الثلاثاء 16 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

المثقف والمبدع.. تفكيك الالتباس واستجلاء الحدود الفاصلة

حرف

يشيع فى الخطاب الثقافى العربى التباس واضح بين دور المثقف ودور المبدع، حتى غدا كثيرون يستخدمون الكلمتين كما لو كانتا تعبّران عن الوظيفة نفسها، وعلى الرغم من أن الدورين قد يجتمعان أحيانًا فى شخصية واحدة، فإن هذا التلاقى لا يلغى الطبيعة الخاصة لكل منهما، ولا يختصر الفارق الجوهرى بين العقل النقدى الذى يمثله المثقف، والخيال الجمالى الذى ينتمى إلى عالم المبدع، ومن هنا تبرز الحاجة إلى تفكيك هذا الالتباس، حماية للمشهد الثقافى من الخلط والتشوش.

فالمثقف ليس مجرد قارئ نهِم، ولا صاحب معرفة موسوعية، بل هو شخص يمتلك رؤية تحليلية وقدرة نقدية واعية، تسمحان له بالنفاذ إلى جذور الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية، لا الاكتفاء بسطحها، إنه فرد يملك مشروعًا فكريًا متصلًا بالشأن العام، ويشتبك مع أسئلة المجتمع الكبرى، ويعيد مساءلة أشكال السلطة كافة: سلطة الدولة، وسلطة المجتمع، وسلطة السرديات الجاهزة. ومن هذا الموقع يصبح ضمير المجتمع ووعيه النقدى، ويخوض معركة الأفكار، ويكشف التناقضات، ويقترح رؤى تساعد على بناء مساحة أوسع للحرية والمعرفة. ولا يُشترط أن يكون المثقف فنانًا أو مبدعًا؛ فقد يكون أستاذًا جامعيًا، أو مفكرًا، أو باحثًا يعمل على إنتاج معرفة تؤثر فى الوعى الجمعى.

أمّا المبدع فهو صاحب الخيال الجمالى والقدرة على تحويل التجارب الإنسانية والعاطفية إلى لغة فنية، سواء كانت قصيدة أو رواية أو لوحة أو مقطوعة موسيقية. 

يقوم الإبداع على الحسّ الجمالى والحدس واللغة الفنية، أكثر مما يقوم على التحليل الفكرى أو النقدى، فقد يكتب الروائى عملًا عميقًا دون امتلاك ثقافة فلسفية واسعة، وقد يبدع الشاعر نصًا مدهشًا دون انشغال مباشر بأسئلة المجتمع أو همومه الفكرية. 

فالإبداع، فى طبيعته، تعبير وجدانى وجمالى لا يُشترط فيه امتلاك أدوات المثقف أو مشروعه الفكرى، حتى وإن انطوى بعض الأعمال الفنية أحيانًا على رؤية فكرية أو موقف نقدى يعبّر عن وعى صاحبهما.

وينبع الالتباس بين الدورين من عدة أسباب؛ فالمكانة الرمزية للمبدع تجعل حضوره العام طاغيًا، فيُظن أنه يمتلك معرفة شاملة تتجاوز مجال الفن، كما يسهم الخلط الشائع بين الموهبة والمعرفة فى تصور أن إنتاج عمل فنى دليل على عمق فكرى. ويزداد الالتباس حين يُدفع المبدعون إلى واجهة النقاشات الفكرية والسياسية دون أن يمتلكوا الأدوات التحليلية اللازمة، أو حين تُستدعى نماذج استثنائية جمعت بين الإبداع والفكر، مثل طه حسين والعقاد وإدوارد سعيد وأدونيس، فيُخيَّل للناس أن الجمع بين الدورين هو الأصل، بينما هو فى الحقيقة الاستثناء.

والفارق بين المثقف والمبدع ليس فقط فى طبيعة الأدوات، بل فى الدور والوظيفة. فالمثقف يحلل الظواهر، ويفكك الخطابات السائدة، ويدافع عن قيم الحرية والعدالة والمعرفة، ويتدخل فى الشأن العام من موقع أخلاقى مسئول. 

أما المبدع فيخلق عالمًا جماليًا جديدًا، ويوسّع إمكانات اللغة والخيال، ويضىء الجوانب الخفية فى التجربة الإنسانية، ويسهم فى ترقية الذائقة الجمالية للمجتمع. 

وتكمن أهمية التفريق فى أن الخلط بين الوظيفتين يؤدى إلى إرباك التقييم، وتحميل المبدع ما لا يقدر عليه، ومنح المثقف قيمة فنية ليست من أدواته، وانتشار ظاهرة «النجومية الثقافية» المعتمدة على الشهرة لا على القيمة، وضياع المعايير التى تميّز بين العمل الفنى والعمل الفكرى.

ومع ذلك قد يجتمع الدوران فى شخصية واحدة، حين يمتلك المبدع رؤية معرفية عميقة، أو حين يقترن الخيال الفنى بجهد فكرى طويل، وفى هذه الحالة يصبح التأثير أوسع، لأن الفن يكتسب عمقًا، والفكر يكتسب حرارة ودفئًا. غير أن هذا التلاقى ليس قاعدة، ولا ينبغى أن يتحوّل إلى معيار يُقاس عليه الجميع.

يحتاج المجتمع إلى المثقف كما يحتاج إلى المبدع، وإلى العقل النقدى كما يحتاج إلى الخيال الجمالى، وحين ندرك الحدود الفاصلة بين الدورين، يصبح المشهد الثقافى أكثر وضوحًا واتزانًا، وأكثر قدرة على قراءة ذاته فى مرآة الفن والفكر معًا، دون أن يطغى أحدهما على الآخر، ودون أن يُحمَّل أىّ من الوظيفتين ما لا يدخل فى طبيعتها. 

ومن هنا تبدأ القراءة الناضجة لكل حضور ثقافى، ولكل صوت يسهم فى تشكيل وعى المجتمع وجمالياته.