رسائل زينات صدقى إلى الله.. «يا رب ساعدنى.. خلى صاحب الشقة يصبر شوية على الإيجار المتأخر»
 
- كانت تصرف معظم أجرها على الملابس والإكسسوارات ومساعدة أسرتها
- الدنيا أدارت لها ظهرها فى النهاية فلم تعمل حسابًا ليوم تجد فيه نفسها عاجزة عن دفع إيجار شقتها
- لم تكن تذهب أبدًا إلى حفلات وقعدات ومناسبات الفنانين الخاصة
- إذا رأت محتاجًا فى أزمة ممكن بسهولة تعطيه المائة جنيه وترجع البيت سيرًا على قدميها لأنها لا تملك أجرة التاكسى
فى 4 مايو 1912 ولُدت، وفى 2 مارس 1978 رحلت، وبين التاريخين شقت نهرًا من البهجة يسبح فيه جمهورها، يغتسلون فيه من همومهم، ويداوون أحزانهم، وكلما قست عليهم الحياة يتلمسون السعادة فى أفلامها، فى ضحكاتها الصافية وأدائها المنعش وأدوارها المدهشة وتعليقاتها المقطرة بخفة الظل، وربما يحسدونها على نهر بهجتها الدائم وهم لا يعلمون أن صاحبته ملأته من فيض أحزانها ومآسيها، ومن أين لهم العلم، وهم يرون أمامهم امرأة تنثر الفرح أينما حلت، وتوزع ضحكاتها بلا مقابل، وكأنها خُلقت لتضحك، ولتنتزع الضحكات من القلوب!.
ستكون صدمة لعشاق زينات صدقى عندما يعرفون أن صانعة البهجة كانت محرومة منها، منحتنا إياها، واكتفت بدموعها واختزنت آلامها بين ضلوعها متحملة قسوة الحياة فى كبرياء نبيل.
ستة عشر عامًا عاشتها فى أخريات عمرها وحيدة، انفضت عنها الأضواء، خذلها الأصدقاء وتركوها تواجه مصيرها بمفردها، بلا شفقة، وهى التى حملت بين ضلوعها قلبًا كان يسع الجميع. وفى لحظة لم تجد أمامها سوى السماء تشكو إليها، وتطلب من رب العرش العظيم أن يمنحها الثبات، ويحقق أمنياتها البسيطة، وإليه وحده قررت أن ترسل رسائلها بعد أن خذلها البشر!
كيف عاشت زينات صدقى سنوات الشقاء؟!.. إن أقدر من يجيبنا على هذا السؤال امرأة وحيدة، عاشت معها بين جدران بيتها، ولم تفارقها منذ مولدها، وحتى ودعتها إلى مثواها الأخير فى يوم ربيعى حزين. شهادة ميلادها الرسمية تقول إنَّها من رحم امرأة أخرى، ولكن السيدة «نادرة» لا تعرف لها أمًا سوى زينات صدقى، فهى التى أخذتها من شقيقتها طفلة، وتكفلت بتربيتها ورعايتها حتى اعتقد الجميع أنها ابنة زينات صدقى لا ابنة أختها.
المصادفة وحدها هى التى وضعت السيدة نادرة فى طريقى، وقتها «عام 2004» كنت مسئولًا عن الملفين الفنى والثقافى فى البرنامج التليفزيونى الشهير «البيت بيتك»، وحدث أن جاء د. محمد أبوالغار/ الطبيب والمفكر المرموق ليتحدث عن كتابه الجديد «يهود مصر من الازدهار إلى الشتات»، وكان ممن ذكرهم من مشاهير المبدعين المصريين من أصول يهودية زينات صدقى، واتصلت بنا ابنة شقيقتها السيدة نادرة تنفى المعلومة، وتطالبنا بتصحيح هذا الخطأ، ووجدناها فرصة للاحتفال والاحتفاء بزينات صدقى، ورحبت السيدة نادرة، وذهبت إليها فى شقتها بمنطقة عماد الدين، وهى الشقة نفسها التى عاشت فيها مع خالتها طوال عمرها، وتكررت لقاءاتنا بعدها، وحكت لى فيها كثيرًا من الذكريات والمواقف والأسرار عن خالتها، لا سيما سنوات المعاناة التى عاشتها فى أخريات حياتها، وأستعيد كلماتها من شريط التسجيل:

خالتى قعدت فى بيتها ١٦ سنة عاطلة من غير شغل، مع أنَّها كانت بصحتها وقادرة تنزل، وتشتغل، ولم تمرض إلا فى آخر ثلاثة أشهر من حياتها فقط لا غير، وللأمانة فإنها فى خلال الـ ١٦ سنة الأخيرة مثلت فيلمين فقط: «السراب» مع نور الشريف وماجدة، و«بنت اسمها محمود» مع سهير رمزى وسمير صبرى، وقبلهما ظهرت كضيفة شرف فى فيلم «خطيب ماما» مع مديحة يسرى وأحمد مظهر، وبلا أجر مجاملة لصديقتها لولا صدقى منتجة الفيلم، وكان هناك تقليد سائد وقتها بأن يجامل النجوم زميلهم فى باكورة إنتاجه السينمائى، وعلى هذا الأساس مثلًا شاركت خالتى فى بطولة فيلم «حلاق السيدات» مجاملة أو «كادو» لمنتجه عبدالسلام النابلسى، وفى بطولة «الآنسة حنفى» مجاملة لمؤلفه ومنتجه جليل البندارى.
ورغم عشرات الأفلام التى مثلتها خالتى فإنها لم تدخر لنفسها شيئًا، كانت تصرف معظم أجرها على الملابس والإكسسوارات ومساعدة أسرتها، مع العلم أن أجرها كان شديد التواضع، ملاليم بمقاييس نجوم الأجيال الجديدة، يعنى أعلى أجر تقاضته فى حياتها كان ٥٠٠ جنيه فى آخر أفلامها «بنت اسمها محمود» سنة ١٩٧٥، ولما كان الحال يضيق بها كانت تنزل، وتشارك فى حفلات مسارح الشركات والجامعات، تعمل حفلة أو اثنتين، وترجع تقعد فى البيت، ولما أحصيت رصيد خالتى فى السينما اكتشفت أنه يزيد على ٤٠٠ فيلم، لكن الصيت، ولا الغنى كما يقولون، فلوسها صرفتها كلها علينا، وكانت كريمة قوى مع أهلها، وتعطيهم كل ما فى جيبها، ولما مرت بظروف صعبة فى سنينها الأخيرة كانت ترفض المساعدة من أقاربها، لأن عندها عزة نفس عمرى ما شفتها فى حياتى، وكانت دائمًا راضية بنصيبها فى كل الظروف.
وتعطينى السيدة نادرة مثالًا على هذا الرضا الصوفى: «فى العيد مثلًا كانت الناس كلها تأكل اللحمة، وأنا وخالتى ليس فى بيتنا إلا البتنجان، نأكله ببساطة ورضا، ولا تفرق معنا، وبعدها تجرى خالتى إلى حجرتها، وتُحضر الصاجات، وتبدأ بالغناء المرح، وتصر أن نشاركها فيه، وكان لها أغنية ظريفة تقول: راح المال وراس المال. ونرد عليها: ومبسوطين وممنونين. ونضحك من قلوبنا، ونبقى فى منتهى السعادة».

لكن هذه السعادة لم تكن تسد الجوع أحيانًا، ولا تتحول بقدرة قادر إلى جنيهات تسدد أجرة البيت المتأخرة، ولبيت زينات صدقى قصة تستحق أن تُرْوَى: «هذه الشقة- تقول السيدة نادرة - استأجرها نجيب الريحانى لخالتى وقت أن كانت تعمل معه فى فرقته المسرحية، ولما لم تكن خالتى تملك إيجار شقة فإن الريحانى بقلب أب وأخ أكبر أراد أن يساعد ممثلته الصاعدة الواعدة، فطلب من فتحية شريف (بريمادونة) الفرقة وقتها- وزوجة عماد حمدى فيما بعد- أن تبحث لزينات عن شقة بالعمارة التى تسكنها، وكانت على بعد خطوات من المسرح بشارع عماد الدين، حتى يوفر عليها أجرة المواصلات، وكانت فتحية (جدعة)، فلم تهدأ حتى دبرت لخالتى شقة فى العمارة، التى سرعان ما امتلأت شققها بالفنانين، فالدور (اللى تحتنا) سكنته الفنانة ثريا حلمى، والذى فوقنا سكنته الفنانة نجمة إبراهيم. وفى فترة كان من جيراننا فى الشارع نجوم بشهرة فريد الأطرش وإسماعيل ياسين وكارم محمود. وخلال سنوات الشغل كانت خالتى تسدد الإيجار أولًا بأول، لكن فى سنوات الركود والقعود كان الإيجار بالنسبة إليها مشكلة، مع أنَّه ملاليم، ساعات كانت تقعد لمدة ستة أشهر متصلة غير قادرة على دفع الإيجار، فى حين كان صاحب البيت يضغط، ويهددها بالطرد، ومما زاد وغطى- كما يقولون- أنَّ مصلحة الضرائب لم ترحمها هى الأخرى، وقدرت عليها مبلغا جزافيًا، فباعت عفش بيتها لسداد ما عليها من ديون والتزامات!».
«يعنى باختصار، عاشت خالتى مأساة بمعنى الكلمة، ورغم ذلك كانت تحاول إسعادنا بكل طاقتها، دائمًا تبدو متفائلة أمامنا، تضحك وتزهر وعمرها ما بكت قدامنا، مع أنَّى كنت عارفة ومتأكدة أنها تبكى كثيرًا، ولكنها كانت تدخل حجرتها، وتقفل على نفسها، وتقعد تعيط على حالها من غير ما أحد يحس بها أو يأخذ باله، ولما تخرج كنت أعرف من عينيها المنفوختين أنها كانت فى وصلة عياط. كانت «كتومة»، ولا تريد أن تلقى همومها على أحد. ولما كان يصعب علىّ حالها كنت أقول لها: يا طنط ما تروحى نقابة الممثلين، ولا مبنى التليفزيون، وتوريهم وشك علشان يفتكروك ويشغلوك، فكانت تزعل قوى من كلامى، وتقول لى فى عتاب مر: «أنتِ ترضى لى أهين نفسى بعد العمر ده والتاريخ ده. اسم زينات صدقى ده أنا عملته بدمى وأعصابى وعمرى، ولا يمكن أفرط فيه أبدًا. أنا لا ندمانة، ولا زعلانة إنى أعطيت الفن عمرى كله وما أخدتش منه حاجة. الناس عارفه تليفونى وعنوانى واللى محتاجنى يطلبنى. إنما أنا عمرى ما أنزل أتسول دور، ولا أقول لهم أنا آهه». خالتى كان فيها طبع يمكن هو سبب مأساتها، وهو إنها كانت تفصل تمامًا بين بيتها وشغلها، لم تكن تذهب أبدًا إلى حفلات وقعدات ومناسبات الفنانين الخاصة، لا أعياد ميلاد، ولا أفراح ولا حتى العروض الخاصة لأفلامها، كانوا يقولون لها: لازم تحضرى حفل افتتاح فيلمك، تقول لهم: حاضر، ثم ترسلنى أنا بدلًا منها!.

استيقظت زينات صدقى ذات صباح، وارتدت ملابسها فى هدوء، وأخبرت نادرة أنها ذاهبة إلى حى الأزهر، ولما لم يكن عندها تصوير، ولا مواعيد سابقة فإن نادرة أبدت استغرابها لهذا المشوار المفاجئ. سألتها فلم ترد، وغابت زينات ساعتين، وعادت محملة بعدد من المصاحف ذات الحجم الكبير، وعادت نادرة تسألها فى استغراب أشد: إيه المصاحف دى يا خالتى؟.. وجاءتها أغرب إجابة: أصلى أنا شفتهم فى المنام!.
ففى حلم كأنه يقظة رأت زينات صدقى أن فى بيتها مجموعة من المصاحف الضخمة، فلما استيقظت من نومها ذهبت، واشترت المصاحف، بنفس العدد ونفس الحجم، كما اشترت معها عددًا آخر من المصاحف الصغيرة أعجبها شكلها، وكان ضيوفها غالبًا ما يبدون إعجابهم بتلك المصاحف الكبيرة الفخمة، ويطلبون استعارة أحدها، فلا تتردد فى الموافقة، وغالبًا كانت استعارات لا ترد، فلم يتبق عندها فى النهاية إلا المصاحف الصغيرة، التى اكتشفت نادرة فيما بعد أن خالتها تترك بين صفحاتها الطاهرة رسائل إلى الله!.
«ورقة صغيرة كانت تطويها بعناية، وتضعها برفق فى آخر كل سورة تقرأها من المصحف، لم تكن سطورها تزيد على كلمات قليلة: يا رب افتحها فى وشى.يا رب هات لى شغل!.. أما الرسالة الأطول إلى الله، فقد كتبتها زينات صدقى فى لحظة ضيق عارمة من الدنيا وما فيها، ومع ذلك لا تملك حين تقرأها إلا الابتسام أمام عفويتها وسذاجة طلباتها من رب العرش العظيم. إنها تبدأ رسالتها إلى الله بهذه السطور: يارب. يارب تب علىّ من الشاى والسجاير.يارب تكرم نادرة، وتهدى لها عيالها طارق وعزة! بهذه العفوية تكتب إلى الله، لكن الابتسام سرعان ما ينقلب إلى آسى ينفطر له القلب، وهى تطلب من السماء أن تساعدها فى سداد إيجار الشقة المتأخر: يا رب تهدى لى صاحب البيت، ويصبر علىّ شويه فى الإيجار المتأخر. يا رب ساعدنى!».

اختارت زينات صدقى أن تلجأ إلى الله وحده بطلباتها، فاستجاب لإخلاصها ولدعواتها، فوجدت اسمها من بين المكرمين فى عيد العلم قبل عام من رحيلها، وفوجئت بالرئيس السادات يستقبلها بحرارة وحميمية، ويخبرها بأنه من أشد المعجبين بها، ويسألها عن سبب غيابها عن شاشة السينما، ويقول لها بعفوية: «حارمانا منك ليه يا ست زينات؟.. فاكتفت بابتسامة باهتة، يبدو أن الرئيس فك شفرتها بسرعة، وأدرك الأحوال الصعبة التى تعيشها، فسألها فى حنو: نفسك فى إيه يا ست زينات؟، ردت بلا تفكير: نفسى أروح أحج، وأموت فى الحجاز.لكن قبل كل ده عندى بنت يتيمة- تقصد عزة ابنة نادرة- نفسى أجوزها، وأطمن عليها.. وبعدها أطلع أحج، وأقعد هناك أجاور سيدنا النبى!».
وبلطف كتب السادات رقم تليفونه الخاص، وأعطاه لها قائلًا بمودة: «لما تعوزى أى حاجة كلمينى فى التليفون ده.. أنا اللى ح أرد عليكى.. وكل اللى ح تطلبيه هيتنفذ.. وبالمناسبة دى أنا عايز أعزمك على فرح بنتى.. لازم تنورينا.. دى دعوة رسمية منى».
وقبلت زينات الدعوة، وفى الميعاد ارتدت أفخم فستان سواريه فى دولابها، وصحبت نادرة إلى بيت السادات، وفى الحفل الفخم وقعت حادثة طريفة كادت أن توقع الرئيس على الأرض من الضحك، وأترك السيدة نادرة تحكيها بنفسها، وكانت شاهدة عليها ومشاركة فيها: «كانت خالتى ليلتها لابسة فستان سواريه له ذيل طويل، واقتربت من الرئيس، وسلمت عليه وباركت له على زواج بنته، وكنت وراءها مباشرة، وقلت فرصة أسلم أنا الأخرى على الرئيس، وضربت لخمة فدست على فستانها فاختل توازنها، وكادت تقع على الأرض، وبسرعة تلقاها السادات بيديه قبل سقوطها، وبتلقائية شديدة نظرت لى خالتى معاتبة، وقالت بطريقتها الخاصة: «يوه قطيعة.. كنتِ ح توقعينى ع الراجل». وانفجر السادات فى وصلة ضحك طويلة، ثم قال لها: مش معقول يا زينات خفة دمك دى. طب ليه حارمانا من فنك؟.. فردت بنفس العفوية: أنا عارفه بقى يا أستاذ!.. وعادت ضحكة السادات لتجلجل من جديد، فربما كانت المرة الأولى والأخيرة التى يناديه فيها أحد بهذا اللقب.. يا أستاذ!».

الغريب أن زينات صدقى- رغم كل ما كانت تعانيه- فإنها لم تحاول أن تستغل الكرم الرئاسى الساداتى، وكان الرجل مستعدًا لأن يفتح لها كل الأبواب المغلقة، وينتشلها من هذا الضيق، فاكتفت بأن أرسلت إليه برقية شكر تقول له فيها: «السيد الرئيس أنور السادات رئيس الجمهورية.استجاب الله دعائى فأكرمتنى. أسأله تعالى أن يكرمك بطول العمر ذخرًا لبلدنا الحبيب يا صاحب القلب الكبير». ولم تنس كذلك أن ترسل برقيتين لمن تصورت أنهما أسهما فى تكريمها، الأولى إلى د. جمال العطيفى وزير الثقافة والإعلام وقتها تقول له: «شكرى لسيادتكم. دعائى إلى الله أن يمنحكم الصحة يا من جعلك الله سببًا لصحتى». والثانية كانت للدكتور رشاد رشدى رئيس أكاديمية الفنون حينها، شكرته فيها، ووصفته فى برقيتها بأنه «ناصر الفن والفنانين».
ثم عادت لتجلس فى بيتها مع الوحدة والبطالة والفقر، ثم انضم إليهم- وكأنها ناقصة- رابعهم المرض، فقد أصيبت بعلة فى القلب وماء على الرئة، وقررت أن تتحمل الألم فى صمت ورفضت أن تذهب لتلقى العلاج فى المستشفى، ولما اشتد عليها المرض عرضت عليها ابنة أختها- شفقة بخالتها- أن تتصل بالرئيس السادات لإخباره بحالتها وحاجتها لإصدار قرار بعلاجها على نفقة الدولة، وفوجئت بخالتها تغضب وتثور وترفض اقتراحها بشدة، وتحكى لى السيدة نادرة: «قلت لها يا خالتى الريس بيحبك وأعطاكى رقمه الخصوصى.. اتصلى به.. هو مش بنفسه قال لك اتصلى بى لما تكونى عايزه حاجة.. هو فيه حاجة أشد من اللى انتى فيه؟!.. ساعتها بصت لى بغضب وقالت بحسم: لا.. سيبى الريس فى حاله.. اللى عنده يكفيه وربنا يعينه عليه.. كفاية أنه عمل لى معاش استثنائى وبقوا يقبضونى ٧٥ جنيه كل شهر!».

«رجعت تانى أحاول إقناعها- تضيف نادرة-، وقلت لها: طاوعينى يا خالتى وكلمى الريس، ما كل الفنانين بيتعالجوا على نفقة الدولة.. اسمعى كلامى، واتصلى به، وأنا متأكدة إنه بمجرد ما يعرف ح يبعت لك مندوب من رياسة الجمهورية. دى كل مشاكلك بسيطة وممكن تتحل بتليفون منه.. وبعدين هو يعنى ح يجى يعالجك بنفسه؟!.. لكنها أصرت على موقفها بل ازدادت عنادًا، وفوجئت بها مرة تهددنى بجدية شديدة: اقسم إنك لو عملتيها من ورايا ولقيت مندوب من الرياسة جاى يخبط على بابى ح أزحف، وأرمى نفسى من الشباك!.. كانت عزة نفسها فوق أى اعتبار عندها حتى لو ماتت من الجوع وأكلها المرض!».
المذهل أن زينات صدقى كانت تتخلى فورًا عن هذا الحياء والكبرياء إذا ما تعلق الأمر بغيرها، ووجدت أنه فى أزمة، ويستحق الدعم والمساندة، ويمكننا فى هذه الحالة أن نعدّد عشرات الحالات والوقائع التى ضربت فيها زينات صدقى أروع نماذج الجدعنة والشهامة والإنسانية، ويكفى مثلًا أن نروى قصتها مع إبراهيم فوزى، وكان كومبارسًا فى فرقة الريحانى، وكانت زينات هى أكثر نجوم الفرقة تعاطفًا معه، ومع ظروفه الصعبة، حيث بدأ ملحنًا، ولم يجد له حظًا رغم موهبته، فارتضى بالعمل ككومبارس، بل كانوا يستغلونه أحيانًا كساعٍ فى مشاوير لإنهاء بعض الإجراءات أو شراء بعض الاحتياجات.
وحدث أن سافرت الفرقة لتقديم عروضها الصيفية فى الإسكندرية «وكان الريحانى قد رحل قبلها»، وفى أثناء البروفة وقع إبراهيم فوزى على خشبة المسرح مصابًا بأزمة قلبية، ولما كان مقطوعًا من شجرة، وليس له أسرة ولا أقارب، فقد نقلته زينات صدقى إلى المستشفى، وتكفلت بعلاجه ورعايته، ولكنه مات بعد أيام، فاتصلت بأولاد أختها المقيمة بالإسكندرية، وجاءت بهم جميعًا، وقالت لهم: الرجل ده غلبان ومالوش أهل وعايزاكم تعملوا له جنازة محترمة، فجاءوا بكل معارفهم وأصحابهم، وفى أثناء سير الجنازة كانت زينات كلما مرت على مقهى دخلته، وطلبت من الجالسين فيه أن يشاركوا فى مراسم جنازة هذا الرجل الغلبان «اللى مالوش أهل» لينوبهم الثواب، ودفنته فى مدافن تخص أسرتها فى الإسكندرية، وفى نهار اليوم التالى ذهبت إلى المسرح مبكرًا، ومعها عدد من المقرئين، وعملت «ختمة» على روحه، وبمجرد أن توافد نجوم العرض قبل حفل «السواريه»، وبمجرد أن لمحت بديع خيرى وعباس فارس وسراج منير حتى انفجرت فيهم غاضبة: هو علشان كومبارس غلبان محدش يمشى وراه فى جنازته، لكن لو كان يوسف وهبى، ولا محمد عبدالوهاب اللى مات كنتم جريتم على جنازته علشان صوركم تطلع فى الجرايد!
كانت زينات صدقى ضعيفة أمام الغلابة والمساكين، لسبب شخصى تكشف لى عنه السيدة نادرة ابنة أختها وأقرب الناس إليها: «كان والدها رجلًا ميسورًا، وعنده أملاك وثروة لا بأس بها، ولأن كل خلفته بنات فإن أهله طمعوا فى الميراث، واستولوا عليه وتركوا بناته على فيض الكريم، ولأنها ذاقت الفقر والحرمان فى طفولتها بعد موت والدها فإن قلبها لم يكن يتحمل أن ترى شخصًا يمر بضائقة أو احتياج، ولو معها مائة جنيه فى شنطتها- وهو مبلغ كبير جدًا بحسابات زمانها- ورأت محتاجًا أو (رجل غلبان) فى أزمة ممكن بسهولة تعطيه المائة جنيه، وترجع البيت سيرًا على قدميها لأنها لا تملك أجرة التاكسى».
وتحكى نادرة: «خالتى كانت جدعة مع كل الناس، خاصة لو أحد محتاج، يعنى أحكى لك موقفها مع صديق عمرها إسماعيل ياسين، ففى آخر حياته كان يمر بأزمة مالية شديدة، وكان مضطرًا للعمل فى المسرح رغم ظروفه الصحية، فاتفق مع متعهد على حفلات فى لبنان، ولما كلم خالتى علشان تسافر معه وافقت فورًا، وصرفت كل (اللى حيلتها) حتى تجهز نفسها للسفر، ولما راحت بيروت اكتشفوا إن المتعهد نصاب، وإنه استولى على الإيراد كله وهرب، وقعدت فى حيص بيص، ولم يكن معها أجرة العودة، ولا حتى أجرة اللوكاندة التى تقيم فيها، ولولا أن فريد الأطرش كان وقتها فى بيروت، وتدخل ليدفع لها أجر اللوكاندة وتذكرة السفر كانوا حجزوها، وسجنوها.الغريب إنها رجعت عادى خالص، ولا كأن حاجة حصلت، ولم تفكر فى شكوى المتعهد النصاب، ورضيت بنصيبها».
وتحكى: «كان أكثر ما يُسعدها أن تكون سببًا فى سعادة الآخرين، وكنت محظوظة بنصيب من تلك السعادة، كانت مستعدة لأن تصرف كل مليم عندها من أجل إدخال الفرحة على قلبى، يعنى فى حفل زفافى مثلًا قررت أن يكون فى مستوى حفلات ألف ليلة وليلة، فجاءت بعزيز العشرى طباخ الملك فاروق ليُشرف على البوفيه، وإكرامًا لخالتى قررت الفنانة نجمة إبراهيم أن تُخلى شقتها التى تعلو شقتنا لتكون مقرًا للبوفيه والأكل، واتصلت بصديقتها زوزو شكيب: يا زوزو أنتِ عارفه إن نادرة أول فرحتى ونفسى أفرّحها، فياريت تكلمى نجيب بيه يبعث لنا فرقة مزيكا البوليس، و(كانت خالتى سببًا فى زواج ميمى شكيب من نجيب غنيم ضابط الشرطة)، وفوجئنا بفرقتى موسيقى البوليس والجيش معًا فى الشارع، ونظرًا لما كانت تتمتع به خالتى من محبة فى الوسط الفنى فقد حرص الجميع على مجاملتها فى فرحى، كل واحد كان يأتى لعمل نمرته، وينصرف، مطربون وراقصات ونجوم تمثيل، وفى سبوع أولادى كان حفل السبوع يتحول إلى حفل فنى، فى مرة جاء كل نجوم فرقة الريحانى، وكان من بين الذين جاءوا لمجاملة خالتى: زينات علوى، محمد قنديل، عبدالمطلب. وأذكر أنها صرفت تحويشة السنة كلها على حفل السبوع فى شراء الشيكولاتة والمكسرات والأطباق الفضية. لم تكن تحمل للدنيا همًا، وتعيش بمبدأ اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب، فلم تعمل ثروة من الفن كآخرين، لأنها كانت تعمل بمبدأ الفن للفن، المهم أن تعمل فنًا يرضيها ويُسعد الناس.
لكن الدنيا أدارت لها ظهرها فى النهاية، فلم تعمل حسابًا ليوم تجد فيه نفسها عاجزة عن دفع إيجار شقتها، ومع أن قيمة الإيجار كانت جنيهات معدودة، لكنها كانت تحمل لها همًا شديدًا، خشية أن يتراكم عليها الإيجار فيرفع عليها صاحب البيت قضية، ويطردها، وكان هذا الهاجس ينغص عليها حياتها فى السنة الأخيرة منها، فلم تجد إلا السماء تشكو إليها حالها، وترسل برسائلها إلى الله»..
وكأنه قدر ومكتوب على صناع البهجة العظام فى تاريخنا أن تنتهى حياتهم بمأساة، وأن يحصدوا الشقاء بعد أن عاشوا حياتهم يزرعون الفرح، وينثرون الضحكة ويوزعون السعادة. وهكذا كانت نهاية زينات صدقى.. أحد أعظم صُناع البهجة فى تاريخ السينما المصرية
           
                





