الله لا يدخل الحرب.. معركة طهران- تل أبيب.. لا هى دينية ولا هى مقدسة

اختارت إسرائيل من اللحظة الأولى أن تصبغ حربها ضد إيران بلون الدين.
فتحت العهد القديم حتى وصلت إلى الإصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين.
وبدأت تقرأ: ودعا يعقوب بنيه وقال: اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم فى آخر الأيام، اجتمعوا واسمعوا يا بنى يعقوب، واصغوا إلى إسرائيل أبيكم، رأوبين، أنت بكرى، قوتى وأول قدرتى، فضل الرفعة وفضل العز، فائرًا كالماء لا تتفضل، لأنها صعدت على مضجع أبيك، حينئذ دنسته، على فراشى صعد شمعون ولاوى أخوان، آلات ظلم سيوفهما، فى مجلسهما لا تدخل نفسى، بمجمعهما لا تتحد كرامتى، لأنهما فى غضبهما قتلا إنسانًا، وفى رضاهما عرقبا ثورًا، ملعون غضبهما فإنه شديد، وسخطهما قاس، أقسمهما فى يعقوب، وأفرقهما فى إسرائيل، يهوذا، إياك يحمد إخوتك، يدك على قفا أعدائك، يسجد لك بنو أبيك، يهوذا جرو أسد، من فريسة صعدت يا ابنى، جثا وربض كأسد وكلبوة من ينهضه، لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتون شيلون وله يكون خضوع شعوب.
توقفت القراءة، ليتم على الاستقرار على اسم العملية العسكرية «الأسد الصاعد».
كان للاسم دلالته، أرادت إسرائيل من اختياره أن تقول للجميع: لا ترهقوا أنفسكم فنتيجة المعركة محسومة لنا، ففى أيدينا نبوءة النبى يعقوب لابنه يهوذا، فنحن دولة قوية تنهض من بين أركان ضعفها لتلتهم فرائسها وتخضع لها كل الشعوب.
وبعد أن تلقت إيران الضربة الأولى التى أسفرت عن اغتيال عدد من قادتها المهمين والمؤثرين، إضافة إلى خسائر أخرى جسيمة فى الأرواح والمنشآت، قررت أن ترفع راية الثأر.
فوق القبة الزرقاء لمسجد «جمكران» فى مدينة قم جنوب طهران ارتفعت راية حمراء مكتوب عليها «يا لثارات الحسين».
طبقًا للمعتقد الدينى الإيرانى الشيعى يرفع أصحاب الدم الراية الحمراء فوق منازلهم، ولا ينزلونها إلا بعد أن يأخذوا بكامل ثأرهم ممن اعتدى عليهم.
رفع الراية الحمراء يعنى إعلان الحرب الشاملة، وقد أخذها الإيرانيون كطقس حربى دينى ممن ثاروا بعد استشهاد الإمام الحسين فى كربلاء.
الرايات الحمراء تلازم الإيرانيين فى مناسبات دينية محددة.
فهم يرفعونها فى شهر محرم ويوم عاشوراء، ليعبروا من خلالها عن حزنهم الشديد على استشهاد الإمام الحسين وأصحابه الكرام فى كربلاء، وكأنها رسالة منهم تؤكد تذكرهم ووفاءهم وعزمهم أن يسيروا على طريقه.
أطلقت إيران على عمليتها العسكرية التى قررت بها الثأر من عملية إسرائيل العسكرية ضدها «الوعد الصادق».
لم تركن إيران إلى الإمام الحسين فقط.
وضعت يدها كذلك على كتف الإمام المهدى المنتظر، الذى يلقبونه بـ«الصادق الوعد»، فهم ينتظرون منه أن يلهمهم القدرة على إقامة العدل والانتقام من المعتدين عليهم.
يتغنى الشيعة فى كل مكان بالمهدى صادق الوعد، وكلنا يذكر الأنشودة التى انتشرت بشكل كبير بعد حرب غزة التى يقول مطلعها «سلام يا مهدى.. يا وعدنا الصادق.. يا صادق الوعد».
الأنشودة التى أنشدها المنشد محمد غلوم، أصبحت بعد ذلك وكأنها الأنشودة الرسمية للمواجهة والمقاومة الرسمية لإيران ومن يسير على نهجها تقول:
معشوقى.. إمام زمانى محبوبى.. إمام زمانى
دنياى دونما لقياك ظلام
يا نور الوجود.. يا عطر الورود.. من قلبى سلام
سلام يا مهدى
يا سيدى عجل.. إنا على العهد
سلام يا مهدى
بـ يا على صحنا.. خذنا.. إنا على العهد
لنا.. قم وعد لنا
متى يا مولانا.. ترانا لقيانا.. متى يا مولانا
سيد الجمعة خذنا قربانا
فى صفوف الأنصار سيدى سجل أسمانا
أنا صغير لكن.. فى الفداء أقتفى خطى كربلا
أنا صغير لكن.. أكبرى الوعى والإبا والولا
أنا صغير لكن.. حلم نصرتى الكبير فى الفؤاد ما بدلا
لبيك يا مهدى
إننا الأنصار جئنا بالوفا على الموعد
لبيك يا مهدى
لك ندعو بدموع الاشتياق يا سيدى
بأبى أنت وأمى لك روحنا نفتدى
متى ترانا ونراك
عهدًا منا أن نصون القيما
عهدًا منا خلف نهج الغلما
عهدًا منا نحفظ الصلاة.. نحفظ الحجاب والقرآن
عهدًا منا إلى الظهور
لك ندخل السرور
عهدًا منا حتى اللقاء
نقتدى بالفقهاء
فى طريق الشهداء
أيا نور الأمل القادم
لك منا البيعة فى الحياة
ذى راية الدين بنا تبقى
قسمًا نحفظها بالقبضات.
لدى كل من إسرائيل وإيران ترسانة أسلحة كبيرة.
وفى مقارنات معروفة ومعلنة- طبقًا لتقارير صحفية وإعلامية متعددة- يمكن أن نعرف حجم التسليح لدى الدولتين.
يأتى الجيش الإيرانى فى المرتبة الـ١٤ عالميًا بين أقوى الجيوش فى العالم، ويحتل الجيش الإسرائيلى المرتبة الـ١٧.
يضم الجيش الإيرانى ٦١٠ آلاف عسكرى فى الخدمة، بينما يضم الجيش الإسرائيلى ١٩٠ ألف عسكرى، وتمتلك إيران فى قوات الاحتياط ٣٥٠ ألف جندى، بينما يصل العدد فى إسرائيل إلى ٤٥٠ ألف مجند احتياط.
فى إيران يبلغ عدد القادرين على الخدمة العسكرية ٤١ مليونًا، بينما يصل العدد فى إسرائيل بالكاد إلى ٣.١ مليون.
تنفق إسرائيل على ميزانية الجيش ٢٤.٤ مليار دولار، وبفارق كبير تنفق إيران على جيشها وآلياتها العسكرية ٩.٩ مليار دولار.
يمتلك جيش الإحتلال الإسرائيلى ٦١٢ طائرة مقاتلة، فى مقابل ٥٥١ طائرة يملكها الجيش الإيرانى.
عدد الدبابات التى تملكها إسرائيل ١٣٧٠، فى حين يصل عدد دبابات الجيش الإيرانى ١٩٩٦، وفى المدرعات تتفوق إيران على إسرائيل أيضًا، فبينما تمتلك إيران ما يقرب من ٦٦ ألف مدرعة فإن إسرائيل تمتلك ما يقرب من ٤٤ ألف مدرعة.
لدى إيران ١٠٧ قطع بحرية منها ٢٥ غواصة و٢١ سفينة دورية و٧ فرقاطات و٣ طرادات، وتملك إسرائيل ٦٢ قطعة بحرية من بينها ٥ غواصات و٤٦ سفينة دورية و٧ طرادات، ولا تملك أى فرقاطات.
فى إيران ٣١٩ مطارًا، وفى إسرائيل ٤٢ مطارًا فقط، والفارق الكبير محكوم بالطبع بالمساحة الجغرافية المتوفرة للدولتين، فمساحة إيران ١.٦٤٨.١٩٥ كيلومتر مربع، ومساحة إسرائيل ٢٢.١٤٥ كيلومتر مربع.
وفى مساحة القواعد الجوية العسكرية يمتلك جيش الاحتلال ١٠ قواعد معلنة، غير القواعد السرية التى لا يعرف أحد عنها شيئًا، وتمتلك إيران ٤٠ قاعدة جوية منها التكتيكية والبحرية والقتالية واللوجستية.
أما عن امتلاك الطائرات المسيرة فإسرائيل تعلن أنها من بين دول العالم الرائدة فى تطويرها، وتمتلك القواعد الجوية الإيرانية أسطولًا متطورًا محلى الصنع من المسيرات.
كل هذه الترسانات المدججة بالسلاح، إلا أن إسرائيل ومن بعدها إيران اختارتا أن يكون السلاح الأول لها فى الحرب هو سلاح الدين، لاعتقاد كل منهما أنه السلاح الأنجح والأنجع والأقدر على بث الحماس فى قلوب المقاتلين، كما هو قادر بنفس الدرجة على حشد المؤيدين والمتعاطفين والداعمين والمناصرين.
تمارس إسرائيل لعبتها المفضلة فى استخدام الدين كعنصر فاصل وحاسم وحاكم فى الصراع السياسى.
أليست دولة دينية؟
أليست هى شعب الله المختار؟
أليست هى الموعودة من الله بأن الأرض لها؟
أليست هى التى يقول عهدها القديم إنها ستصعد وتعلو ويخضع لها كل الشعوب؟
وتمارس إيران نفس اللعبة، لا تزيد عليها شيئًا ولا تنتقص منها شيئًا.
أليس الإيرانيون مسلمين موحدين بالله؟
أليسوا من الأمة التى قال القرآن عنها إنها خير أمة أخرجت للناس.. الأمة الموعودة بالنصر؟
أليس فى اعتقادهم أن الإمام على يناصرهم، فلا يكفون عن الهتاف «يا على»؟
أليس الإمام الحسين يقف فى صفهم، فيستحثونه بندائهم المدوى «يا حسين»؟
أليس الإمام المهدى المنتظر يقف على أعتاب بيوتهم مستعدًا لأن يلبى نداءهم، فيصرخون باكين ومتباكين فى حضرته «سلام يا مهدى.. يا وعدنا الصادق.. يا صادق الوعد»؟
السلاح الدينى جاهز ومستعد وقادر على أن يكون فاعلًا فى المعركة، فلماذا لا يلجأون إليه ويستخدمونه ويقدمونه على غيره من الأسلحة؟
هذا رغم أن الأسلحة العسكرية وتحديدًا الحديثة منها هى القادرة على حسم المعارك وتحديد من المنتصر ومن سيخرج منها مهزومًا؟
فى مخيلة الجنود الإيرانيين مشهد أعتقد أنه لا يفارقهم أبدًا.
أثناء الحرب العراقية الإيرانية «سبتمبر ١٩٨٠- أغسطس ١٩٨٨» كان المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإمام الخمينى يقف بنفسه فى وداع الجنود قبل أن يذهبوا إلى الجبهة، ويضع فى جيوبهم مفاتيح، يقول لهم إنها مفاتيح الجنة التى تتنظرهم، فبمجرد أن ينالوا الشهادة ستكون الجنة جاهزة فى استقبالهم.
وفى دراسة عنوانها «حضور الدين فى الحرب: من تديين الصهيونية إلى تديين الصراع» صادرة عن المركز العربى للدراسات الاجتماعية التطبيقية، يذهب الباحث مهند مصطفى إلى الحاخام «تسفى يهودا كوك» الذى وجَّه نداء إلى طلاب المدارس الدينية طالبهم فيه بالعمل على تحقيق الأهداف اليهودية- القومية، والاستيطان والتجنيد للجيش، باعتبارها إحدى أدوات ترسيخ اليهودية على أرض إسرائيل.
بعد هذا النداء زادت المدارس الدينية العسكرية فى إسرائيل من ١٢ مدرسة فى العام ١٩٨٠ إلى ٣٠ مدرسة فى العام ١٩٩٨.
وجاءت هذه المدارس الدينية العسكرية كحلقة وصل بين الشباب المتدين- الذى يرى بناء على اليهودية أن تعليم التوراة قيمة عليا فى حياته- من جهة، والجيش كقيمة قومية- دينية.
أحد الجنود الذين درسوا فى المدارس الدينية العسكرية قال، فى لقاء مع صحيفة «هآرتس» العبرية، إنه فى كل كنيس تسمع جملة «دولة إسرائيل بداية خلاصنا».
ويضيف المجند الإسرائيلى: الجمهور الدينى وإن لم يكن مؤمنًا بأرض إسرائيل الكاملة، يؤمن بمشروع المستوطنات.
وفى السنوات الأخيرة- طبقًا للدراسة- ظهرت محاولات لتديين المؤسسة العسكرية بالكامل، وجرى أنه كانت هناك محاولة لتغيير افتتاحية نص «يزكور»، وهو النص الذى يتلى فى إحياء ذكرى جنود إسرائيل.
كان النص يبدأ بكلمة «يتذكر شعب إسرائيل».
فقام رئيس الأركان السابق بينى جانتس بتغييره بناء على طلب المتدينين ليبدأ بكلمة «يتذكر الله أبناءه»، على اعتبار أن الأول نص قومى، بينما الثانى نص دينى، وبناء على طلب جماهيرى شكّل جانتس لجنة لفحص المسألة، أوصت بغالبية أعضائها- عدا الحاخام العسكرى للجيش- بشطب كلمة الله من النص والعودة إلى النص القديم.
وفى مارس ٢٠٢٤ نتذكر جميعًا ما فعله الحاخام «إلياهو مالى إلى» رئيس مدرسة «شيرات موشيه» الدينية، حيث دعا إلى قتل جميع سكان غزة بمن فيهم النساء والأطفال، وعلل ذلك بأن هذه هى تعاليم الشريعة اليهودية.
وفى أكتوبر ٢٠٢٤ نشر موقع «سى إن إن بالعربية» تقريرًا يوثق رفض الجنود الإسرائيليين الالتحاق بالخدمة مجددًا.
فى هذا التقرير قال أحد الجنود: الخدمة كانت صعبة للغاية بالنسبة إلىّ، لأن الجو كان يبدو عسكريًا دينيًا للغاية، فقد شعرت بأن جزءًا كبيرًا من الأشخاص الذين كنت معهم يدفعهم الجانب الدينى إلى القتال فى هذه الحرب، وهو الأمر الذى كان غير مريح للغاية بالنسبة لى.
ويذكر المجند الإسرائيلى أن أحد رفاقه من الجنود قال له: إن قتل الفلسطينيين فى غزة بمن فى ذلك الأطفال هو واجب دينى يهودى، لأنهم سيصبحون إرهابيين عندما يكبرون.
الجميع يقاتل تحت اسم الله إذن.
لكن ما لا يعرفه هؤلاء جميعًا، وما لا يعرفه من يناصرونهم أن الله فعليًا لا يدخل الحروب، بل يفعل ذلك البشر.
الحرب بين إيران وإسرائيل حرب سياسية بحتة.
كل منهما لديه أهدافه التى لا يريد أن يتخلى عنها.
كل منهما يسعى إلى توسيع سيطرته ونفوذه وتوسعه وإخضاع الآخرين له.
ظلت إيران لعقود طويلة تحارب إسرائيل بالوكالة من خلال أذرعها التى نشرتها فى عدد من البلاد العربية، حزب الله فى لبنان وسوريا، حماس فى فلسطين، الحشد الشعبى فى العراق، الحوثيون فى اليمن، وكانت إسرائيل تستعين على إيران بالولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها فى الغرب وبعض الأذرع العربية أيضًا.
الآن المواجهة مباشرة، وهو ما يعنى أنه فى أحد جوانبها أصبحت معركة صفرية، كل طرف يحاول أن ينهى الآخر ويخضعه تمامًا، وهو ما يجعل أمر الحرب القائمة صعبًا جدًا، ويعظم من خسائرها ويضخمها، ولن تنتهى إلا بتدخلات دبلوماسية كبرى.
تعرف إيران -كما تعرف إسرائيل- أن الحرب ليست دينية، وليست مقدسة، لكنهما يعلنان راية الدين والقتال تحت اسم الله حتى يخدعا الجميع، لينتظم المؤيدون والأنصار طمعًا فى فضل الله وثوابه ومغفرته، وهى أكبر خدعة نتعرض لها الآن.
لقد طورت إسرائيل أسلحتها، كما فعلت إيران، كانتا تعرفان أن المواجهة بينهما قادمة، وهى مواجهة سيحسمها لصالحه من يتفوق فى امتلاك السلاح وحشد الحلفاء والداعمين، ولن يكون حسمها لصالح من هو أقرب إلى الله، لأن السماء فى مثل هذه الصراعات السياسية تقف على الحياد، تترك الأمر للأسباب، فمن يأخذ بها سينتصر.
هذا هو الأمر كله.
أما هؤلاء المخدوعون بأنها حرب دينية مقدسة، فعليهم أن يفيقوا ولا يتورطوا فى الانجرار إلى أرض ليست حقيقية، فالمتحاربون يخدعوننا بأن الله معهم، وما نعرفه أن الله يكون مع الحق والخير والجمال، وهذه الحرب بصورتها الحالية لا حق فيها ولا خير ولا جمال.