الخميس 05 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

زيارة جديدة إليها بعد 15 عامًا على صدورها..

المذكرات العارية.. جلال أمين يفضح الجميع

جلال أمين
جلال أمين

فى يونيو من العام 2010 صدرت مذكرات الدكتور جلال أمين عن دار «الشروق». 

اختار جلال- الذى كان كاتبًا ملأ الدنيا وشغل الناس بالفعل- لمذكراته عنوان «ماذا علمتنى الحياة؟» وقرر أن يكون فيها واضحًا وفاضحًا وكاشفًا.. لا يبقى ولا يذر. 

عرضت للمذكرات عرضًا مفصلًا، ووضعت لعرضى عنوان «المذكرات العارية»، ورغم أن جلال وضع منهجًا لنفسه وهو يكتب، حيث قال رأيه بصراحة فى كل وأى شىء، فإنه لم يتحمل الصراحة التى عرضت بها مذكراته، فكان أن وقعت بينى وبينه قطيعة دامت حتى موته، وهذه حكاية أخرى. 

بعد 15 عشر عامًا رأيت أن أذكّر بما كتبت، فهى واحدة من أهم السير الذاتية التى صدرت خلال ربع القرن الأخير، أحبها من أحبها، وكرهها من كرهها، لكن تبقى لها قيمتها وتأثيرها وسطوتها. 

دخلت إلى هذه المذكرات من مدخلين.

المدخل الأول: كان عن شخص الدكتور جلال كما رأيته. 

فهو يحمل على ظهره همًا ثقيلًا، وضعته أمامه ومن خلفه الأيام التى لا تمنحنا ما نريده، فهى تسيّرنا للوجهة التى تريدها دون استئذان، وفى الغالب دون رضا. 

رأيت شيئًا من ذلك بين سطور مذكراته «ماذا علمتنى الحياة»؟ 

وجدتُ جلال فى مذكراته يعانى حالة عنيفة من خيبة الأمل، كان يحلم منذ صغره بأن يرى اسمه مطبوعًا أسفل مقالاته، فرح بذلك طويلًا، وبعد مرور السنين أصبح ينظر إلى اسمه الموجود على عشرات الكتب ومئات المقالات، وكأنه اسم شخص لا يعرفه ولا يهتم به.

سعى جلال إلى تفقد مصائر من يعرفهم فوجد نفسه وجهًا لوجه أمام حياة قاسية لا ترحم ولا تستطيع أن تأمن لها أو تضع رحالك على ظهرها، فهى خائنة دون مبرر، وإذا قدمت لك مبررًا عما فعلته فيك، فإنه فى الغالب مبرر غير منطقى.

بين سطور جلال أمين التى لا تملك حيالها إلا أن تقرأها أكثر من مرة، مئات الشخصيات التى عرفها وقابلها وعمل معها، ومع هؤلاء جميعًا لم يُخف الكاتب مشاعره ولا آراءه فى أحد، فهو مثلنا جميعًا يحب ويكره، لكنه يختلف عنا فى أنه يقول إنه يحب هذا ويكره ذاك، أعجب بهذا ونفر من ذاك، وهو يفعل ذلك مبديًا استعداده التام للمواجهة والنقاش والحوار.

قد تكون وراء آراء جلال أمين فى شخصياته مواقف شخصية قرر أن يصفى هذه المواقف فى مذكراته. 

لكن فى النهاية يحسب له أنه لم يخف شيئًا يدور بداخله، قد تكون آراؤه صادمة ومواقفه مدهشة، لكنه لم يؤجل إعلانها لوقت لا يكون فيه قادرًا على الرد، بل نشر مذكراته على حياة عينه، وأعتقد أنه جلس بعد نشرها فى بيته الهادئ بالمعادى ينتظر رد الفعل الذى اعتقد أنه لن يكون هادئًا، فقد زرع الأشواك فى حديقة منزله وعليه ألا ينتظر سوى العواصف.

لم يكتب جلال أمين عن شخصياته، ورجال حياته من على السطح، بل فتح أبوابهم السرية وأخرج أوراقهم، وضعها أمامه على طاولة التشريح وجلس يقلب فيها دون أن يتعجل نفسه فى إصدار الأحكام، تراه يتجاوز حدود الحديث عن حياة الشخصية إلى دوافعها، فهو لا يهتم بماذا فعل فلان، لكنه يسأل: لماذا فعل هذا الفلان ما فعله؟ 

وفى رحلة بحثه عن إجابة لهذا السؤال تجده يتأمل ويستخلص حكمة الحياة التى تصوغ حياة البشر وتجاربهم على مزاجها الخاص دون حتى أن تستطلع آراءهم فى ذلك.

قدم جلال أمين مفاتيح عديدة لفهم الشخصيات الإنسانية، فعندما كان يرى أحدهم مقبلًا على المال يجمعه من أى طريق وبأى وسيلة، يبحث على الفور فى بداياته، وفى الغالب يجده عاش حياة يلفها الحرمان، ولهذا فهو يحاول تعويض ما فاته، ومن النادر أن يجد شخصًا عاش حياة الحرمان وتجده سويًا يعامل الحياة بما تستحق ويعيش مع الناس بالمعروف.

وأنت واقف على شاطئ هذه المذكرات ستجد صورًا لرؤساء ووزراء ومفكرين وكتاب وصحفيين وسياسيين وأساتذة جامعة ونساء من كل شكل ولون وبشر عاديين جدًا، كان يمكن أن يعبروا خلال حياة جلال أمين عبورًا سريعًا دون أن يتركوا أدنى أثر، لكنه ثبت اللحظة وأخذ يتأملها، ليحول فرّاشًا فى كلية حقوق عين شمس إلى شخصية مهمة ويجعل منه أحد الأسباب القوية التى كانت تدفعه لزيارة الكلية من آن لآخر، وعندما مات هذا الفراش- عم دسوقى - وجد نفسه عازفًا بشكل يكاد يكون كاملًا عن الذهاب إلى الكلية، وكأن الرجل البسيط دسوقى هو الذى كان يربطه بها! 

إن جلال أمين ساحر بلا شك، ليس لأنه كاتب متمكن من لغته وأدواته، ولكن لأنه يستطيع ببساطة شديدة أن يغوص داخل البشر، وببساطة أكثر يعريهم، يخلع عنهم ملابسهم ويجعلهم يقفون أمام أنفسهم فى المرآة بلا أى ساتر، لا يواجههم بأخطائهم، لكنه يتركهم يفعلون ذلك.

عن نفسى أهوى قراءة السير الذاتية وأعتبر أصحابها أبطالى المفضلين بانتصاراتهم وانكساراتهم، بنجاحاتهم وسقوطهم، فعندهم أجد الحياة، لكنّ هناك شيئًا لا بد أن أعترف به، فقد أوجعنى جلال أمين من حيث لا يدرى، وأعتقد أن كل من سيقرأ حياته بالبدايات والنهايات سيجد نفسه أمام ساحة من الألم. 

إنه يضعنا مبكرًا جدًا أمام حقيقة الحياة، سنعمل، ونفكر، وننجز، ونحب، ونكره، ونرتبط، ونختلف، ونبحث عن تجارب جديدة وأصدقاء آخرين، ونكرر بنفس الطريقة كل أخطائنا، لكننا سنجلس فى نهاية الطريق لنقول: إنه لا فائدة.. فالكل باطل.

أما المدخل الثانى فقد كان من خلال قراءة منهج الدكتور فى كتابة مذكراته. 

فقد ظل قادرًا على إدهاش الجميع طوال الوقت. 

ليس لأنه أحد خصوم سياسات أمريكا الكبار، ومع ذلك يعمل أستاذًا فى الجامعة الأمريكية. 

وليس لأنه يحمل فى قلبه وعقله مرارة فائقة مما فعله نظام عبدالناصر به وبمن يعرفهم، ومع ذلك تجد جريدة العربى الناصرى تحتفى به وبكتاباته وآرائه ومقالاته، بل إنها تكاد تقول: جلال أمين منا ونحن منه. 

ولكن لأن جلال أمين رجل صادق مع نفسه طول الوقت له أفكاره التى تشعر بأنها خاصة جدًا وصل إليها بتأمله فى الحياة وما يجرى فيها، وليس بالبحث بين السطور وفى بطون الكتب. 

انتبهت إلى منهج جلال أمين فى التفكير مبكرًا جدًا، ومبكرًا هذه بالنسبة لى أنا وليس بالنسبة له، عندما كنت أراجع مقالًا له أرسله إلى الصحيفة التى كنت أعمل بها قبل تخرجى فى الجامعة مباشرة. 

قرأت المقال لاختيار عناوين مناسبة له، وجدت نفسى أمام كاتب تتسابق سطوره أمام عينى من شدة بساطتها وجمالها، توقفت فجأة أمام عبارة، وكان المقال عن وفاة الأميرة ديانا فى فرنسا، يقول فيها: المشكلة الآن أننا لا يمكن أن نعيش دون ديانا، كما أننا لم نكن نستطيع أن نعيش بها، لا يوجد شىء مطلق عند جلال أمين، كل شىء نسبى، تراه يطلق الحكم وقبل أن تطمئن إليه تجده يتراجع شاكًا ومشككًا فيه، فمؤكد أن هناك شيئًا لا يعرفه يمكن أن يغير هذا الحكم فى لحظة واحدة، ولذلك فإنه يحتفظ بمساحة من التراجع، حتى لا يجد نفسه هو والقارئ وجهًا لوجه وبينهما «حيطة سد». التقيت به فى المرة الثانية فى جلسة حوارية ببيته الهادئ بالمعادى.

كنت أجرى معه حوارًا لمجلة «صباح الخير».

وكنت كلما سألته سؤالًا وجدته يفكر قليلًا قبل أن يجيب، بل إنه كان يطلب بعض الوقت حتى يتأمل فيما قلته أو طرحته عليه، حتى يكون كلامه دقيقًا، أدركت ساعتها أننى لست أمام مجرد أستاذ جامعى يدرس الاقتصاد لطلابه، ولا كاتب يرصد بعين ثاقبة كل ما يدور حوله، ولكننى أمام مفكر يبحث عن أسرار الوجود ولكن على طريقته الخاصة.

ظلت حالة الود هذه- على البعد- بينى وبين جلال حتى أصدر ما يمكن أن نسميه مذكراته، كتاب منحه عنوانًا استفهاميًا هو «ماذا علمتنى الحياة»؟ وتحت السؤال تعريف بسيط بما يحويه الكتاب- الذى صدر عن دار الشروق- سيرة ذاتية. 

ما لفت انتباهى بشدة، وأعتقد أنه مقصود من صاحب السيرة أنه كتب اسمه على الكتاب مجردًا بلا ألقاب، رفع من اسمه حرف الدال الذى يحرص على أن يضعه على كتبه الأخرى، وكأنه أراد منذ البداية أن يقدم نفسه لمن سيقرؤه على طبيعته، ومن حق الذى سيقرأ هذا أن يرفض أو يقبل، فهو وشأنه.

فى قراءة السير الذاتية أبحث دائمًا عن المفتاح.

جلال أمين وفر علينا مشقة البحث، إذ منحنا المفتاح منذ اللحظة الأولى. 

على ظهر الكتاب قال: منذ سنوات كثيرة رأيت فيلمًا بولنديًا صامتًا لا يزيد طوله على عشر دقائق، ظلت قصته تعود إلى ذهنى من وقت لآخر، وعلى الأخص كلما رأيت أحدًا من أهلى أو معارفى يصادف فى حياته ما لا قبل له برده أو التحكم فيه. 

تبدأ القصة البسيطة بمنظر بحر واسع يخرج منه رجلان يرتديان ملابسهما الكاملة ويحملان معًا- كل منهما فى طرف- دولابًا عتيقًا ضخمًا يتكون من ثلاث ضلف وعلى ضلفته الوسطى مرآة كبيرة، يسير الرجلان فى اتجاه الشاطئ وهما يحملان هذا الدولاب بمشقة كبيرة حتى يصلا إلى البر فى حالة إعياء شديد، ثم يبدآ فى التجول فى أنحاء المدينة وهما لا يزالان يحملان الدولاب، فإذا أرادا ركوب الترام حاولا صعود السلم بالدولاب وسط زحام الركاب وصيحات الاحتجاج، وإذا أصابهما الجوع وأرادا دخول مطعم حاولا دخول المطعم بالدولاب فيطردهما صاحب المكان. 

لا يحتوى الفيلم على تطوير محاولاتهما المستميتة فى الاستمرار فى الحياة وهما يحملان دولابهما الثقيل، إلى أن ينتهى بهما الأمر بالعودة من حيث أتيا فيبلغان الشاطئ الذى رأيناه فى أول الفيلم ثم يغيبان شيئًا فشيئًا فى البحر، حتى تغمرهما المياه وهما لا يزالان يحملان الدولاب.

منذ رأى جلال أمين هذا الفيلم وهو يتصور حاله وحال كل من يعرف، وقد أدرك أن كلًا منا يحمل دولابه الثقيل، يأتى معه إلى الدنيا ويقضى حياته حاملًا إياه دون أن تكون لديه أى فرصة للتخلص منه ثم يموت وهو يحمله على أنه دولاب غير مرئى، وقد نقضى حياتنا متظاهرين بعدم وجوده أو محاولين إخفاءه، ولكنه قدر كل منا المحتوم الذى يحكم تصرفاتنا ومشاعرنا واختياراتنا أو ما نظن أنه اختياراتنا، فنحن لم نختر آباءنا ولا أمهاتنا، ولا نوع العائلة التى نشأنا بها ولا عدد إخوتنا وموقعنا بينهم، ولا من نحب، ولم نختر طولنا أو قصرنا، ولا درجة وسامتنا أو دمامتنا أو مواطن القوة والضعف فى أجسادنا وعقولنا، كل هذا علينا حمله أينما ذهبنا وليس لدينا أى أمل فى التخلص منه.

ولكن ورغم قناعة جلال أمين بهذه الفلسفة، فإنه قرر أن يتخلص من دولابه الثقيل ولو قليلًا، إنه هنا يتحدث عن حياته وناسه كما لم يتحدث من قبل وكما لم يتحدث غيره. 

عملية إنقاذ من الإجهاض

كان الكاتب والمفكر الكبير أحمد أمين لا يريد من الأولاد إلا اثنين أو ثلاثة، فانتهى به الأمر إلى أن أصبح أبًا لعشرة، مات منهم اثنان فى المهد وبقى ثمانية، على أنه عندما وصل الأمر إلى احتمال مجىء الثامن وهو جلال أمين لم يطق الأب صبرًا، وقرر أنه آن الأوان لأن يضع حدًا للأمر، وأن يجبر الأم على الإجهاض. 

أبى حاول إجهاض أمى عندما حملت بى.. لكنها رفضت.. وكتب فى مذكراته أنه كان يتمنى الزواج بامرأة أجمل منها 

لم يكن الإجهاض فى هذا الوقت- منتصف الثلاثينيات- أمرًا سهلًا، كان على الأب أن يستعين فى ذلك بطبيب أجنبى، إذ ربما لم يكن هناك طبيب مسلم فى ذلك الوقت يقبل أن يقوم بهذه المهمة، رتب الأب موعدًا مع طبيب إيطالى، لم يكن من السهل على الأم أن تعصى الأب، ومع ذلك حاولت عدة مرات الهرب، مرة إلى بيت أخيها فى العباسية ومرة إلى بيت أختها فى قريتهما «زاوية البقلى» بالمنوفية، حتى اضطرت فى النهاية إلى الرضوخ لتهديدات الأب. 

فى الطريق إلى محطة القطار كان الأب كعادته يتقدم الأم ببضع خطوات، إذ لم يكن من المألوف أن يسير الرجل فى الشارع بمحاذاة زوجته حتى وصلا إلى المحطة، فلما جاء القطار استقل الأب العربة الأمامية على أن تصعد الأم إلى عربة السيدات، وهى عبارة عن ديوان صغير فى آخر القطار كتب عليها «سيدات» ولا تتسع لأكثر من ست أو ثمانى من النساء.

استجمعت الأم كل شجاعتها وتركت الأب يصعد وحده إلى القطار وعادت إلى المنزل، ومع ذلك لم تفتر عزيمة الأب وعاد إلى محاولته مستخدمًا العنف مرة واللين والملاطفة مرة، حتى رضخت الأم بالفعل للذهاب إلى الطبيب. 

جلست الأم أمام الطبيب الإيطالى وسمحت له بأن يبدأ الكشف، ثم تحرك فى قلبها غضب غريزى جعلها تدفع الطبيب بقدمها بكل قوتها صائحة فى صورة «روح يا شيخ.. هو أنا حبلى فى الحرام»، فتراجع الطبيب خائفًا، وقال معلنًا استسلامه وبلكنة أجنبى ظلت دائمًا مبعثًا للضحك فى أسرة أحمد أمين على مر الأيام كلما روت الأم القصة: يا خبيبى أنا مالى؟ عايز تسقط تسقط.. عايز تخبل تخبل. 

عادت الزوجة إلى البيت منتصرة والأب خائبًا، ولم يعاود الكَرة مستسلمًا لمشيئة الله.

وهكذا جاء جلال أمين إلى الوجود فى ٢٣ يناير ١٩٣٥.

قصة حب معلنة فى حياة الأم

كانت القصة التى لا تمل أم جلال أمين من روايتها له هى قصة حبها الأول.

كان لأمه ابن خال وقعت فى حبه ووقع فى حبها وتعاهدا على الزواج، فذهب أبوالفتى العاشق إلى ولى أمر الفتاة العاشقة يطلبها لابنه فرفض الطلب بقسوة، إذ كانت له بنات فى سن الزواج، ولم يكن يرغب فى أن تتزوج البنت اليتيمة قبلهن وأخذ يختلق الأعذار للرفض. 

سأل عن المهر فقيل له إن الفتى لا يملك شيئًا، ولكنه مستعد لدفع المهر بالتقسيط، فرد ولى الأمر ساخرًا بأن ابنة أخته ليست ماكينة خياطة يمكن شراؤها بالقسط. 

تحطم قلب الفتى ورقد مريضًا من شدة الحزن، وعندما تقدم لها أبوه وجدته رجلًا قليل الكلام لا يعرف المزاح أو المرح، وهو يطلب الزواج منها دون أن يراها، فليس هناك إذن حب ولا حتى تفضيل لها على غيرها، بينما هناك على قيد الحياة قلب ينبض بحبها ولا يتمنى سواها، ثم تصطدم الفتاة فى أول أيام الزواج بعد انتقالها إلى بيت الزوجية بانشغاله المستمر بكتبه وأوراقه.

ظلت الأم تردد من حين لآخر قصة حبها لابن خالها وحبه لها. 

ولكن القصة كانت تبدو لجلال أمين عندما كان يسمعها وهو صغير مجرد قصة مضحكة ومسلية لا أكثر ولا أقل، كما كانت تبدو له وكأنها حدثت قبل التاريخ عندما كانت أمه فتاة صغيرة وجميلة قادرة على الشعور بالحب وإثارة الشعور بالحب، فإذ به يكتشف أن الأمر كان جدًا محضًا، بل وكان يحمل طابعًا متساويًا بكل معنى الكلمة. 

لقد توفى أبوه سنة ١٩٥٤، وبعد ذلك بعامين حدث الاعتداء الإسرائيلى على مصر المشهور بحرب ١٩٥٦، وقد راح ضحية هذا الاعتداء عدد كبير من الشبان المصريين، كان من بينهم ابن هذا المعشوق القديم ابن خالها، وتعرفت الأم على الاسم على الفور من قراءتها صفحة الوفيات فى جريدة «الأهرام».

عبرت الأم عن ضرورة ذهابها لأهل الشاب المتوفى للتعزية، وأخذت تفيض فى التعبير عن حرقة القلب التى لا بد أن تكون أصابت أباه وأمه، وذهبت الأم للتعزية وعادت وقد بدا عليها التأثر والحزن الشديدان، ثم مرت أشهر قليلة جاء بعدها الأب نفسه ليشكر الأم على قيامها بالعزاء، وجلسا معًا فى شرفة البيت يتبادلان الحديث. 

كان جلال أمين يراه لحظتها لأول مرة، فرأى رجلًا مهيب الطلعة فى نحو الخامسة والستين من العمر أو أكثر، فارع الطول وأنيقًا أناقة واضحة، لم يعلق جلال أهمية على هذه الزيارة، ولكنه عندما تذكرها بعد وفاة أمه بسنوات بدت له هذه الزيارة وكأنها نهاية مؤثرة لقصة حب ظل مكتومًا ومحرومًا من التعبير عن نفسه لعشرات السنين.

ماذا كتب أحمد أمين عن زوجته زينب؟

وقعت فى يد جلال أمين مفكرة يرجع تاريخها إلى العام ١٩١٧، كتبها والده عن أمه بعد أن مضى نحو عام على زواجهما.

المذكرات لا تلقى الضوء على شخصية الأب والأم فقط، بل أيضًا على بعض الجوانب الشائعة من حياة الأسر المصرية المنتمية لشريحة من الشرائح المتوسطة من الطبقة الوسطى. 

 أخشى أن يرث أولادى منى قصر نظرى وأرجو أن يرثوا نظرهم من أمهم

وكان هذا بعض ما كتبه دون ترتيب:

٢٣ يناير١٩١٧.. لى نحو ثلاثة أيام أحس فيها بشىء من الضيق لأن زوجتى ليست جميلة وألوم نفسى على هذا الألم، والواجب حمد الله على ما وصلت إليه، وكان هذا الألم على إثر حديث حدثتنى فيه أختى عن فتاة كانت خطبت لى وكانت جميلة جدًا، وكانت قد رضيت أخيرًا بتزوجى ففضلت عليها زوجتى التى اخترت.

١٦ فبراير.. تحقق أنها حامل وقد كنا نود لو تأخر حتى نتمتع بالزوجية جد التمتع، ولكن لم يقع ما أملنا وابتدأت تظهر متاعب الحمل وتنغيصاته، وبالأمس سألتها رأيها فى صاحب لى يود الزواج بفتاة تعرفها، فقالت إنها صالحة لزواجه، ولكن خير من ذلك أن تنصحه بعدم الزواج، ولعلها لا تقول هذا القول فى أوقات سرورها.

أخشى أن يرث أولادى منى قصر نظرى، وأرجو أن يرثوا نظرهم من أمهم، فهى أطول وأجمل عينًا، ندم كثير من النساء اللاتى رفضن أن يزوجن بناتهن لى بحجة أنى شيخ، بعد أن شاهدن حسن معاملتى للزوجة وحسن سيرتى فى بيتى، فحدثتنى والدتى أن زوجة «ع» أفندى التى رفضت الزواج بى أتت البيت وبكت فى أثناء حديثها وندمت على ما كان من الرفض. 

حسين أمين يهرب من عملية اللوز

يصل بنا جلال أمين بعد ذلك إلى شقيقه الذى يكبره مباشرة وهو حسين أحمد أمين السفير السابق والكاتب الشهير.

حاول جلال أن يصل إلى عمق أخيه منذ البداية، فهو أكثر إخوته أثرًا فيه.

 أخى حسين كان يعتقد أنه شخص فريد من نوعه لم يأتِ أحد مثله من قبل ولن يأتى أحد مثله فى المستقبل

كان حسين يتسم بصفة لا يشترك معه فيها أى طفل آخر من أطفال العائلة ذكرًا كان أو أنثى، وظل جلال حائرًا فى تفسيرها حتى استسلم فى النهاية للتفسير الوحيد الباقى، وهو أنه قد ولد بها وأنها من بين خصائص جيناته الوراثية، وهذه السمة هى الميل البالغ القوة للاعتقاد بأنه شخص فريد من نوعه لم يأت أحد مثله من قبل ولن يأتى أحد مثله فى المستقبل.

كانت وسيلة حسين لإثبات أنه أعظم الناس تحصيل أكبر قدر من الثقافة وقد نجح بالفعل- كما يرى جلال- فى تحصيل قدر من الثقافة يتجاوز بمسافة شاسعة ما حصله أى أخ أو أخت من إخوته بل ومعظم من عرض جلال من المثقفين المصريين، وقد اقترنت هذه الثقافة الواسعة بموهبة حقيقية لديه فى الكتابة والتعبير عن النفس وبسلاسة وجاذبية نادرتين، جعلتا أحمد أمين يعلق آمالًا فى أن يخلفه حسين ككاتب وأديب أكثر مما علقه على أى ولد آخر من أولاده، وإن لم يكتم الأب ما كان يعتريه من خوفه من أن يجابه حسين فى حياته الكثير من الصعاب من جراء اعتداده المفرط بنفسه.

ويقول جلال ليؤكد وجهة نظره فى أخيه: مما أذكره من تصرفات حسين المدهشة ونحن أطفال ما حدث عندما أخذنا أبى نحن الإخوة الثلاثة- أنا وحسين وأحمد- وأعمارنا تتراوح بين السادسة والعاشرة إلى طبيب الأنف والأذن والحنجرة فى عيادته لاستئصال اللوز، كان المطلوب عمله أمرًا كريهًا جدًا ومخيفًا للغاية بالنسبة لنا نحن الأطفال الثلاثة، ولكن دخل أكبرنا أحمد فى البداية دون اعتراض فاستؤصلت لوزه، وجاء دور حسين فرفض رفضًا باتًا أن تجرى له العملية غير متصور فيما يظهر أن يجرى عليه ما يجرى على الآخرين، وأخذ يجرى من حجرة لأخرى من حجرات العيادة، ووراءه الطبيب والممرض يحاولان الإمساك به وهو يصيح بصوت عال سمعه كل من فى العمارة: أنا قلت مش حأعمل عملية اللوز.. والله العظيم ما أنا عاملها.. شوف والله العظيم يعنى إيه!

ويضيف جلال: صارت هذه العبارة المأثورة بين أفراد الأسرة تعيد ذكرها ضاحكين كلما دار الحديث حول حسين وشخصيته، لم يرضخ أبى بالطبع للأمر وأجريت العملية للجميع، وإن كان قد اضطر أن يعيد ترتيبنا فدخلت أنا كالحمل الوديع بعد أخى أحمد وأجريت لى العملية فى هدوء تام ريثما يتم القبض على حسين.

عندما جاء السادات.. بكينا على أيام عبدالناصر

يكتب جلال أمين فى صحيفة الحزب الناصرى، وتجرى معه الجريدة مقابلات وحوارات عديدة، وتحتفى به التجمعات الناصرية احتفاء باهرًا ومبهرًا، وله علاقات قوية مع ناصريين كبار. 

لكن كيف يرى جلال- عبدالناصر؟ 

فى مذكراته يقول عنه: لا عجب أن تلقيت خبر وفاة جمال عبدالناصر فى ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ بهدوء شديد وبمشاعر فيها من دهشة المفاجأة أكثر مما فيها من حزن، كنت فى بيروت فى رحلة عمل قصيرة عندما سمعت الخبر، ولم يكن سماعى به عن طريق الراديو أو التليفزيون أو الصحف، بل عن طريق أصوات البنادق التى أطلقها اللبنانيون ودخان الحرائق التى أشعلوها فى الشوارع للتعبير عن حزنهم.

كان جمال عبدالناصر لا يزال يمثل فى أعينهم رمزًا لأهداف الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار والدفاع عن مصالح الفقراء، أما بالنسبة لى فقد كانت هذه نظرتى لعبدالناصر فى السنوات الخمس أو الست الأولى التالية لتأميم قناة السويس فى ١٩٥٦، ولكن خلال الخمس أو الست السنوات السابقة على وفاته لم أشاهد أى تقدم نحو تحقق هذه الأهداف، بل رأيت انكسارات مهمة فى الجبهات الثلاث، فضلًا عن التراجع المخزى فى قضية الديمقراطية والحريات الشخصية.

كانت مشاعرى نحو عبدالناصر عند وفاته فى ١٩٧٠ أقرب إلى مشاعرى نحوه فى ١٩٥٤، عندما غضبنا على طريقة معاملته لمحمد نجيب منها إلى مشاعرى نحوه فى ١٩٥٦ عندما أمم قناة السويس، أو فى ١٩٦١ عندما أصدر القوانين الاشتراكية، ولم تتغير مشاعرى نحو عبدالناصر مرة أخرى إلا فى منتصف السبعينيات عندما رأيت حجم التنازلات التى بدأ يقدمها السادات لإسرائيل والولايات المتحدة.

وبدأت إنجازات عبدالناصر فى مجالات الاقتصاد والسياسة الخارجية والعربية تبدو لى فى ضوء مختلف تمامًا وإيجابى للغاية بمقارنتها بخطايا السادات فى كل هذه المجالات، كما بدا هامش الحرية الذى سمح به السادات بالمقارنة بالقيود التى كان يفرضها عبدالناصر مكسبًا ضئيلًا، بل وفى كثير من الأحيان شكليًا وقليل الجدوى.

وهنا لا بد أن نقرأ ما قاله جلال أمين عن الرجلين معًا، عبدالناصر والسادات.

فقد كان السادات نائبًا لرئيس الجمهورية عندما مات عبدالناصر فجأة، لكن أصيب الجميع بالدهشة عندما رأوا أن السادات أصبح رئيسًا للجمهورية. 

يقول جلال عن السادات: كان الرجل منذ سمعنا اسمه أول مرة بعد قيام الثورة فى ١٩٥٢ يثير السخرية والرثاء أكثر مما يثير الاحترام أو الحب، وكان كل ما يصل إلينا مما يتعلق بسلوكه أو أقواله أو مواقفه يؤكد صحة هذا الموقف السلبى منه، كثير المزاح وقليل الصبر على القراءة أو التفكير أو العمل الجدى، مع إفراط فى الحرص على الفخفخة والمظاهر الكاذبة، وكان هناك انطباع عام بأن هذه الصورة فى أذهاننا للسادات هى نفسها التى توجد فى أذهان بقية أعضاء قيادة الثورة عنه، بمن فيهم جمال عبدالناصر الذى كانت تصلنا قصص عن نوع العلاقة القائمة بينه وبين السادات تنطوى كلها على قليل من الاحترام وكثير من نفاد الصبر من جانب عبدالناصر، وعلى كثير من الرياء والاستعداد لإراقة دماء الوجه من جانب أنور السادات. 

شعرت بأن قلبى يسقط من صدرى عندما سمعت السادات يخطب بعد العبور ويتكلم عن السلام ومزاياه

ثم حدثت مفاجأة أكتوبر ١٩٧٣، إذ وصل أسماعنا فى ٦ أكتوبر ودون أى مقدمات خبر عبور الجيش المصرى لقناة السويس، ونجاحه الباهر فى تحطيم خط بارليف، كان شعورى لدى سماع الخبر كما كان شعور الكثيرين مزيجًا من الفرح وعدم التصديق، وكذلك شىء من الخوف من أن تكون وراء هذا الحادث المبهج جدًا، أشياء أخرى خفية وأقل مدعاة للبهجة، ولكن كانت لهفتنا إلى أى تغيير مفرح فى تلك الحالة البائسة التى كنا نعيش فيها تدفعنا إلى طرد أى شك من الذهن، وإلى الانغماس مع الآخرين فى الفرح والتفاؤل.

على أن هذا الفرح لم يستمر على الأقل فيما يتعلق بى لأكثر من أسبوعين؛ إذ شعرت بأن أشد مخاوفى قد بدأت فى التحقق عندما سمعت أنور السادات لأول مرة بعد عبور الجيش المصرى إلى سيناء فى ٦ أكتوبر يتكلم عن السلام ومزاياه، شعرت وكأن قلبى يسقط فى صدرى عندما سمعته يخطب فى مجلس الشعب، ويؤكد أن هدفه هو السلام، وكان قد أصدر أمرًا للجيش بالتوقف وعدم الاستمرار فى التقدم نحو الممرات فى سيناء، أذكر أننى بعد الخطبة بساعات قليلة كنت فى سيارة تاكسى فى ميدان التحرير وإذا بسائق التاكسى ينفجر غاضبًا وهو يقول: سلام إيه وهباب إيه؟.. إحنا لسه أخدنا بتار أولادنا اللى ماتوا ولا حتى أخدنا سيناء. 

وعن عبدالناصر يقول: لا عجب أن بدأت صورة جمال عبدالناصر فى ذهنى تكتسب ملامح مختلفة تمامًا، بدا عبدالناصر رجلًا محترمًا للغاية بالمقارنة بخليفته، وبدا أنه من الممكن جدًا أن نغفر له معظم أخطائه بعد أن رأينا أفعال السادات. 

كانوا يتحدثون عن تقييد الحريات مقابل إطلاقها فى عهد السادات؟، فما نوع تلك الحريات التى منحها لنا أنور السادات؟. 

نعم.. صحيح أصبح من الممكن الكلام فى التليفون أو فى التاكسى وفى المحاضرات وكتابة الخطابات دون خوف من عملاء المباحث العامة أو الرقيب، كما أصبح من الممكن السفر إلى أى مكان فى العالم دون تأشيرة خروج، وهذا كله مما لا يستهان به، ولكن السادات لا يزال هو الحاكم بأمره الذى لا يلتزم باستشارة أحد وهو يصف ديمقراطيته بأن لها أنيابًا، ويهدد معارضيه بالفرم، وليس فى تاريخ السادات السياسى ولا فى طبيعته الشخصية ما يدل على أنه أقرب فى مزاجه إلى التسامح مع الرأى المخالف، بل إن غروره الذى لا أساس له، ومستوى ذكائه الذى يبدو محدودًا، إذا قورن بعبدالناصر يؤهلانه أكثر من غيره لممارسة حكم ديكتاتورى وللبطش بمعارضيه. 

 فرحت عندما سمعت خبر اغتيال السادات.. واعتبرت موته عقابًا لائقًا لما ارتكبه فى حق مصر من أخطاء 

لهذا كنت أميل إلى الاعتقاد بأن ما سمى بديمقراطية السادات كان أقرب إلى أن يكون جزءًا من التصور الأمريكى لهذه المرحلة من مراحل تطور مصر منه إلى ميول السادات الشخصية وطبيعة مزاجه، كان المطلوب بالطبع فى تلك الفترة تشويه سمعة عبدالناصر تمهيدًا لنقض سياساته المختلفة فى الاقتصاد والعلاقات الخارجية والعربية ومصر وإسرائيل، وكان هذا التشويه لسمعة عبدالناصر وعهده يتطلب إتاحة درجة من حرية النقد التى يسهل الرجوع عنها متى تمت المهمة التى جاء السادات من أجلها. 

ليس عجيبًا إذن أن كان ابتهاجى شديدًا عندما سمعت فى ٦ أكتوبر ١٩٨١ بمقتل أنور السادات، ففضلًا عن الارتياح الذى بعثه فى نفسى اختفاء هذه الشخصية التى لم تكن تثير لدىّ إلا مشاعر الغضب والنفور، بدا لى هذا الذى حدث للسادات وكأنه عقاب لائق لما ارتكبه فى حق مصر والعرب من أخطاء.

ثروت أباظة.. كيف تكون عديم الموهبة ومشهورًا فى وقت واحد؟ 

كلام جلال أمين عن ثروت أباظة كان أكثر مباشرة وأشد إيلامًا. 

يقول عنه: كنت دائمًا مطمئنًا إلى صواب موقفى من ثروت أباظة، برغم أننى لم أكن قد قرأت له حتى ذلك الوقت من الروايات أو القصص إلا رواية واحدة لم أستطع إتمامها، كنت أستغرب دائما تفاهة ما ينشره من مقالات سياسية وسماح أهم صحيفة يومية فى مصر بنشر ما يكتبه، وإشارتها المستمرة له على أنه الكاتب الكبير وقربه من السلطة السياسية وتمتعه بحق الكلام باستمرار فى لقاء رئيس الجمهورية السنوى بالأدباء والكتاب. 

 ثروت أباظة كان عديم الموهبة وتعجبت من ثناء طه حسين وتوفيق الحكيم عليه 

كان ثروت أباظة فى نظرى لهذا السبب ظاهرة فى حد ذاتها يصعب العثور على مثيل لها، إذ يندر أن تجتمع هذه الصفات فى شخص واحد قلة أو انعدام الموهبة مع الشهرة والوجود الدائم فى وسائل الإعلام باعتباره أديبًا كبيرًا، وتقريب السلطة السياسية له مع شدة حماقته السياسية. 

فلما توفى فى سنة ٢٠٠١ دهشت مرة أخرى لمقدار التبجيل الذى أغدقه عليه بعض الكتاب الكبار من بينهم نجيب محفوظ. 

صحيح أن الأمر لم يستمر أكثر من أسبوعين أو ثلاثة، ونسى الرجل بعدها أو كاد ينسى نسيانًا تامًا، ولكننى ظللت مندهشًا من أن يصل تدهور المناخ الثقافى والسياسى فى مصر إلى هذا المستوى. 

شعرت حينئذ بشعور مماثل لما أشعر به عادة عندما أحس بأن ظلمًا كبيرًا قد وقع ويحتاج إلى كشفه وإزالته، فأظل أشعر بالقلق ولا يهدأ لى بال حتى أعبر كتابة عما أشعر به وأحاول تفسيره وشرحه، صممت على كتابة مقال طويل عن ظاهرة ثروت أباظة، ولكن الأمر كان يقتضى قراءة بعض رواياته، خاصة المشهور منها، مثل «شىء من الخوف» و«هارب من الأيام»، فرحت أبحث عنهما حتى وجدت مجلدًا يضمهما وأعمالًا أخرى له مع مقدمة طويلة كتبها رجل مغمور، عرفت فيما بعد أنه كان يتقرب بهذا المجلد إلى ثروت أباظة ويخطب وده. 

قرأت الروايتين والمقدمة الطويلة فلم أجد أى شىء يثنينى عن عزمى أو يغير رأيى فى الرجل وأدبه، نصحنى البعض بألا أنشر المقالة إلا بعد مرور الأربعين يومًا على وفاته، فانصعت لهذه النصيحة، ولكنها نشرت بعد ذلك مباشرة فى جريدة معارضة، فإذا بى أقرأ ردًا عنيفًا عليها موقعًا باسم أرملة ثروت أباظة.

تساءلت أرملة أباظة فى ردها عما يمكن أن يكون قد حدث للمصريين حتى أكتب مثل هذا الكلام عن زوجها الراحل، الذى اعترف بأدبه الجميع، وعلى رأسهم طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم؟ 

وقال لى رئيس تحرير الجريدة، التى نشرت مقالى، إن رئيس مجلس الشورى الذى كان ثروت أباظة وكيلًا له قد اتصل بنفسه ليحتج على مقالى، وحذر الجريدة من العقاب إذا لم تقم بنشر رد أرملة الفقيد، ولكن المدهش فى الأمر أنه باستثناء هذا الرد لم أصادف أى رد أو تفنيد لما كتبته فى أى صحيفة أو مجلة، وكأن الرجل بموته قد فقد فجأة كل من كان يقف إلى جانبه ويثنى على أدبه.

رفعت المحجوب.. لم تقتله الجماعات الإسلامية.. بل قتلته قلة ذكائه

عرف جلال أمين رفعت المحجوب عندما كان مدرسًا له فى كلية الحقوق جامعة القاهرة، كان يراه متجهم الوجه دائمًا، ثقيل الظل، بطىء الحركة، يتظاهر بالعمق وسعة الثقافة دون أن يكون هناك أى دليل حقيقى على هذه أو تلك. 

 رفعت المحجوب كان شخصًا محدود الذكاء واغتياله كان نتيجة طبيعية لما فعله فى حياته 

ويحكى جلال ذكرياته عن المحجوب. 

أتذكر بوضوح تام ذلك اليوم الرهيب الذى أخبرونا فيه بحجم المصيبة التى حلت بمصر- يقصد هزيمة ٥ يونيو ١٩٦٧- كان هذا يوم الجمعة ٩ يونيو، وكنت وقتها مدرسًا فى كلية الحقوق بجامعة عين شمس، وإذا بى أتسلم عن طريق التليفون دعوة لحضور اجتماع مهم فى قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة فى السادسة مساء، حيث نستمع إلى بيان سياسى مهم، وذهبنا فى وجوم وتوجس، كان الهدف الأساسى من هذه الدعوة- كما تبين فيما بعد- هو إعطاء رجال السلطة فرصة لالتقاط الأنفاس خوفًا من أن يفلت الأمر تمامًا من أيديهم. 

جلسنا نستمع إلى الرئيس عبدالناصر ونحن نرى صورته على شاشة التليفزيون وهو يشرح لنا كيف أنه كان يتوقع أن تأتى الطائرات الإسرائيلية من الغرب فجاءت من الشرق، ما أثار غيظى الشديد وغضبى وحزنى، ما أثار غضب وحزن بقية المصريين، ولم يفلح فى التخفيف من هذا الغضب إعلان الرئيس رغبته فى التنحى عن السلطة، إذ لم أصدق وقتها ولا فيما بعد أنه كان يقصد التنحى بالفعل. 

الذى يعنينى الآن هو ما حدث ونحن جالسون فى تلك القاعة الفسيحة وهى ممتلئة بأساتذة الجامعات المختلفة، بدأ الاجتماع بظهور هذا الرجل الغريب رفعت المحجوب على المنصة وهو يرتدى زيًا أغرب، يتكون من قميص وبنطلون من قماش الكاكى الذى يرتديه جنود الجيش والضباط، وكأنه قادم لتوه من معركة عسكرية. 

كان منظره جديرًا بإثارة الضحك والاستهزاء الشديد لولا الموقف المأساوى الذى كنا فيه، وزاد الموقف مأساوية وإثارة للسخرية فى الوقت نفسه أنه لم ينبس بأكثر من جملة أو جملتين قبل أن يجهش بالبكاء تأثرًا، ولكن هذا البكاء لم يمنعه من أن يضمن كلامه عبارات فى مدح الرئيس والإشادة بعظمته وأبوته للشعب المصرى. 

أكد لى هذا الموقف ضآلة حجمه الحقيقى ونوع الدور الذى يمكن أن يعهد إليه بأدائه ولا يمكن أن يتجاوزه. 

لم يمنع رفعت المحجوب شىء من الاستمرار فى طريقه، هزيمة كانت أو انتصارًا، رأسمالية كانت أم اشتراكية، فعلى الرغم من تحول النظام تحولًا جذريًا من سياسة إلى نقيضها فى مختلف مجالات السياسة الداخلية أو الخارجية، ظل الدكتور رفعت يخطب بفصاحة فى حدود ما تسمح به الظروف السائدة، ظل يذكر العدالة الاجتماعية فى كلامه ولكن دون أن يتجاوز الحدود المسموح بها. 

وقد فوجئنا جميعًا فى منتصف الثمانينيات، أى بعد تحول النظام الاقتصادى والسياسى تحولًا تامًا عن سياسات عبدالناصر باختيار رفعت المحجوب رئيسًا لمجلس الشعب.

كان د. رفعت قد أثبت خلال الخمسة عشر عامًا السابقة أنه لا خطر منه فى الحقيقة على النظام، وأنه من الممكن الإفادة من مهاراته الخطابية وجلده وصبره على العمل السياسى الذى لا يجلب أى منفعة للقائم به وللجالس على قمة السلطة، ومع ذلك فقد ظل البعض يعتبرونه من رجال النظام القديم، يصنفون آراءه ومعتقداته على أنها تميل إلى الاشتراكية وإعادة توزيع الدخل. 

والحقيقة كما أعرفها عنه منذ كان مدرسًا مبتدئًا فى كلية الحقوق أنه لا آراء ثابتة له فى أى شىء ولا معتقدات قوية، كذلك توجس منه بعض رجال الحكم خشية من أن يلحق بهم بعض الضرر جراء آرائه التى اعتبروها اشتراكية، وهو يحتل هذا المنصب النيابى الكبير الذى اكتسب معه بعض النفوذ، ولكن الحقيقة هى أن الخطر الذى كان يهددهم من ورائه، لم يكن يتعلق بآرائه ومعتقداته، بل كان مصدره ما يمكن أن يرتكبه من أخطاء بسبب قلة حظه من الذكاء والفطنة.

هذا هو ما حدث بالفعل، فقد صدرت منه مرة دون أى داع جملة وردت بها عبارة «القطط السمان»، مشيرًا بذلك إلى الأثرياء الذين جمعوا ثرواتهم فى فترة قصيرة دون جدارة حقيقية أو من مصادر غير مشروعة، لا بد أن العبارة قد جاءت على لسانه دون وعى من جانبه، إذ ربما أعجبه ما فيها من فصاحة أو جمال التشبيه دون وعى بما يمكن أن يترتب على التفوه بها من آثار سياسية لا بد أنه ارتكب أخطاء كبيرة مشابهة أوقعته فى عداوات شخصية مع بعض الرجال المهمين الذين كانوا من الأحوط له ألا يعاديهم. 

كانت نهاية كل ذلك أننا استيقظنا فى صباح أحد الأيام لنسمع عن رصاصات أطلقت عليه وهو فى سيارة محصنة بأشد أنواع الحصانة والحماية من الشرطة، فى شارع من أشد شوارع العاصمة ازدحامًا، أودت الرصاصات بحياته وحياة الضابط الجالس بجوار السائق، الذى كان مكلفًا بحمايته، ونسب الحادث إلى بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة، ولم أتابع ما ذكر فى التحقيقات أو ما قيل فى الصحف عن شخصية الجانى أو دوافعه، إذ إننى كنت مقتنعًا تمامًا- أيًا كان ما ينشر فى الصحف- بأن السبب الحقيقى وراء هذه النهاية المأساوية للدكتور رفعت المحجوب، لم تكن آراؤه ومعتقداته، وما إذا كانت تتفق أو لا تتفق مع آراء ومعتقدات الجماعات الإسلامية، بل كانت السبب الحقيقى قلة حظه من الحنكة السياسية ومن الفهم لطبيعة المرحلة التى كان يقدم نفسه لخدمتها. 

لقد منعته إغراءات بسيطة للغاية كالحصول مثلًا على فيلا فخمة فى الصف الأول من فيلات مارينا من أن يرى الأمور على حقيقتها، وقد كانت هذه فيما أعتقد شيمته دائمًا منذ عرفته، ومن ثم كان رأيى أنه عومل فى حياته المعاملة التى يستحقها، أخذ من الحياة ما كان يطمح فيه بالضبط وانتهت حياته نهاية فيها بعض سمات المهزلة، ما يذكرنى بمنظره وهو يخطب فينا فى قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة، عندما كان يتظاهر بالبكاء وهو يحاول أن يتملق رجال السلطة فى الوقت نفسه الذى يتألم فيه الجميع من هزيمة عسكرية شنيعة.

حسين كامل بهاء الدين.. مسئول أساتذة الجامعة لمنظمة الشباب

تحدث أحد أساتذة كلية حقوق عين شمس مع جلال التى التحق بها مدرسًا للاقتصاد بمجرد عودته من البعثة إلى لندن، أخبره بأن هناك شخصًا مهمًا يريد أن يقابله، كان هذا الشخص هو الدكتور حسين كامل بهاء الدين، الذى صار وزيرًا للتعليم بعد هذا بسنين كثيرة، وفى مناخ سياسى مختلف، مسئولًا فى ذلك الوقت عن منظمة الشباب التى كان النظام قد أنشأها لتكون كوادر ثورية ومؤمنة بأهداف ثورة يوليو، وكان هذا المسئول قد طلب من زميل لجلال بكلية الحقوق تعريفه على من يتوسم فيه الخير من أساتذة الكلية الشبان ويعتقد أن أفكارهم متفقة مع أهداف النظام، وقال له هذا الزميل إنه ذكر اسمه للمسئول الخطير فحدد له موعدًا للمقابلة. 

ذهب جلال أمين لمقابلة حسين كامل بهاء الدين ودار بينهما حديث عن الاشتراكية والرأسمالية، أعتقد أنه لا بد أن يكون قد ترك أثرًا طيبًا لدى بهاء الدين، بدليل أنه أصر على توصيله بسيارته من مكتبه بجاردن سيتى إلى مسكن جلال بالمعادى. 

صحيح أن بهاء الدين طوال هذه الرحلة لم ينبس ببنت شفة لسبب لم يفهمه جلال إلا أنه لم يبد له أن هناك أى سبب لأن يرفض أن يعهد إليه بمسئولية ما فى منظمته. 

ثم فاجأ جلال زميله بالكلية بإخباره بأن المسئول الكبير قال له إنه لا يصلح للعمل معهم لأن له تاريخًا وأنهم يريدون أشخاصًا بلا تاريخ.

تأكد جلال بالفعل أن هذا ما يريدونه، إن كثيرين ممن استعانوا بهم فى تلك الأيام والأيام التالية كانوا من النوع الذى لا يؤمن بأى شىء على الإطلاق، ألقوا محاضرات على الشباب فى الاشتراكية فى ذلك الوقت، أى فى منتصف الستينيات، ثم ألقوا محاضرات وكتبوا مقالات فى التنديد بالاشتراكية فى السبعينيات، وأصبحوا وزراء فى الثمانينيات أو التسعينيات.

خطيئة رجاء النقاش فى حق نجيب محفوظ 

تعود جلال أمين أن يكتب ما يراه ويعتقد أنه صواب مهما كان مختلفًا به عن الآخرين، ومهما كان صادمًا لهم. 

 رجاء النقاش نافق مبارك عندما كتب أنه لولا الرئيس مبارك ما حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل 

تحدث عن بعض ما كتبه قال: كتبت نقدًا شديدًا لرجاء النقاش، ردًا على مقال له يكيل فيه الثناء على الرئيس حسنى مبارك، بسبب أفضاله على الثقافة المصرية والمثقفين، من بينها حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، إذ لم يكن ليحصل عليها فى رأى رجاء النقاش لولا الرئيس مبارك. 

ضايقنى أيضًا بشدة ما حصلت عليه رواية «الخبز الحافى» للكاتب المغربى محمد شكرى والضجة التى أثارتها أستاذة بالجامعة الأمريكية كانت تقوم بتدريسها للطلبة عندما رأى رئيس الجامعة بحق أن ما فى الرواية من بذاءات يجعلها غير صالحة للتدريس، وكان قد أعطاها لزوجته الأمريكية لإبداء رأيها فيما يعتزم اتخاذه من قرار بمنعها، فكان رأيها أنها هى أيضًا كانت ستمنع أولادها من قراءتها إذا رأتها بأيديهم. 

ضايقنى الدفاع عن مثل هذا باسم حرية الرأى وعبرت عنه فى مقال طويل قارنت فيه بين هذه الرواية ورواية الطيب صالح البديعة «موسم الهجرة إلى الشمال»، التى أراد البعض منع تدريسها بل منع تداولها بالفعل فى السودان بزعم أنها تتناول العلاقات الجنسية بصراحة غير مبررة، وقلت: إن تناول الطيب صالح للجنس مختلف جدًا عن تناوله عند محمد شكرى والابتذال غير موجود عند الأول، ولكنه موجود عند الثانى. 

كتبت، أيضًا، عن سخطى على فيلمى يوسف شاهين «المهاجر» و«المصير» وعلى كتاب السيرة الذاتية ليحيى الجمل «قصة حياة عادية»، بل عن سخطى على كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى» وكل هذه أمثلة يجمع بينها فيما أظن شيوع الثناء على شخص أو عمل أو إصرار الكتاب على تمجيده وتعظيمه، بينما أعتقد أنا أن العكس بالضبط هو الموقف الصحيح. 

وكان من الطبيعى أن يجلب هذا الموقف من جانبى السخط والغضب من جانب المضارين منه، ولكن كان سرعان ما يطمئننى العدد الكبير من القراء الذين يؤكدون لى أننى عبرت بالضبط عما يدور فى أذهانهم منذ فترة طويلة. 

جاءنى هذا التأكيد من بعض من كانوا يعملون مع يوسف شاهين فى فيلم «المهاجر»، ومن كاتب شهير قال لى عندما انتقدت كتاب طه حسين إنه كان يريد أن يقول نفس الشىء منذ وقت طويل ولم يجرؤ على قوله، واتصلت بى صحفيتان شابتان فى صباح ظهور مقالى عن رجاء النقاش لتعبرا فى نفس المكالمة عن فرحهما بأن يجدا- أخيرًا- أحدًا يستطيع أن يقول مثل هذا الكلام.