لماذا يكره المثقفون ع د ؟

- حان الوقت للمثقفين أن يردوا الاعتبار لعمرو دياب وظاهرته وكلماته وموسيقاه وجماهيره
طرح عمرو دياب ألبومه الأخير «ابتدينا» منذ أيام قلائل، متعاونًا للمرة الأولى مع شركة سونى العالمية كأول مطرب عربى ينال هذا التقدير، وكالعادة، صاحب الاستماع إلى أغنياته حالة جدل امتدت بطول العالم العربى بأكمله، بل إنها وصلت إلى الصدارة على الكثير من منصات الأغانى العالمية، ورغم كل ذلك النجاح المذهل يبدو أن هناك غصة فى الحلق لدى المثقفين تجاه ما يمكن تسميته بظاهرة عمرو دياب، إن البعض منهم يضعونه على رأس قائمة من أفسدوا الذوق العام، ويرونه أكبر معاول الهدم لتاريخنا الثقافى والفنى، ويتهمونه بالتمرد على الأشكال الموسيقية الشرقية التى اعتدناها. ورغم أن دياب يهيمن تقريبًا على الساحة الفنية لنحو أربعة عقود، إلا أن ذلك لم يشفع له دخول قلوب المثقفين.

يعانى المشهد الثقافى المصرى من ظاهرة التنميط، وإنتاج نسق شبه موحد على الراغبين فى الانضمام لكوكبة المثقفين عليهم الالتزام به وعدم شق عصا الطاعة أبدًا. فعشق فيروز ومحمد منير وشرب القهوة والانتماء لليسار واستخدام تراكيب وألفاظ مقعرة فى الحديث أو السرد، سيكون مدخلك السحرى والأوحد لتكون واحدًا من النخبة والصفوة الثقافية الذين يشار لهم بالبنان. بالطبع يوجد بعض الاستثناءات، لكنه يظل الطابع السائد والغالب فى أوساطنا ومؤسساتنا الثقافية بشكل عام.

إنهم يلومون على عمرو دياب عدم استخدامه التراكيب اللغوية المجازية، ويعيبون عليه أفكاره المباشرة، وعدم تضمينها دلالات مشبعة مضمرة بداخلها، وغياب القضايا الكونية المهمة عن أغانيه، هذا على مستوى الكلمة، أما على صعيد الموسيقى فحدث ولا حرج، إنهم يكيلون له الاتهامات بالخروج عن النسق الموسيقى ذى الطابع الشرقى المعتاد، وبأنه أدخل إلى عالمنا العربى إيقاعات غربية قاصدًا بها مغازلة الغرب لاستمالة قلوبهم وجوائزهم، وهم لا يغفرون له التمرد على ما قد اعتادوا سماعه طوال عشرات السنين، ومحاولة خلق تجربة خاصة جدًا به ومن يمثلهم.
عمرو دياب نفسه لم يدع يومًا أنه حامل لواء التراث الموسيقى، الرجل يعترف دائمًا بأن مشروعه مختلف، يعتمد على الجمل القصيرة البسيطة المباشرة، واختبار أنواع مختلفة من الموسيقى. وللمفاجأة، فإنه استطاع تشكيل وجدان الملايين بطول الوطن العربى وعلى امتداد أربعين عامًا، عاشوا معه أحلامهم، وقصص عشقهم، خيباتهم وانكساراتهم، انطلاقهم وبهجتهم، ومن ينكر ذلك يكون كمن أنكر وجود الماء والهواء. ربما هذا ما أثار استياء المثقفين، لقد تغلغل الهضبة، بكلماته البسيطة وموسيقاه المختلفة، داخل الشعور الجمعى العام، فى حين أنه ما زالت أفكارهم حبيسة الندوات والمؤتمرات وقاعات المحاضرات.

فى تقديرى أن الاستهانة بمشوار عمرو دياب من قبل المثقفين يأتى على خلفية عدم استطاعته مس أرواحهم، لكننى أيضًا يمكننى الجزم بأن العطب ليس فى عمرو دياب ذاته، بل فى تلك الروح المتكلسة التى أغلقت الباب حول نفسها وعاشت بعقلية ماضوية ولم تستطع الولوج إلى روح العصر، ولا التقاط الإشارات الواضحة وضوح الشمس على نبوغ الرجل وتعلق فئة كبيرة به لا يمكن الاستهانة بمشاعرهم. بالله عليكم خبرونى، هل رأيتم حفلات الرجل وكمية الشباب الهائلة التى تحضرها والتفاعل المثير للدهشة والإعجاب بينهم وبين مطربهم المفضل؟ كيف لنا أن نتجاهل مشاعر الملايين حرفيًا، ونسفه من ثقافتهم وأفكارهم لمجرد أنهم خرجوا عن قطيع الثقافة العربية وشقوا عصا الطاعة وأعلنوا العصيان؟ إن السبب الرئيسى المعلن والذى يعلمه الجميع عن لماذا تخلف الوطن العربى عن مسيرة الحداثة العالمية هو أن كل محاولات التنوير لم تأت من القاعدة الشعبية، بل فرضت فرضًا من الأعلى، وتعامل المثقفين مع ظاهرة عمرو دياب خير دليل على ذلك، رفضهم الصارم له ولتجربته ولجماهيره المليونية أخرجهم خارج إطار العصر، وجعل وصول أفكارهم وتغلغلها وسط الجماهير فى منتهى الصعوبة، لأنهم بالأساس يرفضون تلك الجماهير ويتعاملون معها بنخبوية طبقية واستهتار مبالغين.
وقد يقول أحدهم، كيف لرجل وصل لعمر الثالثة والستين كعمرو دياب، وما زال متصابيًا، يلبس «حلق» فى أذنه، يرقص على المسرح ويقفز هنا وهناك، يغنى بمشاعر شاب فى العشرين، ونسى جماهيره التى بدأت معه المشوار، هذه الجماهير التى تعيش الآن حبيسة داخل نطاق آلام فقرات الظهر واحتجاب المشاعر. ويلومون عليه غياب قضاياهم عن أغانيه الجديدة، والحقيقة أن اللوم كل اللوم يجب ألا يوجه سوى لتلك الفئة من البشر. دعونا نشرح تلك الجزئية بالتفصيل.

إن للوجود البشرى من وجهة نظرى ثلاث مراحل: الأولى ما قمت بتسميته الوجود الاضطرارى، ويتجسد ذلك الوجود منذ لحظة الميلاد، حيث تتم تغذية العقل بكمية هائلة من التقاليد والأعراف والمقدسات التى تزرعها الأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية فى الأذهان منذ الطفولة، حتى يصل الشخص إلى مرحلة النضوج، حينها يكون أمامه طريقان للوجود، فإما أن يسير فى مسار ارتدادى للوراء، حيث يعود إلى المنابع الأولى للتراث لينهل منها، وهو ما يمكن تسميته بالوجود التراثى، فى تلك النوعية من الوجود، يرفض العقل منجزات الحاضر ويعتبرها رجسًا من أعمال الشياطين، ولا يجد أمامه سوى العودة لأيام الصحابة والخلفاء، كبديل عن حاضر لم يستطع التعايش معه، وهو ما يجعلنا نعيش الحياة بتجربة أسلافنا وعلى مقاسهم. بينما الطريق الآخر الذى يمكن للشخص الناضج السير فيه، هو طريق الحداثة والتنوير، أو ما أسميه بالوجود الميتافيزيقى، وهو مشوار طويل يخطوه الكثيرون بنسب متفاوتة، فمنهم من يمكنه السير لربعه أو ثلثه أو منتصفه، والقلائل جدًا من البشر من يمكنهم الوصول لنهايته، والاستمتاع بتلك المرحلة الملكية من الحياة، حيث لا خوف من المجتمع، ولا من تقاليده وأعرافه. ويمكننى الزعم بأن عمرو دياب هو واحد من أولئك القلائل، الذى تجاوز وجوده الاضطرارى وتربع على عرش الوجود الخيالى، كاسرًا القيود الاجتماعية والثقافية، هو فقط يفعل ما يستمتع به، لا يفكر فى الموت، بل تشغله الحياة، تملأ البهجة وجدانه، ويريد للجميع أن ينضموا لحظيرة بهجته ليستمتعوا ويستنشقوا عبير الحياة الحقيقية.
من هنا فظهور عمرو دياب فى عمر الثالثة والستين وكأنه ما زال شابًا فى العشرينات ليست مشكلته، بل أزمتنا نحن، نحن الذين تسربت الحياة من بين أيدينا، فلم نهتم بصحتنا، ولم نمارس الرياضة حنى نحتفظ برشاقتنا، ولم نحافظ على العادات الغذائية الصحيحة، الرجل استمع إلى النصائح التى نكررها على الدوام لكننا لم نفعلها على أنفسنا أبدًا. أرجوك، لا تلوم الهضبة على حيويته وشبابه، بل اسأل ذاتك، أين ذهبت روحك؟
أعتقد أنه قد حان الوقت للمثقفين أن يردوا الاعتبار لعمرو دياب وظاهرته وكلماته وموسيقاه وجماهيره، لا بد لهم أن يضعوه فى الصدارة مع أم كلثوم وفيروز وحليم، ولا بد لهم أن ينزلوا من أبراجهم العاجية لينخرطوا وسط المجتمع ليكتشفوا حينها أن أغانيه تسكن قلوب الكثيرين، ويعيدوا النظر فى مسألة قولبة الثقافة، فالعصر والتجربة أثبتا خطأ أفكارهم، وليس هناك ما هو أجمل من الاعتراف بالخطأ، اعطوا عمرو دياب حقه، وأنزلوه منزلته، وامنحوه مكانته كرمز للثقافة العصرية.
