الإثنين 22 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

صرة حلبة فى ضهره.. التحليل النفسى لتعبير حماة «قتيلة المنوفية»

المجنى عليها وزوجها
المجنى عليها وزوجها

«اللى يقول كلمة على ابنى تقعد له صرة حلبة فى ضهره» .. فى فيديو منتشر انتشارًا واسعًا على شبكات التواصل الاجتماعى، دافعت والدة المتهم بقتل زوجته الشابة فى قرية ميت برة التابعة لمركز قويسنا، بالمنوفية، عن ابنها بدعوة على كل من قال كلمة اتهام له، فقالت: «اللى يقول على ابنى كلمة تقعد له صرة حلبة فى ضهره»، كلمة أحدثت بلبلة، فبين سائل عن معنى وجود الحلبة فى الدعوة، ومستغرب لصياغتها كليًا، دارت أحاديث واستفسارات، والتقط الحساسون للأدب الشعبى وطرائق تعبيره الخيط، وفيما يخصنى فما من تعبير شعبى أربكنى، وحيّر ذهنى، أنا وصديقات وأصدقاء كثيرين، كما فعلت هذه الدعوة التى أطلقتها حماة القتيلة. 

تداولنا التعبير، أولًا القاصة «علا عبدالمنعم» كانت أول من كتبوا عن مدى أهمية ذكر الحلبة فى الدعوة، ذاكرة النص فى منشور خاص على صفحتها فى «فيسبوك»، وكذلك تداخلت الكاتبة «مى أبوزيد» بذكر عادة نقع الحلبة والترمس للتخلص من مرارتها، والقاصة «إيمان سعيد» التى نبهتنا إلى أن مرارة الحلبة تعنى هنا أن تُمرر عيشة المدعو عليه.. دورناه فى أذهاننا، وعرضناه على كبار السن فى عائلاتنا، واتصلت أنا بأصدقاء فى قويسنا، فما أفاد أحد منهم بشيوع هذا التعبير فى أوساطهم الاجتماعية، ولكنا حصرنا تعابير شبيهة دلتنا على معناه الخبيث الشرير المتوحش. 

بدأنا من السائد والسيار من الدعوات الدالة فى معناها على رد الظلم، أو تفويض الأمر لمستجيب الدعاء، سبحانه وتعالى، «اللى يقول عليا كلمة تقعد له» أو «تقعد له فى عياله» أو «تقعد له فى عينه وعافيته»، وهى دعوة يمكن ورودها فى رد الشر، وفى رد الكلمة الطيبة بمثلها كذلك، حالة مسالمة قد يكون الدافع لها إحساس قائلها بالظلم، مستكينة ليس بها تمنى الشر لذاته أو رغبة فى أذية أحد بلا جريرة. 

نعود لما بدأنا، فقد دار فى أذهاننا أول ما دار مرارة الحلبة، التى لا تزول إلا بالنقع الدائم فى الماء، ففهمنا من الكلمة أنها دعوة بالمرارة على النسل كاملًا، بما أن صرة الحلبة تنز دائمًا المرارة، ولا يخرج منها إلا مرار، وقد عزز لدينا هذا المعنى ورود كلمة «ضهره»، والتى تعنى الظهر، وهو مسكن النسل ومصدره، ونحن نقول فى مدح تصرفات الشخص الرجولية «راجل من ضهر راجل»، ولا يجب أن نهمل فى هذا السياق ما جاء فى القرآن الكريم: «وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى»، فهى هكذا دعوة على النسل، ولكن تعبيرًا آخر شائعًا نبهنى إليه الصديق الكاتب هيثم شرابى، هو «صرة حلبة لا تعطن ولا تنبت» وجهنا إلى معنى مختلف وأكثر شرًا، هو الدعوة بقطع النسل، فالحلبة المصرورة لا تتأثر ولا ينالها العطن، وكذلك الحلبة المصرورة لا تنبت ما لم تُفك وتشم الحبة الهواء، ولذلك ينبت الناس الحلبة فى شاشة، أو فى مصفاة ينالها الهواء.

المجنى عليها وزوجها

حالة نادرة عشنا فيها بعد شيوع هذا التعبير على شبكات التواصل الاجتماعى «تقعد له صرة حلبة فى ضهره»، وهى شهادة ميلاد تعبير شعبى له معنى عميق وشديد الخصوصية، من ناحية النحت اللغوى، ومن ناحية أخرى فهو يشير إلى نفسية قائله العدوانية، فقد اعتدنا على نقل الأدب الشعبى شفاهة من ألسنة الحفّاظ، ولكن فى حالتنا هذه- على افتراض أنه تعبير ابن ساعته- فقد أتاح لنا عصر الصورة والتدوين حضور ميلاد تعبير شعبى- سواء اتفقنا أو اختلفنا على سوء نية قائله، أو حسن نيته- تعبير حى آنٍ يدفع به قائله كل كلمة قيلت عنه أو عن أحد أبنائه خائضة فى سيرته بالذم والاتهام. 

إن التعبير موضوع كلامنا يختلف كذلك عن التعبير المتفاصح المتذاكى الذى يقول «اللهم أعط كل إنسان ما يتمناه لنا»، فهو تعبير مراوغ وأراه غريبًا على مجتمعنا ولغتنا الشعبية ذات الأواصر العميقة مع عاداته، ومزروعاته، والمرتبط ارتباطًا قويًا بحياة الشعب المصرى اليومية، مثل هذا التعبير زرعه التيار السلفى المتأسلم فى لغتنا اليومية، تلك المراوغة التى يتخطاها التعبير الشعبى الحقيقى إلى الوضوح والمباشرة فى أحيان كثيرة.

إن ما قالته المرأة دافعة عن ابنها الاتهام لم يكن زلة لسان وقت الغضب أو الارتباك، وإنما هو شر مكنون أخرجته الأزمة للعيان.