التى ابتليت بها فلسطين، ووضعت البدو الفلسطينيين والقرويين وأبناء المدن فى قلب العاصفة.
لذلك، أدركت أثناء الانغماس فى الكتابة أنّ لكل رواية أفقًا خاصّا يتطلب أسلوبًا خاصًّا فى الكتابة، ما حفّزنى بشكل تلقائى على أن أجعل كلّ واحدة من الروايات مستقلّة عن غيرها، دون أن يمنع ذلك ظهور بعض الشخصيّات الروائية فى أكثر من جزء من أجزاء الثلاثية.
لذلك أيضًا، جعلت السرد بضمير الغائب ومن خلال الراوى العليم وكثرة الشخصيات فى «فرس العائلة»، وجعلت تعدد الأصوات ملازمًا للسرد فى الرواية الثانية «مديح لنساء العائلة»، كما جعلت مدينة القدس هى المكان المركزى الذى تتجلى فيه أحداث الرواية الثالثة «ظلال العائلة» مثلما جعلت السرد بضمير المتكلّم هو المتحكم فى مسار السرد.

■ تحمل أعمالك السردية بعضًا من الذاتية، فما الذى دفعك رغم ذلك إلى كتابة سيرة ذاتية صريحة فى كتب مثل «تلك الأمكنة» و«تلك الأزمنة»؟.. ما الذى لم تقله الرواية.. واحتجت أن تقوله بصوتك المباشر؟
- يذهب بعض النقاد إلى الجزم بأن رواياتى تحمل فى طيّاتها سيرتى وسيرة عائلتى، وبرغم ما أمارسه من نفى لذلك، فإن هذا الأمر يتكرّر لأسباب ربّما من بينها دقة رسم الشخصيات بحيث تبدو شديدة الدلالة علىّ وعلى عائلتى.
وقد سبق لى أن قلت إنّ جزءًا من سيرتى وسيرة عائلتى يظهر فى الروايات، لكنها ليست روايات سيرة، ذلك أنّنى أستخدم ما يمكن تسميته الإيهام بالسيرة، حيث تمتزج مشاهد من سيرتى وسيرة عائلتى بسيَر بعض الشخصيات الواردة فى رواياتى، من دون أن تنتسب كل تلك المشاهد لعائلتى.
أفعل ذلك لقناعتى بأن القارئ يتحمّس من باب الفضول لبوح الشخصيّات سواء أكان ذلك عبر استخدام ضمير الغائب وسيطرة الراوى العليم أثناء السرد أو عبر استخدام ضمير المتكلم، وهو الذى يجعل التحام السيرة الفعلية بالسيرة المتوهمة أمرًا يصعب تفكيكه أو الفصل بين أجزائه، وفى كلّ الأحوال فإنّ محصّلة ذلك كلّه تصبّ فى صالح العمل الروائى، ما دام قد استطاع أن يثير فضول المتلقّى إلى الحدّ المطلوب.

■ قلت إنك لا تكتب الرواية لتكون كتاب تاريخ.. بل لتقول رؤيتك من خلال التخييل. كيف تكتب عن أحداث تاريخية مثل النكبة والانتداب والاحتلال، دون أن تتحوّل الرواية إلى خطاب سياسى مباشر أو إلى وثيقة تسجيلية؟
- حين تغرق الرواية فى أحداث التاريخ فإنّها ستخسر هويّتها بوصفها عملًا إبداعيًّا، للخيال وللتخييل قسط وافر فيه وفى مكوّناته المتنوّعة. وحين أكتب عن أحداث تاريخية مثل النكبة وسواها فإنّنى لا أذهب مباشرة إلى النكبة وما جرى أثناءها من وقائع مرّة لكى أكرّر ما هو مدوّن فى بطون كتب التاريخ، بل أذهب إلى انعكاسات الأحداث المأساوية فى نفوس شخوص الرواية وتأثيرها على نفسيّاتهم وأمزجتهم وطرائق حياتهم.
وقد سبق لى ذات مرّة أن توّرطت فى تحويل الرواية إلى خطاب سياسى مباشر. حدث ذلك فى رواية أنجزتها عام ١٩٧٨ بعنوان مباشر هو «القمع» ثم استبدلت به عنوانًا آخر هو «قلنا ذلك لكلّ الطارئين»، ثم أقلعت عن نشرها بسبب ما فيها من قول سياسى مباشر، واحتفظت بها طوال تلك السنوات، إلى أن عدت إليها قبل أشهر وحذفت منها سبعة آلاف كلمة، أى مقدار الثلث، للتخفيف من المباشرة السياسية فيها، وحين وجدتها قد تحسّن مستواها بعد الحذف نشرتها قبل أسابيع بعنوان «خريف آخر»، وهى روايتى الأولى قولًا وفعلًا، وأظنّها الآن تحظى باهتمام القراء والنقاد كونها الرواية الأولى التى كتبت قبل خمسين سنة ولم تظهر إلا بعد كلّ تلك السنوات.

■ منذ بدأت فى الستينيات وحتى اليوم لم تنفصل أعمالك عن الهَم الفلسطينى.. إلى أى مدى يمكن اعتبار أعمالك سيرة جماعية للشعب الفلسطينى؟
- أظنّ أن المأساة الفلسطينية تنطوى على قدر كبير جدًّا من الألم والفقد والحرمان والقتل والتنكيل ومحاولات المحو والتبديد والظلم والتهجير والإبادة بحيث لا أستطيع الادعاء بأننى عبرت فى أعمالى الأدبية عن فداحة هذه المأساة. ربما اضطلعت كتاباتى بالتعبير عن جزء يسير من السيرة الجماعيّة للشعب الفلسطينى، بحيث تصبّ هذه الكتابات فى التيّار العريض الذى يمثّله الأدب الفلسطينى وما كتب عن فلسطين فى الأدب العربى. يكفى أن نتذكر ما يجرى فى قطاع غزّة الآن من حرب إبادة وحشية قاربت على العامين لندرك أنّه ما زال المطلوب من الأدباء والفنانين أكثر بكثير مما هو متحقّق حتى الآن، رغم أنّ بعض المتحقّق يرقى إلى مستويات مرموقة.
■ هل يمكن القول إن الظلم التاريخى الذى تعرضت له فلسطين جعل الرواية الفلسطينية محصورة فى زاوية المقاومة والسردية الجماعية؟ وهل تعتبر ذلك خصوصية مميزة للرواية الفلسطينية أم تكبيلًا لها على المستوى الفنى؟
- فى بعض مراحل التاريخ الفلسطينى المعاصر وفى فترات صعود المقاومة الفلسطينية سادت فى أوساط بعض الدوائر الثقافية الفلسطينية نزعة تكريس الأدب لخدمة المقاومة وللتعبير عن تجلّياتها المختلفة.
غيرَ أنّ تلك النزعة لم تعمّر طويلًا، ليس تخلّيًا عن المقاومة أو تنكّرًا لها، وإنما لأن الحياة أوسع مدى من المقاومة وأكثر تشابكًا وغنى، والمقاومة بحدّ ذاتها هى وسيلة لخدمة الحياة وليست هدفًا، والشعب الفلسطينى شعب مثل باقى الشعوب، من حقّه أن يعيش وأن يحب وأن يجرب كلّ مناحى الحياة برغم وجوده تحت الاحتلال، أى من حقّه ألا يكبّل حضوره ويحاصره لأنه يعيش تحت الاحتلال، وبالطبع فإنه لا يمكن أن يلغى مقاومته لوجود الاحتلال فوق أرضه لكى يعيش فى دعة وسموّ وكرامة وأمان، فالعيش الكريم لا يمكن تحقيقه فى ظلّ الاحتلال.
لذلك، وانطلاقًا من هذه الرؤية فثمّة فى الرواية الفلسطينية وفى أجناس الأدب الأخرى تعبير متنوّع ورصين وعميق عن حياة تليق بشعب يتطلّع نحو الحرية ونحو الحياة الكريمة اللائقة.
■ ما الذى تعكف على كتابته بالوقت الراهن.. وهل من أعمال تنتظر نشرها قريبًا؟
- أنتظر صدور الجزء الثالث من سيرتى الذاتية من دار نوفل، هاشيت أنطوان فى بيروت، وهو الموسوم بـ«هامش أخير».
ثم إننى الآن بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مخطوطى الموسوم بـ«فى بعض تجلّيات السيرة الفلسطينية» الذى يتضمن نصوصًا سيرية عن مدينة القدس، وقراءات نقدية لبعض كتب السيرة الفلسطينية، علاوة على نصوص سيريّة لبعض الأسماء التى تعرّفت إلى أصحابها إبّان ممارستى للنشاط السياسى، وأثناء وجودى فى المعتقلات الإسرائيلية، وكذلك تعرّفت إلى أصحابها أثناء نشاطى الثقافى الممتدّ فى المنفى القسرى وفى الوطن، ويضاف إلى كلّ ذلك موادّ أخرى لها علاقة بالسيرة.