2067.. كتابة التاريخ عبر مائة سنة على غير المألوف
- من الصعب بل والمستحيل زحزحة الحاكمين باسم الله
يمكننا التخمين مع عنوان الرواية، حينما نكتشف أن نص الرواية تقع أحداثه خلال مائة عام على هزيمة أربكت البلاد والعباد، وجرت خلفها ويلات وتغييرات حادة فى الواقع المصرى «1967-2067» هل هى رواية تاريخ؟

هى رواية تاريخ بشكل ومحتوى مختلف تمامًا عما قرأناه من أعمال روائية تتخذ من الأحداث التاريخية المعروفة والمثبوتة بالكتب، هذا نص روائى يقدم لنا التاريخ فى قرن من الزمان مر بالبلاد من خلال حركة وصراع أشخاص من لحم ودم، قد لا يذكرهم التاريخ الرسمى المكتوب، ولكن الواقع وأحداثه يفرزان تاريخه، والكاتب الواعى هو من يفتح أبواب إبداعه على حركة الأشخاص الذين اختارهم على أرضية هذا الواقع فى تلك المدة الزمنية والمكانية أيضًا لإنشاء نص يواجهه القارئ، هنا يتحقق ما يبغيه الفن من تأثير، فلا شك أن المكتوب يمثل مفاجآة لدى أى قارئ، لأنه يكتشف كأنه ينظر فى مرآة، فيرى نفسه داخل هذه الأحداث كأحد أبطالها، يحضرنى هنا قول دريدا: «العمل الذى يحافظ على شروط النوع ليس فنًا»، هل يمكننا أخذ القول إلى منتهاه؟ يمكننا هذا، ونحن فى حضرة نص خارج المألوف والمعتاد، نص يصنع شكله الذى لا يمثل الماضى- كما تفعل معظم النصوص المرتكزة على التاريخ- بل يشق طريقًا له وحده، التاريخ الشخصى لأفراد من المجتمع يمكننا من مقابلة التاريخ العام للبلاد، والاطلاع على تأثير الأحداث الكبرى، وكذا الصغرى على مصائرهم، بعد مائة عام من الأحداث كيف يكون الإنسان الذى عاصر أربعين سنة من هذا القرن فى علاقاته، ونظرته إلى كل شىء حوله؟
كل شىء معقد، مثل أى شىء طبيعى، الماضى والمستقبل يكونان موجودان معًا، لا غلبة لواحد عن الآخر، والحاضر هو نقطة الارتكاز بينهما؟ بمكر فنى قبض عليه سعد القرش بتمكن من خلال هذا التكنيك تأتى فزعة فيروس كورونا، وموت والد رشيد بسببه، ولعل، بل أكيد سيعود القارئ بذاكرته إلى أيام الفزع التى سببها هذا الفيروس، خذ مثلًا آخر على براعة التكنيك القرشى الذى يجعل الماضى تاريخيًا يحضر فى الحاضر، ويمتد فى كثير من الوقائع إلى المستقبل، الماضى يبرز بقوة أيام ثورة يناير ٢٠١١، وخاصة ما أطلق عليها جمعة الغضب، وما حدث فيها من قتل للثوار وإهدار كرامة البعض الآخر منهم، يظهر كل هذا عند مرور النص بحياة والد الشخصية الرئيسية «سونهام»، وكذا والد رشيد «الشخصية الرئيسية مع الأولى» عندما يعرج النص إلى فترة حكم الإخوان، وما أحدثوه فى الواقع السياسى، الذى يكتشف الشعب المصرية مدى سوء قدرتهم، وإعلان رأيه فى أن حكمهم بمشاعر يائسة إذ كان يرى استحالة زحزحة الحاكمين باسم الله لو تمكنوا، والذى كان يؤمن بأنهم لن يخرجوا إلا بثمن باهظ «تكلفة دماء يحسبونها فى سبيل الله.. لو خالفتهم فأنت عدو الله. وباسم الله يحشدون الناس للفتك بك».

يبدو أننا إلى هنا بهذا المسار نتهم النص بتوليد مشاعر اليأس والتشاؤم والإحباط، لكنه على العكس تمامًا، فالقرش حافظ على أسلوب كتابى يتميز بالسهولة واليسر، على الرغم أن الواقع المحيط بشخصيات العمل تحيطهم الكاميرات فى كل الأماكن، وأصبح فى ٢٠٦٧ استخدام التكنولوجيا بديلًا عن المخير قديمًا هو صبغة وصرعة العصر، النص أيضًا لديه وفاء لتكنيكه الذى سبق أن تحدثنا عنه «التاريخى بصيغة جديدة خارج كتب التاريخ» فيتجاوز الآباء إلى الأجداد، فيقدم لنا محطات تاريخية أبعد مثل ثورة ١٩٥٢، والحرب الأمريكية على العراق، وقصف بيروت والتدمير الإسرائيلى لجنوب لبنان، وإلى أشكال من الاستغلال الاستعمارى للشعوب المستضعفة، إلى حد يجعله يستذكر عمران؛ جد رشيد الذى كان أحد الناجين من فرقة العمال المصرية التى هلك معظمها، والتى استخدمها الجيش البريطانى فى الحرب العظمى. كأن النص الروائى نفير استيقاظ لذاكرتنا، على هذا الماضى، وعلى المستقبل عند نهاية سنة، وكأننا فى جحيم دانتى، ولكنه جحيم من نوع معاصر جدًا، ٢٠٦٧ سوف تصل سيطرة التكنولوجيا إلى مدى خطير، فى هذا الزمن المستقبلى، تتعانق التكنولوجيا المتقدمة مع مظاهر الحياة اليومية. فى هيمنة مُحكمة، يبرز بوضوح زمن ديستوبى بمعناه الخبيث، يسيطر عليه ذباب الكاميرا العشوائى، باعتباره حارسًا شخصيًا للسلطة المطلقة، يصنع فى معامل البيولوجيا ليكون مخلبا للقبضة الأمنية. ترصد إدارة الكنترول المسئولة عن هذا الذباب أدق التفاصيل، حيث تشتغل هواتف الناس وهم يسيرون فى الشوارع، أو يركبون السيارات برنينٍ موحد يخترق الآذان، وحيث تتركز الأعين فى مراقبة المنخرطين فى فعاليات الحياة اليومية، يصير الانزلاق نحو الأمنيات الفاضلة عابرًا لحدود المسموح، فالرنين «الهاتفى الأفندينى» نسبة لهذا المتحكم السلطة، حيث إنه لن يسمح بانفلات المعارضين والمتمردين، أولئك الذين يحملون أملًا فى كسر الجدران الخانقة.
هنا يمكننا من تفسير الجمل الأولى التى نقرأها فى بداية نص الرواية «فى توقيت واحد يخرج (الآليون). لا قدرة لأحد عليهم. لا تمنعهم إلا صاعقة، أو انفجار كبير وقع مثله قبل أربعين سنة. مغامر فى إدارة الكنترول يستطيع إطفاء حرائق الدماء، بتعديل البرمجة، ليصيروا أكوامًا من لحم، كلٌ يحتضن سلاحه الأخرس».
هل يأتى افتتاح محل «أنتيكا» كنوع من جمع ما خلفته الأحداث والثورات التى حدثت عبر تاريخ النص الروائى، وفى الواقع أيضًا حلًا لكل أهوال هذا القرن، وما وصلت إليه القبضة الأمنية؟!
فى نهاية تشبه الشعر ينهى القرش نصه، وهو على يقين من أن الحلم بفرصة أخرى للتغيير، هو المفتاح للاستمرار فى الحياة، مع تلك الحكمة «الأهم من الثورة هو نضج شروط نجاحها. سوف تتراكم الاستجابات فى مواجهة الحماقات والتحديات».