قارئات مصر المنسيات.. أصوات نسائية فى رحاب السماء
- ولدت منيرة عبده فاقدة للبصر داخل إحدى القرى فى بدايات القرن الـ19
- سكينة حسن أول قارئة فى عصرها تسجل القرآن بصوتها على أسطوانات
فى البيوت المصرية هذه الأيام يتحول موعد برنامج دولة التلاوة إلى لقاء عائلى، تنطفئ ضوضاء النهار وتعلو أصوات القراء تنافس فى حمل كلام الله، بأجمل أداء محققًا ملايين المشاهدات وتصدر الترندات العالمية، هذا الصدى الهائل ليس من فراغ بل يستدعى ذاكرة مصر حيث سبقت قارئات نساء هذا المجد، يجبن المآتم والموالد ويصعدن الأثير حتى أغلقت فتوى الثلاثينيات أبواب الإذاعة فى وجوههن، بين إرثهن وبرنامج اليوم تكتمل حكاية دولة التلاوة الحقيقية.

بدايات التلاوة فى ليالى العزاء
مع بداية القرن العشرين كانت تقاليد المآتم فى مصر تُقام لمدة ٦ أيام، ثلاثة للرجال وثلاثة للنساء، وكانت ليالى النساء يحييها قارئات، لكن قبل أن يكنّ قارئات كن يمتهن مهنة النياحة، أو بالمعنى الشعبى معددات، والنياحة مهنة معروفة فى مصر من ميراث قدماء المصريين الذين كانوا يحتفلون بالميت أربعين يومًا بالتمام والكمال، ويذكر الكاتب محمود السعدنى فى كتابه ألحان السماء أنه كانت هناك الحاجة خضرة فى المنوفية والست عزيزة فى الإسكندرية والست رتيبة فى المنصورة والشيخة أم زغلول فى السويس اللواتى حوّلن صرخات الحزن إلى أناشيد قرآنية تهدئ القلوب.
وفى بدايات هذا القرن عرفت مصر قارئات القرآن، كن يقرأن فى المدن والقرى والمآتم والموالد الشعبية، وذاع صيتهن بعد استعانة الإذاعة بهن عند انطلاقها عام ١٩٣٤م أمثال منيرة عبده، كريمة العدلية، نبوية النحاس، سكينة حسن، أم محمد، خوجة إسماعيل، وانطلقت أصواتهن عبر الإذاعة حتى نهاية الثلاثينيات بعد صدور فتوى بتحريم تلاوة النساء القرآن، فقبل الحرب العالمية بقليل أفتى بعض المشايخ الكبار بأن صوت المرأة عورة، واختفين من الإذاعة، وتوقفت إذاعتا لندن وباريس عن إذاعة أسطواناتها خوفًا من غضب كبار المشايخ.
ومع بدء الإذاعة المصرية كانت فى طليعة اللاتى رتلن القرآن كريمة العدلية، وخوجة إسماعيل، ومنيرة عبده، ومنيرة كان أجرها ٥ جنيهات، والشيخ محمد رفعت ١٠ جنيهات، ومع بداية عام ١٩٣٧م قدمت الإذاعة ثلاث تلاوات لقارئة واحدة فى كل أسبوع بالتناوب لمنيرة عبده وكريمة العدلية، ثم اختفت خوجة إسماعيل فانخفض عدد التلاوات المذاعة، وفى عام ١٩٣٩م ظهرت القارئة منيرة أحمد المصرى، إلا أن الإذاعة كانت فى شهر رمضان تحجب تلاوات القارئات، وفى الأربعينيات صدرت الفتوى فاختفت تلك الأصوات بلا رجعة، إلا أن تلاوة المرأة فى الحفلات والتجمعات الخاصة ظلت موجودة حتى عام ١٩٧٣م حين توفيت آخر سيدة رتلت القرآن الكريم الشيخة نبوية النحاس.

أم محمد رائدة عصر محمد على
عاشت فى عصر محمد على وفتحت الباب للسيدات أن يكن قارئات للقرآن، وهى لم تكن مجرد مرتلة للقرآن فقط بل كانت تحيى ليالى شهر رمضان فى حرملك الوالى وفى قصور قواد الجيش وكبار رجال الدولة، وكانت موضع إعجاب محمد على باشا وحصلت منه على العديد من الجوائز والهدايا والنياشين، كما أمر بسفرها إلى إسطنبول لإحياء ليالى شهر رمضان فى حرملك السلطانة، وماتت الشيخة أم محمد قبل هزيمة محمد على ومرضه وأمر بأن تقام لها جنازة رسمية وشعبية كبيرة، ودُفنت فى مقبرة تم تخصيصها لها فى مقابر الإمام الشافعى، وهى المقابر التى كانت تخصص لعلية القوم فى ذلك الوقت.
منيرة عبده النجمة الكفيفة التى أبهرت العالم
ولدت منيرة عبده فاقدة للبصر داخل إحدى القرى فى بدايات القرن الـ١٩، كانت نحيفة القوام تجوب قريتها، وتتلو آيات القرآن الكريم فى المآتم، وحين أصبح عمرها ١٨ عامًا أحدثت ضجة كبيرة فى الأوساط المصرية وذاع صيتها بين المحافظات وكبار المقرئين كالشيخ محمد رفعت عام ١٩٢٠م، وذاع صيتها خارج مصر وتهافتت عليها جميع إذاعات مصر الأهلية، وفور افتتاح الإذاعة المصرية جرى اعتمادها كقارئة، وكانت تحصل على ٥ جنيهات، وهى نصف ما كان يحصل عليه الشيخ محمد رفعت.
وفى عام ١٩٢٥م عرض عليها أحد التجار الأثرياء فى تونس إحياء ليالى شهر رمضان فى قصره بصفاقس وبأجر ١٠٠٠ جنيه، إلا أنها رفضت وفضلت قضاء شهر رمضان فى مصر، فما كان منه إلا أن جاء للقاهرة خصيصًا ليستمع إليها، وسجلت للإذاعة المصرية عدة تلاوات، كما سجلت لإذاعة باريس ولندن فى فترة الأربعينيات، ونوهت مجلة الراديو المصرى فى عددها الـ٥٥ الصادر فى ٤ أبريل ١٩٣٦م عن تلاوتين من القرآن المجيد للشيخة منيرة عبده، أذيعت الأولى عند افتتاح البث الإذاعى فى العاشرة من صباح الأحد ٥ أبريل ١٩٣٦م، وظلت تقدم التلاوات المتميزة فى الإذاعة، بالإضافة إلى الابتهالات والتواشيح الدينية ما بين ١٩٢٠م و١٩٣٤م حتى ظهرت الفتوى، فابتعدت عن الإذاعة المصرية والخارجية خوفًا من غضب المشايخ الكبار.
وفى أواخر حياتها اعتكفت فى بيتها تتذكر ذكرياتها الجميلة مع قراءة القرآن، وعاشت حتى ماتت وهى تمارس هوايتها الوحيدة، وهى الاستماع إلى أصوات العمالقة من القراء، ومع أنها كانت على علاقة طيبة بكل القراء إلا أنها كانت تفضل الشيخ محمد الصيفى على الجميع، وكانت تعتبره شيخ القراء، وتوجد حارة بمنطقة السيدة زينب تحمل اسم عبده، والتى كانت تسمى قبل سنوات منيرة عبده، وهى الحارة التى عاشت فيها الشيخة منيرة، والتى توفيت يوم الخميس ١ صفر ١٣٩٢هـ ١٦ مارس ١٩٧٢م، وكُتب على شاهد قبرها بسم الله الرحمن الرحيم «إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ» مدفن المرحومة المقرئة منيرة عبده البقرى وعائلتها.
سكينة حسن من التلاوة إلى الطرب الرصين
ولدت كفيفة عام ١٨٩٢م بمحافظة أسيوط، وحفظت القرآن كاملًا وذاعت شهرتها فى بداية القرن العشرين وهى تحيى المآتم الخاصة بالنساء، وتعتبر أول قارئة فى عصرها تسجل القرآن بصوتها على أسطوانات، وكانت صاحبة صوت عذب جدًا، ومخارجها فى الحروف متقنة، ووصلت شهرتها للعالمية من خلال إذاعة القرآن الكريم، وصدح صوتها مرتلًا للقرآن فى لندن وباريس، وبعد صدور قرار الإذاعة بأن صوت المرأة عورة انتقلت من تلاوة القرآن إلى الغناء، وبدلًا من الشيخة سكينة أصبحت المطربة سكينة، وصُنفت حينها بأنها مطربة رصينة تؤدى الطقاطيق بأسلوب رزين يختلف عن منيرة المهدية وغيرها من مطربات تلك الفترة، وسجلت أكثر من طقطوقة مثل أحب فى فؤادى سهام عيونك حيرتنى فى جمالك، وقد لُقبت بالست على جميع الأسطوانات التى سجلتها، ولم تُلقب بالشيخة، وظلت المطربة سكينة حسن تشدو بصوتها العذب وتطرب الناس بطقاطيقها حتى توفيت عام ١٩٤٨م وعمرها ٥٦ عامًا.

كريمة العدلية بحة أم كلثوم ورومانسية الحسين
كان صوتها جميلًا رقيقًا فيه بحة أشبه بصوت أم كلثوم، وقيل عنها إنها كانت تلهب أعصاب المستمعين بصوتها الحلو الرقيق إلى درجة أن بعضهم كان يغمى عليه أثناء إنشادها العذب الجميل، ولدت عام ١٩١٤م وتوفى والدها وهى فى الرابعة من عمرها، وكانت ضعيفة النظر فى طفولتها وحفظت القرآن كاملًا وعمرها ١١ عامًا، وفقدت البصر تمامًا وهى فى السادسة عشرة من عمرها، ولم تكتفِ بذلك فقط بل تعلمت الغناء والعزف على آلة العود، وسجلت بعض الأغنيات على أسطوانات، ولحن لها محمد القصبجى أغنيتين وتم طرحهما فى أسطوانات قبل أن تتوقف عن الغناء. وكانت بدايتها مقترنة ببدايات منيرة المهدية، ولقرابة ١٥ عامًا ظلت سطوة الاثنتين منفردة، واحدة على ساحة الطرب والأخرى على ساحة التلاوة والتواشيح، وجاءت بدايتها كقارئة ومطربة فى الإذاعات الأهلية، ومع ذيوع شهرتها بدأت فى تلاوة القرآن للسيدات فى المصلى المخصص لهن داخل مسجد الحسين، ومع إنشاء الإذاعة عام ١٩٣٤م اعتُمدت كمطربة وقارئة للقرآن وتركت الغناء وتفرغت لتلاوة القرآن فى الإذاعة ومآتم العزاء والاحتفالات الدينية، فأحيت عزاء الفنانة أسمهان وعزاء عالم الفيزياء على مصطفى مشرفة، وكانت على علاقة طيبة بكل زوجات رجال الثورة وكانت تحيى أى عزاء تابع لهن.
ووصلت شهرتها لدرجة أن الإذاعة كانت تقدمها مرتين، مرة الساعة السابعة صباحًا كقارئة قرآن، والمرة الثانية الساعة العاشرة وأربعون دقيقة كمطربة- بحسب مجلة الراديو المصرى فى عددها الـ٥٥ الصادر فى أبريل ١٩٣٦م- وجاء شغفها لتلاوة القرآن الكريم منذ أن كانت تحرص على الذهاب إلى مسجد الحسين يوميًا لصلاة الفجر هناك بغرض الاستماع إلى صوت الشيخ على محمود وهو يرفع الأذان ويتلو القرآن الكريم، وكان الشيخ على محمود أيضًا يسمعها.
أما عن قصتها مع الشيخ على محمود من البداية، فبدأت فى إحدى الليالى حين صعد الشيخ على محمود إلى الأريكة التى تقف عليها الشيخة كريمة، وأنشد بعدها فأعجبت بصوته وبطريقته الفذة وبمقدرته على تلوين الألحان، ومنذ ذلك التاريخ أصبح الشيخ على صديقًا للشيخة كريمة العدلية، ولم تنس السيدة التى أبهرت الناس بصوتها الجميل أنوثتها؛ فقد وقعت صريعة الإعجاب، غير أن الذى كانت تعجب به كان لا يدرى، فقد كانت السيدة كريمة فوق الخمسين، وكان هو فى حدود الثلاثين، وفى النهاية تزوجا، وقبل وفاتها عرضوا عليها تسجل عدة أسطوانات بصوتها إلا إنها قالت فى حزم: «لا.. إن صوتى قد ذهب».

خودة إسماعيل ونبوية النحاس صوتان فى قلب الإذاعة
كتب المؤرخ عصمت النمر، فى مقال له، أن الإذاعة قدمت قارئة ثالثة بعد كريمة العدلية ومنيرة عبده هى الشيخة خوجة إسماعيل، وقال إن تلاوتها الإذاعية الأولى كانت الساعة العاشرة صباحًا يوم الأحد ٥ أبريل ١٩٣٦م، وفى عددها الـ٥٧ ذكرت مجلة الراديو المصرى أنه فى الظهور الأول للشيخة خوجة إسماعيل كانت لها ثلاث تلاوات صباحية أيام ١٩ و٢١ و٢٣ أبريل ١٩٣٦م، كما قرأت صباح الثلاثاء ٢٨ أبريل ١٩٣٦م، وكان يومًا عاديًا حتى قطعت الإذاعة إرسالها بعد الظهر لوفاة الملك فؤاد الأول الذى توفى بقصر القبة الساعة الواحدة و٢٧ دقيقة مساء، وبعد قطع الإرسال بوقت قصير أذاعت الإذاعة نبأ وفاة الملك وأكملت إرسالها مع تلاوة القرآن.
وزاد اهتمام الإذاعة بتلاوتها لدرجة أنها كانت مسئولة فى وقت من الأوقات عن التلاوات النسائية كلها، والتى بلغ عددها ٣ تلاوات فى الأسبوع الواحد، وكانت الإذاعة تقدم أغنية للشيخة كريمة العدلية بجانب تلاوة قرآنية لها فى اليوم ذاته، بالإضافة إلى تلاوات الشيخة منيرة عبده، واستمرت الإذاعة فى تقديم تلاوات للثلاثى بشكل منتظم، منيرة وكريمة وأم محمد، واختفت الشيخة خوجة إسماعيل من الإذاعة ثم انخفض معدل تقديم التلاوات إلى تلاوة واحدة كل أسبوع.
نبوية النحاس: آخر صوت نسائى فى رحاب الحسين
كانت الشيخة نبوية النحاس ذات صوت قوى رنان، وكانت تحيى المآتم والأفراح والمناسبات الدينية خاصة فى مسجد الإمام الحسين، حيث يوجد مكان مخصص للسيدات فى المسجد يدخلن إليه من باب مخصوص، وظهرت فى فترة زمنية عاشت فيها اثنتان من كبار القارئات تنافسا معًا وهما الشيخة كريمة العدلية والشيخة منيرة عبده، إلى أن دخلت المنافسة بقوة وفى وقت قصير. وأصبحت قامة من قامات الترتيل الإذاعى وطافت البلاد شرقًا وغربًا وقرأت فى المناسبات العامة وأحيت الليالى القرآنية والمآتم، حتى تم منع بث تلاوات قارئات الإذاعة، وظلت فى الصدارة حتى توفيت عام ١٩٧٣م، وقيل عنها بموت السيدة نبوية النحاس انطوت صفحة رائعة من كتاب فن التلاوة والإنشاد الدينى فى العصر الحديث. فقد كانت السيدة نبوية هى آخر سيدة مصرية ترتل القرآن الكريم فى الاحتفالات العامة وفى المناسبات الدينية وفى المآتم والأفراح، وكان الاستماع إليها مقصورًا على السيدات وكان بمسجد الحسين قسم خاص للسيدات يدخلن إليه من باب خاص.
تلك الأصوات لم تكن مجرد تلاوة بل ثورة هادئة ضد التقاليد انقطعت بفتاوى الخوف من الفتنة، لكن قصصهن تذكرنا بمصر دولة التلاوة، حيث تساوى الرجال والنساء فى خدمة الكتاب، وها هو برنامج دولة التلاوة اليوم يعيد اكتشاف هذا الإرث بملايين المشاهدات وتفاعل عالمى مؤكدًا أن الروحانية المصرية لا تعرف حدًا.







