مذكرات سيدة أوروبا القوية
أنا جورجيا.. كيف وصلت إلى هنا؟
- رئيسة وزراء إيطاليا تكشف أسرارها الشخصية والسياسية فى مذكراتها
- ميلونى: الشعور بغياب الأب أمر يصعب تفسيره ويترك جرحًا أعمق من جرح وفاته
- عاشت طفولة صعبة ونشأت دون أب فى منطقة شعبية.. وتعرضت للتنمر بسبب السمنة
«سمعت الكثير من الناس يتحدثون عنى وعن أفكارى، فلم أُدرك مدى اختلاف حياتى وشخصيتى عما يصور لنا. لذلك، قررت الانفتاح، لأظهر من أنا، وما أؤمن به، وكيف وصلت إلى هنا».
فى مذكراتها بعنوان: «أنا جورجيا: جذورى، مبادئى»، تتحدث رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلونى عن نفسها بعمق لأول مرة. تتحدث عن جذورها، وطفولتها، وعلاقتها بوالدتها آنا، وشقيقتها أريانا، وجديها ماريا وجيانى، وألم غياب والدها.
تشاركنا شغفها العميق بالسياسة، الذى قادها من حيّها جارباتيلا إلى الحكومة كوزيرة، ثم إلى قيادة منظمة «فراتيلى دى إيطاليا» والمحافظين الأوروبيين. كما تعرب عن فرحتها بكونها أمًا لطفلتها الصغيرة جينيفرا.
بالإضافة إلى ذلك، تناقش أحلامها والمستقبل الذى تتخيله لإيطاليا وأوروبا. بصراحتها ووضوحها المعهود، تتناول أيضًا مواضيع معقدة كالأمومة والهوية والإيمان.
المذكرات تقع فى 288 صفحة، وصدرت باللغة الإنجليزية بترجمة سيلفيا نوتينى، وتقديم الابن البكر للرئيس الأمريكى ترامب، فى منتصف يونيو الماضى، عن دار نشر «سكاى هورس» الأمريكية المستقلة.
وتأتى أهميتها فى أنها تكشف من خلال سرد شيق وعميق عن ماضى وحاضر ومستقبل قائدة سياسية لفتت انتباه الكثيرين، سواء فى إيطاليا أو خارجها، حيث ولدت ميلونى فى روما عام 1977. ونشطت سياسيًا منذ مراهقتها، وأصبحت صحفية محترفة فى التاسعة والعشرين من عمرها.
وفى 22 أكتوبر 2022، أدت اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، سيرجيو ماتاريلا، رئيسة للوزراء. وهى أول امرأة تتولى هذا المنصب فى تاريخ إيطاليا.

علاقة خاصة
عندما أصبحت جورجيا أول رئيسة وزراء لإيطاليا، وصفها العديد من المعلقين بـ«الوريثة اليمينية المتطرفة لموسولينى»، وزعموا أنها أرادت «تفكيك الديمقراطية».
بعد ثلاث سنوات، لا تزال إيطاليا دولة ديمقراطية، وحزب ميلونى، «فراتيلى دى إيطاليا»، يحظى بشعبية أكبر مما كان عليه عندما تولت السلطة- وهو إنجاز «نادر جدًا» لحزب حاكم فى الغرب اليوم.
فى مقدمة دونالد ترامب الابن للترجمة الإنجليزية لمذكرات ميلونى، يلقى الضوء مرتين على خلفيتها «العاملة». يخبرنا أنها كانت، قبل تولى رئاسة الوزراء الإيطالية بوقت طويل، «شابة من الطبقة العاملة، تحمل حبًا ورؤية عميقة لوطنها»؛ وتروى هذه السيرة الذاتية قصة صعودها من «حى عامل فى روما» إلى السلطة.
يشعر ترامب الابن بأنه فى وضعٍ مناسب ينسب إليه الفضل فى قرب جورجيا من المستضعفين، إذ أدرج فى مقدمته الموجزة التى لا تتجاوز ٢٦٨ كلمة، ذكرين لمؤهلاتها العمالية. يؤكد الكتاب بساطة ميلونى كمسيحية وأم وإيطالية.
تتمثل مناورة ميلونى فى تصوير نفسها ليس فقط كقائدة لإيطاليا، وهى دولة ذات أهمية هامشية فى الشئون العالمية، بل كحاملة عالمية لشعلة الشعبوية اليمينية، وبتعبير آخر، كجسر أوروبى لحركة «لنجعل أمريكا عظيمة مجددا» ولدونالد ترامب شخصيا.
ويكتب ترامب الابن: «تمامًا مثل والدى هنا فى أمريكا، أحدثت جورجيا ميلونى تغييرًا دائمًا فى السياسة الإيطالية». لقد «دافعت عن بلدها»، وواجهت «النخبة العالمية»، وأظهرت «الشجاعة والوضوح»، حيث لم يقدم الآخرون سوى الضعف والانجراف.

لقد لفتت انتباهه: «ميلونى قائدة رائعة»، هكذا عبّر الرئيس الأمريكى الخامس والأربعون والسابع والأربعون، على الغلاف الأمامى للكتاب.
وتتمتع جورجيا بعلاقة خاصة جدًا بالرئيس ترامب، فهى كانت رئيسة الحكومة الوحيدة فى الاتحاد الأوروبى، التى دعيت لحضور حفل تنصيب ترامب الثانى.
ويرى ترامب أن طاقتها وأسلوبها على عكس أى سياسى أوروبى آخر، وهو ما يجعلها الأذن الصاغية لرئيس أقوى دولة فى العالم، وتتاح لها فرص عديدة لمشاركة آرائها مع ترامب، كما حدث فى لقائهما الودى فى البيت الأبيض فى أبريل الماضى.

ظروف صعبة
ليس من النادر أن يتباهى السياسيون بالتحديات التى تغلبوا عليها، بل وحتى بوظائف آبائهم اليدوية. ولكن ما الذى يجعل ميلونى من الطبقة العاملة؟
تروى رئيسة الوزراء فى مذكراتها الشخصية التى صدرت بالإيطالية، قبل توليها منصبها كرئيسة للوزراء، كيف بدأت حياتها فى حى كاميلوتشيا «الثرى» بروما، وإن كانت فى عائلة مزقها رحيل والدها إلى جزر الكنارى.
تكتب عن الأثر النفسى لهذا الرحيل: «إن الشعور بغياب الأب، الذى يتلاشى فى الهواء، أمر يصعب تفسيره. قد يترك جرحًا أعمق من جرح وفاة الأب. على الأقل حينها يمكنك تخيله ينظر إليك من السماء. لكن عندما يختار الرحيل، تجد نفسك تتصارع مع شبح شخص غائب».

وتضيف أن كارثة أخرى حلت بها عندما دمرت هى وشقيقتها منزل العائلة عن طريق الخطأ فى حريق، ما أجبرهما على «الخروج إلى الشارع» - أو على الأقل، دفع والدتها إلى شراء شقة أخرى فى حى جارباتيلا الشعبى بالعاصمة.
وتتذكر الواقعة عندما قامت ببناء حصن مؤقت مع أختها الكبرى وإشعال شمعة بداخله، قبل أن يدمر الحريق منزلها. وتحكى: «عندما فتحنا الباب، كدنا نغرق فى النيران. التهمت النيران الشقة بأكملها. هربنا لا نملك سوى حقيبة واحدة معبأة على عجل بملابس النوم، وبنطالين، وقميص».
صممت جارباتيلا فى عشرينيات القرن الماضى، لتكون «مدينة حدائق» لسكان الطبقة العاملة فى روما، وخلال طفولة ميلونى، كان الكثير من المساكن الاجتماعية فى جارباتيلا، يباع لمالكين جدد.
وبعد رحيل والدها، نشأت جورجيا وشقيقتها أريانا، التى لا تزال صديقتها المقربة ومستشارتها الرئيسية، على يد والدتها وجديها لأمها فى ظروف صعبة.
مع ذلك، لعب والدها، جامع الضرائب ذى الميول الشيوعية، دورًا محوريًا فى صقل روحها النضالية. فبعد أن ترك العائلة وهى فى عمر عام واحد فقط. ولم يبد أى عاطفة تذكر عندما زارته.

تقول إنها «لم تشعر بشىء» عندما توفى عام ٢٠١٢، لكنها تعترف بأنه هو من غرس فيها إرادة صلبة: «ربما نابعة من حاجتى الدائمة لتحقيق معايير عالية، وخاصة فى بيئات ذكورية، من عدم شعورى يومًا بحب والدى».
تشير الزعيمة الإيطالية إلى أن «جرح» تخلى والدها عنها جعلها تصارع يوميًا «خوفًا من عدم الكفاءة» و«التقصير». وتضيف: «هذا الخوف يغذى اهتمامى بالتفاصيل، وعنادى، والتزامى، واستعدادى للتضحيات».
وتوضح: «منافسة الرجال، والسعى لنيل رضاهم، وصداقتهم، وتقدير زملائى، كل ذلك، نتيجة هذا الجرح».

مراهقة غربية
لماذا قد تنحاز مراهقة إلى اليمين المتطرف؟ تقرّ الكاتبة نفسها بأن أقرانها كانوا يفضّلون الحفلات والتسوق والموضة. وتقدّم نفسها كغريبة منذ صغرها. قد يربط طبيب نفسىّ ذلك بمشاكل وزنها؛ فخوفًا من المجاعة خلال الحرب، أفرطت جدّتها فى إطعامها، فبلغ وزنها فى سنّ التاسعة حوالى ٦٥ كيلوجرامًا، ولقّبت بـ«السمينة».
وألبستها والدتها ملابس رياضية وقصّت شعرها قصيرًا- وهو أمر ليس ميزة فى عالم الموضة الراقية، حيث علامات تجارية مثل فيرساتشى وبرادا.
فى هذه الأثناء، كتبت والدتها ١٤٠ رواية رومانسية غير منشورة لتغطية نفقاتها. فى المدرسة، أخبرها صبى أنه لن يتحدث إلى أى شخص «بدون أب». على الشاطئ، تعرضت لضربة كرة طائرة على وجهها بعد أن نعتها بـ«السمينة».
فى سن الخامسة عشرة، انضمت إلى الجناح الشبابى للحركة الاجتماعية الإيطالية، وهو حزب أسسه أتباع موسولينى. ورغم رفضه الفاشية رسميًا، فإن الحزب كان يدعو إلى قيم محافظة: «الله، الوطن، والعائلة». لم يكن يشبه تمامًا شباب هتلر، بل كان حركة هامشية، يستخدم أعضاؤها أسماء مستعارة، ويخاطرون بهجمات المتشددين المناهضين للفاشية.

تشبه أيام مراهقة ميلونى أيام المحافظين الشباب فى اتحادات الطلاب: انتقاد الأفكار اليسارية، وكتابة منشورات عن الكتب المدرسية المتحيزة، وتنظيم مهرجان أتريو، الذى جمع مفكرين يمينيين مثل ستيف بانون، كبير الاستراتيجيين السابق لترامب.
أصبحت رئيسة لحركة الشباب، الفرع الشبابى للجبهة الوطنية، وتصوّر المؤلفة جبهة الشباب ليس كحركة انتقامية يمينية متطرفة، بل كملجأ للأيتام والمنبوذين والمنفيين عاطفيًا. تكتب: «صوِرنا كأشرار (بل عنيفين)، لكن الواقع كان مختلفا تمامًا. لم يقص أحدًا».
لم تكن ترتاد النوادى الليلية إلا عندما كانت تعمل نادلة. حينها، اخترعت كوكتيل «دوردا»، وهو مزيج من خمسة أنواع من الكحول، وكما تقول، «كان فظيعًا».
بالنظر إلى المشهد السياسى السائد آنذاك، ربما لم يكن من السيئ الخروج عن التيار السائد. كانت إيطاليا فى التسعينيات مقيدة بطبقة من كبار السن: إما محتالين كاريزميين مثل برلسكونى، أو تكنوقراطًا مجهولى الهوية مثل رومان برودى وماريا دراجيا.
كانت خيبة الأمل من النظام عميقة، ما دفع حركة النجوم الخمس، وهى مجموعة شعبوية من الكوميديين، إلى الواجهة لفترة وجيزة. تكتب جورجيا: «حركة النجوم الخمس ليست سوى ثوريين مزيفين، تحولوا، بمجرد وصولهم إلى السلطة، إلى أعظم حراس الوضع الراهن».

أصغر وزيرة
فى عام ٢٠٠٦، وفى سن التاسعة والعشرين، انتخبت جورجيا لعضوية البرلمان؛ وبعد عامين، أصبحت وزيرة الشباب فى الحكومة، لتصبح أصغر وزيرة فى تاريخ الجمهورية الإيطالية.
وفى عام ٢٠١٢، انضمت إلى زملائها فى تأسيس حزب «فراتيلى دى إيطاليا» «إخوة إيطاليا»، الذى تقوده الآن. يحكم حزب «إخوة إيطاليا» الحكومة فى روما ضمن ائتلاف مع حزب الرابطة اليمينى الشعبوى، وحزب «فورزا إيطاليا» اليمينى الوسطى، الذى أسسه وترأسه الراحل سيلفيو برلسكونى.

كان برلسكونى هو من وصف ميلونى ذات مرة بأنها «متعجرفة، متسلطة، متغطرسة» و«مسيئة»- أى امرأة مغرورة لا مكان لها فى عالم السياسة الذكورى. كان هذا التهجم بمثابة هدية لميلونى، فقد كانت هذه المادة كافية لترسيخ صورتها كسياسية متطفلة وامرأة جريئة، تتمتع بقوة الشخصية لمواجهة كبار السن.
وأعلنت جورجيا، عن أنها امرأة، عزباء، أنجبت طفلة وتربيها بمفردها بعد انفصالها عن والد ابنتها مقدم البرامج التليفزيونية أندريا جيامبرونو. لم تكن وحيدة: فالأسرة التى تعولها امرأة بمفردها أصبحت سمة شائعة بشكل متزايد فى المجتمع الإيطالى.
فى خطابها عام ٢٠١٩ الذى أسهم فى وصولها إلى رئاسة الوزراء، فى ساحة سان جيوفانى بروما، أعقبت «أنا جورجيا» بعبارة «أنا امرأة، أنا أم».
وقدمت ميلونى نصيحة حياتية لابنتها جينيفرا: «لا تخافى من السباحة عكس التيار. سيكون الأمر صعبًا بالطبع، لكنه سيجعلك أيضًا أقوى وأكثر مرونة وعزيمة». وفى المذكرات تعرب عن ندمها، لأن التركيز الذى أولته لمسيرتها المهنية- إلى جانب تحديات الخصوبة- جعل ابنتها طفلة وحيدة.

الصعود السياسى
تنسب رئيسة الوزراء الإيطالية فى المذكرات، صعودها السياسى إلى العديد من المساعدين غير المتوقعين، بعضهم يكاد يكون لا يصدق. هناك والدتها، التى واجهت مشاكل مالية وزواجًا مفككًا، فخططت للإجهاض، لكنها غيرت رأيها خارج العيادة. وهناك أيضًا «المهنئون» و«التقدميون المتعصبون» الذين ترى أن انتقاداتهم «دليل يرشدها إلى الطريق الصحيح».
مع ذلك، فإن الأقل توقعًا هما منسّقا موسيقى حديثان من ميلانو - MEM & J. فى عام ٢٠١٩، أصدرا أغنية راقصة ساخرة ناجحة، استخدمت مقطعًا من إحدى خطابات ميلونى، التى انتقدت فيها سياسات الهوية.
قالت: «يريدون أن نطلق علينا لقب الوالد الأول، الوالد الثانى، مجتمع الميم، المواطن X، مع رموز». «لكننى جورجيا. أنا امرأة. أنا أم. أنا إيطالية. أنا مسيحية!». كان الهدف من أغنية «Io Sono Giorgia» السخرية من السياسية، التى يراها كثير من الإيطاليين «موسولينى بكعب عال».
لكن، كما كتبت جورجيا بسعادة، كان التأثير معاكسًا تمامًا: «كان الريمكس معديًا للغاية، وسهل الرقص عليه، وثوريًا إلى حد ما، لدرجة أنه لم يحقق غرضه. بل على العكس، حقق شعبية هائلة- فى غضون أسابيع، كان يعزف فى النوادى فى جميع أنحاء البلاد. لم أعد مجرد سياسية مملة. لقد أصبحت ظاهرة بوب غير متوقعة».
تمتلئ كتابات ميلونى بـ«الإشارات إلى ثقافة البوب والأدب» فتقول: تعلمت الإنجليزية بنفسى من خلال الاستماع إلى مايكل جاكسون وحفظ كلمات أغانيه؛ وهى من محبى «سيد الخواتم»، وكانت ترتدى زى شخصية من روايات جيه آر آر تولكين لتسلية الأطفال، ومفتونة بالسير روجر سكراتون، وإدموند بيرك.

ضد التسليع
تنعكس مأساة الكاتبة الشخصية من غياب أبيها، على توجهاتها الاجتماعية المحافظة تجاه قضايا تأجير الأرحام والإجهاض والزواج والموت الرحيم، ففى العام الماضى، سنّت إيطاليا قانونًا، يجرّم إنجاب الإيطاليين لأطفال عن طريق تأجير الأرحام فى دول أجنبية، حيث أصبح يعاقب عليه بالسجن لمدة تصل إلى عامين.
ورغم هتاف المتظاهرين «نحن عائلات، لسنا جرائم»، أثناء مناقشة مجلس الشيوخ لمشروع القانون. لكن جورجيا وصفت القانون بانتصار بأنه «قاعدة سليمة ضد تسليع جسد الأنثى والأطفال».
وتساءلت عن سبب «شرعية إجبار امرأة فقيرة، بدافع الضرورة المالية، على تأجير رحمها، وتحمل الحمل والولادة بالكامل، ثم بيع طفلها». وكان بابا الفاتيكان الراحل البابا فرنسيس، قد دعا إلى حظر عالمى لممارسة تأجير الأرحام المشينة.
تعارض رئيسة الوزراء الإيطالية أيضًا الإجهاض والزواج غير النظامى، وعندما واجهت ميلونى مطالبات بتغييرات فى قانون الأسرة، أكدت «ضرورة أن تحفّز الدولة أقوى أشكال الزواج لحماية الأطفال».
وعندما طلب منها دعم تخفيف شروط الزواج لاستيعاب الأزواج الذين يعيشون معًا، قالت إنها «لا تتوقع من الدولة أن تمنحنى نفس الامتيازات التى تمنحها لمن يوثّقون التزامهم كتابيًا».
وبالتالى فليس من المستغرب أن يكون الإجهاض قضية رئيسية بالنسبة لها، حيث عبرت جورجيا بقوة عن موقفها مناصرة الحياة، مع إدراكها استحالة إلغاء القانون الذى يجيز الإجهاض فى أول ٩٠ يومًا من الحمل.

لكنها فى الوقت ذاته، لم تخش ردّ الفعل الذى قد تواجهه أثناء الانتخابات، عندما دعت إلى اتخاذ إجراءات مثل تعزيز الدعم المالى للأمهات و«تعزيز مراكز داعمة للحياة».
وفى الحكومة، التزمت بذلك، من خلال تغيير القانون للسماح للجماعات المناصرة للحياة بتقديم الدعم الاستشارى فى عيادات الإجهاض.
وبعد أن هاجمتها والدة رجل مشلول سعى للموت الرحيم بغضب، أكدت أن التعديلات القانونية، لا يمكن أن تبنى على قصص شخصية، فالقرارات المتخذة نتيجة «مشاعر آنية»، قد تؤدى بسهولة إلى حالة يقتل فيها «قاصرون مكتئبون يسعون لإنهاء حياتهم».
ومرة تلو الأخرى، تهاجم ميلونى بشدة أسوأ جوانب النقاش الاجتماعى والسياسى المعاصر، فتقول: «كل رغبة تصبح حقًا، حتى لو كانت مجرد نزوة، بينما يتلاشى أى شعور بالمسئولية تقريبًا... بدلًا من ذلك، هنا فى إيطاليا، غالبًا ما تتحول الأنانية إلى برنامج سياسى».
«أريد أن أنجب طفلًا فى السبعين». «أريد أن أكون أمًا حتى لو كنت رجلًا». «أريد دخلًا أساسيًا يوفره برنامج الرعاية الاجتماعية الحكومى، حتى لو كنت قادرًا على العمل». «أريد أن أصبح مواطنًا إيطاليًا، حتى لو وصلت للتو إلى هذا البلد».
لكن أكثر ما يثير الاهتمام هو أفكارها حول انخفاض عدد سكان إيطاليا والهجرة، وكيف يمكن أن يكون هناك ترابط بينهما. تؤمن بضرورة العمل الجاد للسيطرة على الهجرة غير الشرعية، وترخيص الهجرة القانونية، بما يحقق المنفعة المتبادلة لمجتمعات المصدر والمقصد.
تقول: «من الحقائق المأساوية التى يتجاهلها المحسنون: أين ينتهى المطاف بهؤلاء الناس؟ كلما زاد عدد المهاجرين، ازدادت ظروفهم سوءًا، وكذلك ظروف المجتمعات التى تستقبلهم».
كما تنتقد جورجيا «العولميين الراديكاليين» الإيطاليين، وحتى كاتب الأغانى وناشط السلام الإنجليزى جون لينون بسبب أغنية «تخيل»، التى تعتبرها يوتوبية خطيرة.
وتتساءل: «هل الحلم حقًا هو عالم بلا حدود، بلا اختلافات، بلا تمييز، بلا تقاليد، خاليًا من قرون من الثقافة، حيث لا نكون متساوين فى الحقوق، ولكننا مجرد شىء واحد؟».

رؤية ميلونى

من المقرر أن تصدر ميلونى كتاب «رؤية جورجيا: جورجيا ميلونى فى محادثة مع أليساندرو سالوستى»، فى منتصف ديسمبر المقبل، بمشاركة الكاتب الصحفى أليساندرو سالوستى، عن نفس دار النشر، فى ٢٢٤ صفحة.
ويتضمن الكتاب الجديد مجموعة من المقابلات مع جورجيا، والذى جاءت فكرته، بعد أن سألها سالوستى لماذا لا يفكر رئيس الوزراء فى منصبه أن يؤلف كتابًا يشرح فيه خططه.
وفى «رؤية جورجيا»، تكشف ميلونى عن رؤيتها الحقيقية للحياة والعالم من خلال إحدى عشرة مقابلة، تسرد فيها مواجهة تحديات الحاضر - من الحرب فى أوكرانيا إلى أزمة الطاقة، ومن التحول البيئى إلى التضخم.
وتجرؤ على التركيز على المسئولية الفردية، والمبادرة الحرة، والدفاع عن الطبيعة، والاستثمارات الموجّهة لتعزيز النمو وخفض الديون، وأوروبا التى تلعب دورًا رياديًا فى العالم مع الحرص على تلبية احتياجات مواطنيها، و«خطة ماتى» القادرة على جلب الفرص والتنمية إلى الشرق الأوسط وإفريقيا.

وتقدّم جورجيا نفسها كقائدة مغيّرة تدعو إلى حوكمة قوية والحفاظ على التراث الثقافى، مازجة قصصًا شخصية وطموحات سياسية أوسع.
حيث تقول ميلونى لسالوستى: «من الضرورى أن يرى الإيطاليون حكومة، بالتأكيد، لها حدودها وصعوباتها، وربما ترتكب أخطاء. لكنها تعطى كل ما فى وسعها، بحسن نية، وبتواضع ومحبة. حكومة لا أصدقاء لها تعيّنهم فى مناصبهم، ولا جماعات ضغط ترضيها، ولا أصحاب نفوذ تكافئهم. حكومة لا ترضى أحدًا، ولا تنوى الاحتيال عليك، ولديها الشجاعة لإخبارك بما لا يمكن فعله فى وقت معين أو فى سياق معين».
لعلّ أبرز ما فى هذه الحوارات هى أنها تكشف عن سر صمود حكومتها قرابة ثلاث سنوات دون انهيار، لتصبح رابع أطول حكومة خدمة فى تاريخ الجمهورية الإيطالية- وهو إنجاز ليس بالهين فى بلد تنهار فيه التحالفات عادة، ونادرًا ما تكمل الحكومة فترة ولاية كاملة، حيث تعاقبت على السلطة فى إيطاليا ٦٩ حكومة على مدار الـ٧٩ عامًا الماضية.







