السبت 20 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

التربية الغائبة عن التعليم فى مصر

حرف

ظلت مصر ومنذ زمن سعيها إلى إقامة دولة حديثة، زمن محمد على الكبير، تتعامل مع ملف التعليم باعتباره الملف الأهم فى الحداثة والتحديث، وذلك فى القرن التاسع عشر.

قبل البعثات إلى الخارج والترجمة، كان التعليم الإلزامى هو اللبنة الأولى فى ذلك التحديث، فجميع الأطفال يدخلون المدارس إلزامًا، سواء أكانوا من الذكور أو الإناث، وبصرف النظر عن الدين أو اللون، وهكذا سعى ولى النعم- كما كان يطلق عليه رفاعة الطهطاوى- لتحقيق مبدأ المواطنة الدستورى، سواء قصد ذلك أم لم يقصد، فتراجع التعليم الدينى الأزهرى لتتشكل درجة من درجات الدولة المدنية العصرية فى ذلك الزمان.

وطوال تاريخ التعليم الممتد منذ ذاك الزمان، لم تشهد مصر، رغم المحن وتقلبات الزمن وتغييرات نظام الحكم، خللًا تعليميًا كالذى تشهده الآن، وهو خلل تربوى ومعرفى على نحو صارخ، تجلى ليس فقط فى الحادثة الأخيرة لمدرسة «سيدز» أى البذور «لكن سيدز أشيك فى نظر البعض»، ولكن فى عشرات الحوادث الإجرامية الأخرى داخل المدارس، وداخل المجتمع ككل، وهى حوادث لم تشهدها مصر من قبل، والسبب ذلك التعليم العجيب.

كل دول العالم تحرص على أن يحصل أبناؤها على جرعات تعليمية متشابهة ومتقاربة خلال مرحلة عمرية ما، وذلك حفاظًا على وحدة المجتمع والسلام الاجتماعى بين جميع فئاته، وكذلك لضمان الانتماء الوطنى، وهو ما يشكل فى النهاية قاسمًا مشتركًا أدنى من القيم والمفاهيم بين هذه الفئات.

غير أن مصر ومنذ تحول اقتصادها من اقتصاد إنتاجى إلى اقتصاد ريعى انقلب حال التعليم فيها، بسبب تراجع الإنفاق الحكومى فى هذا المجال، فبات التعليم سداح مداح، وغنيمة ووسيلة للتربح، لكل من هب ودب وأراد أن يكون له «سيما وقيمة» كما يقال، كما بات مرتعًا لكل الراغبين فى التلاعب بالعقول وإفساد الوجدان من خلاله.

كان التزايد المضطرد فى تعداد السكان، إضافة إلى بروز شرائح اجتماعية طفت على سطح المجتمع بسبب الاقتصاد الريعى والمعتمد على المضاربة بالأراضى والعقارات وتحويلات المصريين بالخارج وقناة السويس والسياح.. إلخ، دون وجود إنتاج حقيقى صناعى أو زراعى.. كل ذلك أدى إلى تفاقم مشاكل التعليم وعجز الدولة عن مواجهتها، فتركت الحبل على الغارب لكل من أراد العبث بالمصريين سبيلًا، ولنتذكر الأموال التى ضخها الإخوان المسلمون فى التعليم، والتى ضخوا معها عشرات الأفكار المتخلفة والمعادية للدولة المصرية والمجتمع المصرى والمعبرة عن مصالح الإسلام السياسى المرتبط بالاستعمار الجديد ومشاريعه فى المنطقة، مما جعل الدولة المصرية تخوض حروبًا شتى حفاظًا على الخريطة المصرية ووحدة المجتمع وأمنه واستقراره.

الشرائح الاجتماعية الجديدة، التى طفت على السطح بسبب طبيعة الاقتصاد الريعى وهى شرائح رغوة، لا تعرف من الحداثة والتحديث إلا كل ما هو مرتبط بالمال واستهلاكه، جاءت بمدارسها الخاصة باهظة التكاليف، وهى مدارس على غرار مدرسة «سيدز»، يتشدق أبناؤها باللغات الأجنبية ولا يعرفون اللغة العربية، ولقد كرّست هذه المدارس قيم المال وما حوله من تعالٍ وتباهٍ و«فشخرة» لا تناسب مجتمع قديم عريق كالمجتمع المصرى، وغاب عن التعليم فيها كل ما هو تربوى إنسانى يليق ببلد وضع أسس الضمير البشرى منذ تعاليم الحكيم آنى قبل ٥ آلاف سنة، وظل التحكيم الحكومى الرخيص يبثها فى أبنائه عبر تاريخ مصر المعاصر، وهذه الشرائح وتعليمها الهش الفاسد كرّست ولأول مرة فى تاريخ مصر ما أطلق عليه حسرة وتهكمًا: «بتوع Egypt، وبتوع مصر».

ما حدث فى مدرسة «سيدز» من اعتداء على أطفال ما زالوا يرضعون البراءة، إنما هو عرض لمرض خطير بات متجذرًا فى مصر، وهو مرض التشظى التعليمى، والذى أدى إلى تباين مخل بين أبناء الوطن الواحد فى القيم والمفاهيم وطرائق العيش والنظر إلى الذات والعالم.

التعليم الراهن فى مصر، وبما هو عليه، مصيبة وجريمة، ويحتاج أن يكون الشغل الشاغل لنا جميعًا سواء أكنّا من متعصبى كيميث أو من أبناء اليسار واليمين والليبرالية القديمة قبل ١٩٥٢ والمأسوف عليها، أو حتى من القوميين العروبيين، فالاهتمام بالتعليم هو ألف باء الاهتمام بالوطن والحرص عليه.

لماذا لا نفكر فى تعليم تعاونى، أى مدارس تعاونية لا تستهدف الربح؟ لماذا لا ندعم مدارس الحكومة الفقيرة، التى يتعلم تلاميذها فى ظروف شديدة القسوة؟ ولماذا لا ندعم المعلم والمدرس بما يتناسب مع المتغيرات المعيشية؟.. ولماذا لا نحارب الدروس الخصوصية.. ولماذا.. ولماذا.. إلخ.

علينا التحرك، حكومة وأهالى، لإنقاذ التعليم فى مصر واستعادة التربية الإنسانية الغائبة عن مدارسه.