البوكر.. ما الذى تكشفه المسابقة عن خريطة الرواية العربية؟
- الروايات المرشحة للبوكر تُسائل التاريخ وتفتش فى النفس الإنسانية وتعيد قراءة المجتمعات فى زمن لم يعد يقبل بالقصص البسيطة
- اختيارات القائمة الطويلة تكشف عن تنوع الأساليب والابتكارات السردية.. وتؤكد حرص الروائى العربى على تفكيك الواقع وإعادة تخييله
لا تنبع أهمية «الجائزة العالمية للرواية العربية» «البوكر العربية» من كونها تُسلط الضوء على بعض الأسماء الروائية، سواء فى لحظة انطلاقة كبرى أو بوصفها اعترافًا متأخرًا بجهد طويل، ولا تُختصر قيمتها فى المقابل المادى الذى يناله من يبلغ القائمة القصيرة أو يحصد اللقب. الأهم من ذلك كله أن لحظة الإعلان عن الجائزة تتحول، عامًا بعد عام، إلى مرآة واسعة للمشهد الروائى العربى، تكشف تنوعه، وأسئلته، ومسارات تطوره، وتقدّم للقارئ فسيفساء حيّة لما يشغل الرواية العربية فى زمنها الراهن.
يبدو أن هذا الوعى بدور الجائزة فى المشهد الثقافى العربى حاضرٌ لدى القائمين عليها؛ إذ صاحب الإعلان عن اختيار 16 رواية من بين 137 مشاركة، يوم الإثنين الماضى، تأكيد رئيس لجنة التحكيم، الناقد التونسى محمد القاضى، أن هذه الأعمال تمثل «صورة مصغّرة من المشهد الروائى العربى المعاصر فى تنوعه وثرائه».
بهذا المعنى، تبدو القائمة الطويلة كأنها رواية كبرى عن حال العالم العربى، تتوزع فصولها على أقطار مختلفة، بين الماضى السحيق والواقع المأزوم والمستقبل المتخيَّل. ومن هنا، تأتى الخيوط الجامعة بين مختلف الانشغالات والهواجس الحاكمة لمخيلة الكتّاب العرب تعبيرًا عن قلقٍ جمعى، وأسئلة كبرى لم تجد بعد إجاباتها، بقدر ما تكشف عن وعىٍ مشترك بزمنٍ مضطرب تحاول الرواية تفكيكه وإعادة تخيّله.

خريطة متنوعة
تكشف القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية هذا العام عن خريطة سردية متنوّعة تجمع بين أسماء رسّخت حضورها وأخرى تظهر للمرة الأولى، إذ ضمت القائمة أربعة مرشحين من مصر، وثلاثة من الجزائر، إلى جانب كتّاب من سوريا ولبنان والمغرب وتونس والعراق وعُمان واليمن والسعودية. ويبرز داخل هذا التوزيع توازن لافت بين الأسماء التى سبق ترشيحها مثل عبدالوهاب عيساوى وسعيد خطيبى وأمين الزاوى وعبدالمجيد سباطة وأميمة الخميس، وبين الوجوه الجديدة التى تدخل المنافسة لأول مرة.
وقد ترأس لجنة التحكيم هذا العام الناقد والباحث التونسى محمد القاضى، والكاتب والمترجم العراقى شاكر نورى، والأكاديمية والناقدة البحرينية ضياء الكعبى، والكاتبة والمترجمة الفلسطينية مايا أبوالحيات، إلى جانب الأكاديمية من كوريا الجنوبية؛ ليلى هى وون بيك.

تشريح التاريخ
منذ سنوات بدا الاهتمام بالرواية التاريخية جليًا لدى عدد من الروائيين العرب، فى عودة استهدفت البحث عن جذور الأزمات وأساس المشكلات. توحى الاختيارات الموجودة فى قائمة جائزة «البوكر العربية» بأن هذا الاهتمام بالتاريخ ما زال قويًا، إذ تضم القائمة مجموعة من الروايات التى لجأت إلى التاريخ لتشخيص عِلل الحاضر، حتى وإن لم تكن الرواية بالكامل منتمية إلى تصنيف الرواية التاريخية.
فى هذا الصدد، تقدّم الكاتبة العُمانية شريفة التوبى فى روايتها «البيرق: هبوب الريح»، الصادرة عن دار «الآن ناشرون وموزِّعون» فى عمّان، الجزء الثالث والأخير من ثلاثيتها «البيرق»، بعد «حارة الوادى» و«سُراة الجبل». عبر هذه الثلاثية، تتبع الكاتبة مرحلة شديدة الحساسية من تاريخ عُمان الحديث، وما رافقها من تحوّلات عميقة تزامنت مع الانتقال من نظام الإمامة الدينى إلى حكم السَّلطنة، وما استتبعه هذا التحوّل من صدامات عنيفة وتغيّرات متسارعة فى بنية المجتمع، على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
فبينما رسم الجزء الأول صورة لمجتمع محلى يواجه النفوذ البريطانى، وعمل الجزء الثانى على تفكيك مرحلة «حرب الجبل» بين عامى ١٩٥٦ و١٩٥٩، بما حملته من تعقيدات عسكرية وسياسية، يأتى هذا الجزء الثالث متتبعًا نشأة مقاومة وطنية جديدة، بخلفيات قومية وماركسية، انتهت بدورها إلى الإخفاق فى ظل اختلال موازين القوى.
من خلال الجمع بين مشاهد شعبية تكشف تحولات المجتمع العمانى، ومشاهد من الحياة اليومية تتكشف تحولات المجتمع العمانى من التقليدية إلى الحداثة، وما رافق هذه الرحلة من انكسارات وهزائم.
فى المقابل، يُسائل الروائى العراقى ضياء جبيلى جذور الهوية العراقية من خلال روايته «الرائى: رحلة دامو السومرى»، الصادرة عن دار رشم للنشر والتوزيع، إذ يعود إلى الطبقات الأولى للحضارة فى بلاد ما بين النهرين، ليصوغ رحلة طويلة عبر التاريخ، تبدأ من أفول عصر دويلات المدن السومرية وبزوغ المملكة الأكدية، وتمتد عبر الحضارات البابلية والآشورية، وما تلاها من سقوط واحتلال وغزوات، وصولًا إلى العقد الثانى من الألفية الثانية.
ينقسم النص إلى ستة أسفار، يتبدّل فيها شكل التدوين من الألواح الطينية، إلى الرقوق والبردى، ثم الورق، فالآلة الكاتبة، وصولًا إلى الحاسوب. ومن مدينة سومرية إلى نينوى وغيرها من المدن، تتشابك العوالم الدينية والأسطورية والاجتماعية، ويُعاد تأويل التاريخ القديم.
من جهة أخرى، تأتى عودة الروائى الجزائرى سعيد خطيبى إلى التاريخ فى روايته «أغالب مجرى النهر» فى محاولة لفهم الكيفية التى واصل بها العنف الاستعمارى حضوره داخل المجتمع، حتى بعد الاستقلال.
يؤرّخ «خطيبى» فى روايته الصادرة عن «دار هاشيت أنطوان» فى بيروت لما يقارب نصف قرن من تاريخ الجزائر، ممتدًا من سنوات الحرب العالمية الثانية، مرورًا بحرب التحرير، وصولًا إلى مطلع التسعينيات، محاولًا استكشاف أثر الذاكرة الجريحة على العلاقات الإنسانية، داخل العائلة الواحدة.
أما الروائى الجزائرى أمين زاوى فيستعيد فى روايته «منام القيلولة»، الصادرة عن «دار العين» فى القاهرة، أحداث العشرية السوداء فى الجزائر، من خلال الشخصيات التى تعيش فى وهران والتى تعانى من كوابيس اليقظة. يمتزج العنف السياسى بالإرهاب الدينى والاضطراب النفسى، فى صورة رمزية عن بلد يعانى من صدمة جماعية لم تندمل.
تقدّم الرواية قراءة نفسية واجتماعية للجزائر بعد الاستقلال، مستندة إلى رمزية الشخصيات والأحداث والأحلام، ومُظهِرة كيف يترك العنف التاريخى والسياسى أثره الطويل فى الأفراد، وينتقل بثقله من جيل إلى آخر، فما بين جزائر الاستعمار وجزائر الإرهاب يتشابه الضحايا، ويتراكم القتل والدمار والألم والخوف.
فيما جاءت الرواية الثالثة من الجزائر وهى «حبل الجدة طوما» للكاتب الجزائرى عبدالوهاب عيساوى، والصادرة عن دار تشكيل للنشر والتوزيع، لتنسج شبكة من العلاقات والانتماءات المتغيرة تكشف عن صراع الفرد مع التاريخ والمجتمع، من خلال شخصية محورية هى الجدّة طوما. بدءًا من حكاية صحفى شاب مكلف بإعداد سيرة كولونيل راحل، ومع وصوله إلى بلدة فريجة، تنطلق رحلة ممتدة تاريخيًا بين مارس ١٩٦٢ وخريف ١٩٨٩، وهى فترة شهدت تحولات كبرى فى الجزائر.

ومن سوريا، تأتى رواية «ماء العروس» للروائى خليل صويلح، الصادرة عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر»، لتستعرض فترات مختلفة من التاريخ السورى، بدءًا من منتصف القرن العشرين، مرورًا بانقلابات ١٩٦٣، ووصولًا إلى أحداث عام ٢٠٢٣، لتشكّل هذه التواريخ تسلسلًا للأحداث التى شكّلت حياة السوريين.
تعيد الرواية تشكيل هذه الوقائع من منظور شخصياتها وتجاربها اليومية، لتبرز أشكال العنف والقمع والفقد، ولتكشف عن إرث ممتد من الإذلال والخذلان، مانحةً الذاكرة الجماعية صوتها الخاص داخل النص.
أما رواية «فى متاهات الأستاذ ف. ن» للروائى المغربى عبدالمجيد سباطة، الصادرة عن المركز الثقافى العربى، فتستفيد من التاريخ باعتباره خلفية سردية غنية، إذ توظف أحداثًا ومخطوطات حقيقية، مثل «أرجوزة ابن الياسمين» من القرن الثالث عشر، وسقوط الأندلس، والمكتبات المغربية والإسبانية، لتربط بين الماضى والحاضر، وبين الواقع والخيال، ولتكشف عن تأثير الهزائم الحضارية والمعرفية على الشخصيات والمجتمع.
وفى رواية «أيّام الفاطمى المقتول»، التى تدور أحداثها بين مصر وتونس بعد الربيع العربى، يوظف الروائى نزار شقرون التاريخ لاستكشاف الذات وفهم الحاضر، من خلال رحلة حفيد الفاطميين مختار فى التنقيب عن جذور أسرته. وحسبما أوضح فى حوار سابق له، تتبدّى أهمية الرواية فى قدرتها على نبش التاريخ الثقافى وخلخلة البداهات، ومواجهة القارئ بأسئلة وجودية عن الحرية والفكر النقدى والمصير المحتوم فى زمن يتقلّص فيه حضور العقلانية وتزداد فيه هيمنة الماضويين.
وفى رواية «عمة آل مشرق» للكاتبة السعودية أميمة الخميس يتحوّل التاريخ إلى حكاية حية تمتد قرنًا كاملًا، من أواخر الحرب العالمية الأولى إلى ٢٠١٨. فمن خلال زواج العمّة الجازى من طبيب ألمانى تابع للإرساليات التبشيرية، تُفتح الرواية على أسئلة عن من يملك الحق فى قول الحكاية، وكيف تنتقل القصص من جيل إلى آخر وتتشابك مع عوالم مختلفة وأيديولوجيات متناقضة، ليصبح الماضى مساحة لاكتشاف الأسرار وفهم التحولات الاجتماعية والثقافية فى الجزيرة العربية.

رحلة إلى أقبية النفس
احتلت العوالم الباطنية للشخصيات فى عدد من الروايات المختارة فى القائمة مكانة بارزة، لتستعرض أعماق النفس البشرية بكل تناقضاتها وهشاشتها، ولتكشف فى الآن نفسه عن التناقضات المجتمعية والأنساق الثقافية المهيمنة.
فى رواية «فوق رأسى سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، الصادرة عن دار العين، ثمة رسم لرحلة بطلة تعرضت للاغتصاب فى طفولتها وتحولت إلى قاتلة متسلسلة، يساعدها غراب عجائبى فى التنبؤ بضحاياها. تحيل الرواية إلى مجموعة من القضايا الاجتماعية، مثل آثار التفكك الأسرى وأزمات المنظومة الصحية، وعيادات الإجهاض السرية، وجرائم الزنا، وختان الإناث، لتصبح الرواية قراءة عميقة فى التشظى النفسى والاجتماعى للبطلة وعالمها المحيط.
أما الروائية اللبنانية نجوى بركات فى روايتها «غيبة مى»، الصادرة عن «دار الآداب» فتقدّم قصة امرأة مسنّة فى بيروت تواجه شبح الخرف وفقدان الذاكرة، لتعود بها الذكريات إلى علاقة عاطفية مدمرة مع رجل نرجسى. تلمس الرواية هشاشة الوجود الإنسانى معززة السرد بعمق نفسى يجعل من «مى» مرآة لواقع معقد تعيشه النساء، مرآة كاشفة عن الأنساق الخفية الحاكمة للعلاقات الاجتماعية.
وفى إطار الروايات التى تغوص فى الطبائع النفسية والاجتماعية للشخصيات اليومية، جاءت رواية «الاختباء فى عجلة هامستر» لعصام الزيات، الصادرة عن «دار دوّن»، لتروى حادثة قتل مروعة فى قرية صغيرة بمحافظة الأقصر. ومن خلال شخصيات مألوفة تُسلط الرواية الضوء على التناقضات النفسية للإنسان، وهشاشته أمام التجارب الاجتماعية المحكومة بالفساد والتناقضات.
وفى الاتجاه نفسه، تأتى رواية «عزلة الكَنجرو»، الصادرة عن دار تنمية، للكاتب المصرى عبدالسلام إبراهيم، ففى قرية صغيرة بالأقصر ترصد الرواية عالمًا تحكمه الأعراف والتقاليد، وتثار من خلالها أسئلة حول الحرية الفردية والقيود المجتمعية، لتقدّم صورة لمجتمع مصغر يعانى من عزلة مركبة. وكما تشير بعض القراءات النقدية، لا تكتفى الرواية بتشخيص اغتراب الفرد، بل تطرح سؤالًا أوسع عن إمكانية بناء مجتمع جديد أقل عنفًا وأكثر تصالحًا مع ذاته.
وتحضر رواية «خمسة منازل لله وغرفة لجدتى»، الصادرة عن دار الساقى، للروائى والشاعر اليمنى مروان الغفورى بوصفها رواية اجتماعية فكرية تنشغل بسؤال الإيمان وعلاقته بالحياة اليومية. تستكشف الرواية التوتر بين التدين الشعبى البسيط وخطابات الجماعات الدينية المتنافسة، وتفكك العلاقة الشائكة مستعينة بالسخرية والضحك لكشف هشاشة السلطة الدينية والاجتماعية. ومن خلال صوت الجدة وحكاياتها، تمنح الرواية مساحة لصوت المرأة المهمّش، وتقدّم قراءة إنسانية للتدين بوصفه تجربة معيشة فى مجتمع يتقاطع فيه الدينى بالسياسى والاجتماعى.

تفجير قوالب الحكاية
لا تكتسب الأعمال الأدبية أهميتها فقط من مضمون جرىء قادر على الاشتباك مع الأسئلة والانشغالات الشائكة، فالقدرة على الابتكار فى الأشكال السردية بما يخدم طبيعة المضمون ومرامه لا تقل أهمية، إن لم تكن هى الأهم.
ومن الملاحظ فى القائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية فى هذا العام وجود قدر كبير من التنوع فى الابتكارات السردية، من المزج بين الواقعى والتاريخى والخارق والعجائبى، إلى اعتماد تعدد الأصوات وإطلاق تيار الوعى، وغير ذلك من الألاعيب السردية المشوّقة.
يبرز ذلك على نحو واضح فى رواية «أصل الأنواع» للكاتب المصرى أحمد عبداللطيف، الصادرة عن «منشورات حياة»، إذ يبنى الكاتب عالمًا مستقبليًا لقاهرة على وشك الزوال، إذ يفقد البشر أطرافهم ومشاعرهم فى عملية تطور عكسية. تتحرر اللغة نفسها من علامات الترقيم، فى تجريب يواكب فكرة السيولة.
وفى رواية «الحياة ليست رواية» للكاتب اللبنانى عبده وازن، والصادرة عن «دار المتوسط»، يصبح البطل «قارئًا» يعيش فى الكتب، ويتحول النص إلى مراجعة ميتاسردية لأعمال دوستويفسكى وكافكا وآخرين، مستكشفًا العلاقة بين الحياة والقراءة والكتابة، فى تأمل وجودى.
أما الكاتب السورى خليل صويلح فى روايته «ماء العروس»، فيقدم من خلال السرد المتشظى ما بين مسودات وصور وحكايات، سردية مناهضة للرواية الرسمية للتاريخ السورى، معيدًا الاعتبار للرواة الشعبيين ولضحايا القمع، فيما يرتكز الروائى عبدالمجيد سباطة فى روايته «متاهات الأستاذ ف. ن» إلى لغز معقد يدور حول مخطوط تاريخى ثمين، لتتقاطع الأزمنة والأماكن.
من الجزائر إلى عُمان، من مصر إلى العراق واليمن والسعودية، تكشف هذه الروايات أن الروائى العربى ما زال راصدًا ناقدًا، يحفر فى جروح التاريخ وينفتح على تجارب سردية عالمية، ويجتهد فى ابتكار أشكال تعبر عن تعقيدات واقع لم يعد يقبل بالقصص البسيطة.







