أحمد زكريا الشلق: المواجهة الحتمية.. إعادة الاعتبار للتاريخ الفرعونى فى مواجهة تزييف التاريخ الإسلامى
- يعود الناس دائمًا إلى التاريخ فى الأحداث الكبرى التى تحدث لأى أمة من الأمم؛ سواء كانت كارثة، أو حربًا، أو أزمة سياسية كبيرة، لينظروا كيف حدثت.
- الرواية التاريخية أحد أعرق فنون الأدب وليس من حق الروائى أن يختلق فى التاريخ
- التاريخ هو المعين الذى ينهل منه نقاد الأدب وقُراؤه والمشتغلون به فى وقت الأزمات
- إشكالية الحداثة والتراث تظل قائمة ما دامت لدينا هوية خاصة.. ونحتاج إلى درجة من التوازن فى التعاطى مع التراث
- هناك كتب أساسية لمؤرخين كبار وموضوعيين من القرنين التاسع عشر والعشرين لا بد من إعادة طبعها وقراءتها للأجيال الجديدة.
- لا نستطيع أن نستكشف رؤى مستقبلنا دون أن نكون على دراية كاملة بما حدث فى الماضى
- لا يمكن للحداثة أن تُلغينا أو تسرق هويتنا
- يجب ألا يتحول التراث إلى عبء يعوق التقدم الدرس الأساسى الذى فشلنا فى استيعابه حتى اليوم هو أهمية الاهتمام بالتعليم
- جوهر الحضارة الحديثة يكمن فى التعليم والعلم والمعرفة ولكى نكون عصريين يجب أن يكون تعلمنا قائمًا على العلم والمعرفة
يمتلك المؤرخ أحمد زكريا الشلق مسيرة علمية طويلة وثرية فى دراسة التاريخ المصرى الحديث والمعاصر، امتدت لأكثر من خمسة عقود، أصدر خلالها العديد من الدراسات والمؤلفات التى شكلت مرجعًا أساسيًا للباحثين والمهتمين بالشأن التاريخى والفكرى فى مصر والعالم العربى. كان من أحدث أعماله الكتابان الصادران مطلع هذا العام، وهما: «غواية الثقافة.. إضاءات فى التاريخ والأدب»، و«فى حضرة التاريخ والمؤرخين»، واللذان انضما إلى سلسلة من المؤلفات التى استقصت محطات بارزة فى التاريخ والفكر المصرى، وأضاءت على أهم المفكرين الذين أسهموا فى تشكيل الفكر النهضوى والحداثى فى مصر الحديثة، من بداية القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين، ومنها «الحداثة والإمبريالية: الغزو الفرنسى وإشكالية نهضة مصر»، و«طه حسين: جدل الفكر والسياسة»، و«من النهضة إلى الاستنارة.. فى تاريخ الفكر المصرى الحديث».
يستعرض هذا الحوار مع الدكتور الشلق جوانب من مسيرته ورؤيته للتاريخ المصرى الحديث، ومنهجه فى البحث التاريخى، كما يناقش دور الأدب فى نقل الروايات التاريخية من منظور اجتماعى وثقافى، والطرق التى يمكن من خلالها الجمع بين دراسة التاريخ وتحليل الفكر والممارسة الاجتماعية.

■ رغم انشغالك العميق بحقول البحث التاريخى، ظلّ حضور الأدب واضحًا فى مسارك. كيف تنظر إلى مفهوم الرواية التاريخية فى الأدب العربى وإلى تطوّر هذا اللون السردى منذ القرن التاسع عشر وصولًا إلى جيل نجيب محفوظ؟
- أرى الرواية التاريخية أحد أهم أصناف الأدب وأعرق فنونه. ولها مكانة كبيرة عبر التاريخ. ومن يريد أن يكتب رواية تاريخية كتابة جادة، عليه أن يكون على دراية واسعة بالعصر الذى يتناول أحداثه. فإذا أراد الكاتب أن يكتب رواية عن عصر المماليك، فعليه أن يطّلع على الكتب الأساسية فى تاريخ هذا العصر، لأن التاريخ يمنحه تفاصيل ووقائع وخلفيات تساعده فى صياغة الرواية. إذن فالرواية التاريخية تقوم أساسًا على الوعى بالتاريخ فى مرحلة محددة يختارها الأديب ليبنى عليها عمله الأدبى.
لدينا رصيد من الروايات التاريخية منذ القرن التاسع عشر. فقد بدأت مع كتابات أحمد فارس الشدياق وجيله فى النصف الثانى من ذلك القرن، ثم مع بداية القرن العشرين ظهرت سلسلة روايات تاريخ الإسلام لجرجى زيدان، وفيها روى زيدان تاريخ الإسلام بصورة متسلسلة وبأسلوب روائى. وحتى نجيب محفوظ، حين تحدث عن سيرته فى كتاب «مذكرات نجيب محفوظ» الذى أملاه على رجاء النقاش وصدرت طباعته فى دار الشروق، قال إنه قرأ روايات جرجى زيدان وأعمال أحمد فارس الشدياق.
كان فى الجيل التالى كتّاب كبار كتبوا روايات تاريخية، مثل على أحمد باكثير. وهناك أيضًا من كتب التاريخ فى شكل مسرحيات شعرية، مثل عزيز أباظة الذى كتب «العباسة» وغيرها من المسرحيات الشعرية التاريخية، كذلك قدّم أحمد شوقى خمس مسرحيات شعرية تاريخية مهمة قبل وفاته، ونجد أيضًا أعمالًا مسرحية تاريخية لصلاح عبدالصبور مثل «مأساة الحلاج».

أما نجيب محفوظ فقد بدأ بالفعل بالرواية التاريخية، وكتب ثلاث روايات معروفة هى «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طيبة». وهو يقول فى ذكرياته، إنه كان يخطط لكتابة تاريخ مصر الفرعونية كله فى أربعين رواية، لكنه كتب فقط الروايات الثلاث، واتخذ من التاريخ قناعًا يروى من خلاله الواقع، فقد كان يرى مصر واقعة تحت الاحتلال، فاستعاد عصر الهكسوس ومقاومتهم، إسقاطًا على واقع عصره. لكنه أدرك أن المشروع طويل وقد يستنزفه، فانتقل إلى ما سماه النقاد «الرواية الاجتماعية» وهى أعمال تؤرخ للمجتمع المصرى بين ثورة ١٩١٩ والحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك، لم يتخلَّ نجيب محفوظ عن التاريخ، ففى سنواته الأخيرة عاد للرواية التاريخية وكتب عملًا رابعًا عن إخناتون، وهو رواية «العائش فى الحقيقة»، كما كتب «أمام العرش»، وهى رواية تقوم على محاكمة حكام مصر عبر العصور، وهى عمل ذو بنية تاريخية واضحة.
بل إن نجيب محفوظ، حين كتب أعماله الاجتماعية، كان يؤرخ للمجتمع المصرى بطريقة مختلفة عن كتابة المؤرخين. فالمؤرخ يعتمد الوثائق ويتحدث عن الحكام والحروب والصراعات الاقتصادية والاجتماعية، أما نجيب محفوظ فكان يكتب تاريخ الناس. ولذلك أنصح طلاب الدراسات العليا دائمًا بقراءة الروايات التى تتناول الفترات التاريخية، لأنها لا تقدم اقتباسات بالضرورة، لكنها تتيح للقارئ أن يعيش الفترة الزمنية وسط الناس الذين يكتب عنهم.
■ ما الفارق بين دور الروائى الذى يكتب رواية تاريخية ودور المؤرخ؟ وما حدود التزام الروائى بالدقة التاريخية إذا كان غير ملزم، كما يُقال، بالتقيد الكامل بالوقائع؟
- الروائى لا بد أن يكون ملتزمًا بحقائق التاريخ، وإلا سيكون مزيّفًا أو مختلقًا. وليس من حق الروائى أن يختلق فى التاريخ، فلا بد أن يدرس تاريخ المرحلة التى سيكتب عنها حتى لا يخطئ فى وقائع التاريخ. يمكن للروائى فقط أن يختلق فى الدراما: الحب، والزواج، والطلاق، والصراع الاجتماعى داخل الرواية كيفما شاء؛ فالعالم الروائى كله خلق وابتكار. ومن ثمّ، عليه أن يقرأ عن الفترة جيدًا.

■ بعد عام ٢٠١١ تعزز الاتجاه الأدبى للعودة إلى التاريخ وكتابة الرواية التاريخية بأشكال مختلفة. فكيف تفسّر هذا التوجّه؟
- يعود الناس دائمًا إلى التاريخ فى الأحداث الكبرى التى تحدث لأى أمة من الأمم؛ سواء كانت كارثة، أو حربًا، أو أزمة سياسية كبيرة، لينظروا كيف حدثت الأزمة أو الحرب أو الهزيمة. وهذا واضح جدًا بعد هزيمة ١٩٦٧؛ فعندما تنظرين إلى الإنتاج الأدبى بعدها تجدينه فى معظمه يعود إلى التاريخ، ويبحث عن الهوية، ويحاول أن يتقصّى جذور المشكلة التى أوصلتنا إلى ما حدث عام ١٩٦٧.
والموضوع نفسه تكرّر فى عام ٢٠١١. فالأزمة التى نتجت عن التطور السياسى والحركة الوطنية، هم يسمّونها ثورة، وأنا أسميها موجة من موجات الحركة الوطنية، هذه الموجة التى بدأت فى ٢٥ يناير وامتدت حتى ٣٠ يونيو، كانت موجة كبيرة من موجات الحركة الوطنية. وبعدها لجأ الكتّاب والمؤرخون إلى تثبّت التاريخ، فبحثوا فى النقطة الأساسية: ما هى الهوية الآن؟ وكيف كانت فى الماضى؟
إذن، فحين تحدث لنا أزمات فى الواقع، نعود إلى التاريخ. فالتاريخ هو المعين الذى ينهل منه نقّاد الأدب وقرّاؤه والمشتغلون به.

■ هل مرّت الهوية المصرية منذ هذه اللحظة بإعادة تعريف؟ وإلى أى مدى اختلف التعاطى معها عن طرح طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»؟
- كتب طه حسين عن الهوية أول مرة فى كتابه الشهير «مستقبل الثقافة فى مصر»، ورغم أن الكتاب يتناول الثقافة وتاريخ التعليم وتطوّره، فإن الفصل الأول منه يتحدّث بوضوح عن الهوية: إلى ماذا تنتمى مصر؟ هل انتماؤها إلى العصر الفرعونى؟ أم العصر المسيحى؟ أم العصر الإسلامى؟ أم الحضارة الأوروبية الحديثة؟ وقد ناقش كل هذه المراحل ليصل إلى حقيقة مهمة جدًّا، وهى أن هوية مصر هى مزيج من كل هذه التطوّرات. كل مرحلة تاريخية تركت بصمتها على الشخصية المصرية، حتى أصبحنا على ما نحن عليه الآن. ثم قدّم رؤى لإصلاح الثقافة والتعليم ومؤسّساتهما فى بقية الكتاب. لكن الجزء الأول كلّه كان مشغولًا بقضية الهوية.
أما لماذا كتب ذلك عام ١٩٣٨ تحديدًا؟ فلأن عام ١٩٣٦ شهد دخول مصر مرحلة جديدة بعد معاهدة ١٩٣٦، إذ حصلت على قدر كبير جدًّا من الاستقلال. انسحبت الجيوش البريطانية من أنحاء مصر، وتركّزت فقط فى منطقة قناة السويس. فصار المصريون يقولون: نحن نفتح صفحة جديدة من تاريخنا، وقد نلنا قدرًا كبيرًا من الاستقلال. لذا كان علينا أن ننظر إلى خطوات المستقبل، ولا يمكن أن نفعل ذلك دون أن نلتفت إلى الماضى ونبحث فى الجذور. من هنا بدأ طه حسين فى مناقشة قضية الهوية، ثم قدّم رؤية تاريخية ناضجة لتطوّر التعليم والثقافة فى بقية الكتاب. إذن فهو رجع إلى الماضى فى الفصل الأول، ليتحدث عن الحاضر ومستقبل الثقافة فى الفصول التالية. ونقطة البداية كانت دائمًا الماضى.
لا نستطيع أن نستكشف رؤى مستقبلنا دون أن نكون على دراية كاملة بما حدث فى الماضى؛ فهذا هو التاريخ. ولهذا نجد أن الأدباء الناضجين الذين تركوا تراثًا أدبيًّا مهمًّا قد بدأوا جميعًا بدراسة التاريخ. وتظهر هذه المسألة بوضوح أكبر فى فترات الأزمات أو فترات التحوّل. فإذا اعتبرنا الحركة الوطنية التى جرت فى يناير ٢٠١١ موجة جديدة من موجات التحوّل فى المجتمع، سنلاحظ بالفعل أن كل الإجراءات التى حدثت بعدها، وكل التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى رأيناها، كانت نتيجة هذه الموجة الجديدة التى بدأت فى يناير ٢٠١١.

■ هناك موجة من الاهتمام بالتاريخ المصرى القديم والهوية الفرعونية. من وجهة نظرك، ما الذى يعبّر عنه هذا الاهتمام؟
- هذا الاهتمام برز بشكل أوضح مع افتتاح المتحف المصرى الكبير، لكنه كان ظاهرًا أيضًا فى عشرينيات القرن الماضى، حين اكتُشفت مومياء توت عنخ آمون. فقد أحدث هذا الاكتشاف صدمة ثقافية كبيرة، وأدرك الناس أنّ هؤلاء القدماء كانوا يعيشون فى عالم مختلف تمامًا، وأن تراثهم لا يقتصر على الأهرامات فحسب، بل يضم كنوزًا وآثارًا لا تُحصى. وبدأت حينها حركة واسعة للتنقيب عن الآثار فى أنحاء مصر، وبدأ الأدباء والكتّاب يهتمون بالتاريخ الفرعونى.
كما أنه يشبه ما حدث عند اكتشاف حجر رشيد فى زمن الحملة الفرنسية؛ فقد أتاح الحجر للمصريين قراءة الرموز المنقوشة على جدران المعابد والآثار، بعد أن كان العامة يعدّونها «نقوشًا للشياطين» كما كانوا يسمّونها. وبفضل شامبليون وفكّه للرموز الهيروغليفية، تحوّلت النقوش إلى نصوص قابلة للقراءة، وفتح ذلك الباب أمام إعادة اكتشاف التاريخ المصرى القديم.
■ وفى الوقت الراهن، ما الذى يعبّر عنه هذا الاهتمام؟
- على مستوى الدولة، يرتبط الأمر بازدياد الاهتمام بقطاع السياحة، وباعتبار الآثار ثروة قومية يجب عرضها بطريقة لائقة فى متاحف ضخمة. أمّا على مستوى الأفراد، فقد ظهر اهتمام جديد بالانتساب إلى التاريخ المصرى القديم، وبدأ البعض يقول: «أصلى فرعونى» أو ما يشبه ذلك. صحيح أن عدد هؤلاء ليس كبيرًا، لكن خلف هذا الاتجاه رغبة فى إعادة الاعتبار للتاريخ الفرعونى فى مواجهة التركيز المفرط من بعض التيارات الإسلامية على التاريخ الإسلامى وحده.
فالتهوين من التاريخ الفرعونى كان سائدًا لفترة طويلة، إذ كان معظم المؤرخين القدامى، مثل المقريزى وغيره، يبدأون كتابة تاريخ مصر من لحظة الفتح الإسلامى، كما لو أن مصر لم يكن لها تاريخ قبله. أمّا رفاعة الطهطاوى فكان أوّل من التفت إلى هذا الخلل، فقرأ كتبًا فرنسية عن تاريخ الفراعنة وترجم منها، وكتب مؤكدًا أن تاريخ مصر يبدأ قبل الفتح الإسلامى، وأن الرموز المنقوشة على جدران المعابد ستُفكّ يومًا ما، وتثبت وجود حضارة مصرية كاملة. وقد اتسعت آفاق التاريخ المصرى بفضله، وتغيّرت المفاهيم بعد الاكتشافات الأثرية الحديثة.
إذًا، نحن أمام مسارين: مسار ثقافى يعبر عن رغبة فى تصحيح فكرة أن الهوية المصرية محصورة فى التاريخ الإسلامى، والتأكيد أن مصر صاحبة حضارة عريقة ممتدة منذ آلاف السنين. ومسار اقتصادى- سياحى يعبر عن رغبة فى استثمار هذه الثروة الهائلة لجذب السياحة وتعزيز حضور مصر على خريطة العالم. وقد نجحت الدولة بالفعل، فى السنوات الأخيرة، فى توظيف هذا التراث فى تعزيز صورتها الثقافية والسياحية عالميًا.

■ تحدّثتَ عن ضرورة الموضوعية فى كتابة التاريخ، بينما يميل الكثير من كتابات ما بعد الحداثة إلى أنه لا توجد موضوعية كاملة، وأن التاريخ فى النهاية سردية شخصية. فما هى حدود الموضوعية فى الكتابة التاريخية برأيك؟
- هذا قول فيه شىء من المبالغة. فالقول بعدم وجود موضوعية على الإطلاق مبالغة. صحيح أنه لا توجد موضوعية كاملة، فهناك دائمًا انحياز، لأن لكل شخص انحيازاته، سواء كانت سياسية أو دينية أو غير ذلك. لكن المؤرخ النابه هو الذى يستطيع أن يتجرّد بدرجة كبيرة جدًا من الذاتية، ليكتب تاريخًا موضوعيًّا، لا تاريخًا ذاتيًّا. وكان الأساتذة دائمًا يقولون لنا: نريد حين نقرأ كتابك فى التاريخ ألا نعرف ما هى هويتك، كانوا يريدون القول: اجتهدوا لكى تصلوا إلى أكبر قدر من الموضوعية.
لا توجد موضوعية مطلقة، لكن توجد درجة عالية من الموضوعية يمكن الوصول إليها. ولذلك فالتاريخ الموضوعى الأمين الموثَّق هو الذى يبقى عبر الأجيال. أما التاريخ المنحاز والمنحرف وغير الموضوعى فيُطبع مرة واحدة ويُهمَل، ولا يصبح تاريخًا ولا تراثًا تاريخيًّا.
لدينا كتب تُدرَّس للطلاب منذ قرنين، مثل كتابات الجبرتى أو رفاعة الطهطاوى، لأنها تحتوى على قدر كبير جدًا من الموضوعية. المؤرخون قبل الجبرتى كانوا منحازين للتاريخ الإسلامى بشكل مبالغ فيه، بينما هو كان منحازًا للتاريخ الموضوعى للمصريين، وللأوضاع الاقتصادية والسياسية، فخالف مَن سبقه. وقد أرّخ للناس العاديين وليس للحكام وحدهم، فظهر تاريخ جديد. بل إنه أبدى آراءه النقدية؛ فقد عاصر دولة محمد على وانتقد محمد على كثيرًا. لو لم يكن الجبرتى موضوعيًّا، لكان قد جامل محمد على وأهله، وصار «مؤرخ العصر». لكنّه كتب تاريخًا نقديًّا.
■ فى ظل هذا التشكك فى إمكانية تحقيق الموضوعية، ثمة ميل راهن إلى كتابة «التاريخ من أسفل» الذى يهتم بالمهمَّشين بدلًا من التركيز على الحكّام والنخب. كيف ترى هذا النوع من الكتابة مقارنة بكتابة تاريخ السلطة والطبقات العليا؟
- بدأ الاهتمام بهذا الاتجاه فى مصر من خلال كتابات الدكتور خالد فهمى، فكتابه الشهير «كل رجال الباشا» كان عن جنود محمد على وجيوشه. قبل كتابه، كانت لدينا عدة كتب تنحاز لإنجازات محمد على، فجاء هذا الكتاب ليروى الفترة التاريخية من خلال حياة الجنود، كيف تلقّى الحداثة؟ كيف تعلم، واهتم بصحته وملابسه وتجهيزاته؟ وكيف انتقل من فلاح إلى عسكرى.
مِن بعدها، كتب كثيرون عن العالم السرى للقاهرة: بيوت الدعارة، المستشفيات، الفلاحون. كذلك، كُتب عن طوائف عدّة من الشعب: الشحاذين، العاهرات، بيوت الدعارة.
يكمل كتابة تاريخ المهمشين ما تهتم به الكتابات التاريخية التقليدية، فهى تكشف زاوية أخرى للفترة التاريخية، وتؤكدأن التاريخ لا يصنعه الحكام فقط.

■ عندما يقوم الأدب بمهمة كتابة «التاريخ من أسفل»، أحيانًا بشكل أكثر عمقًا من المؤرخ، هل يمكن اعتباره آنذاك مصدرًا موثقًا لهذا التاريخ؟
- المؤرخ يعتمد على مادة علمية موثَّقة، وإحصائيات، ودراسات خاصة بالموضوع الذى يتناوله. لا يمكن أن يبتعد المؤرخ عن المادة العلمية الموثَّقة والوسائط الأصلية. ليس هناك تاريخ علمى بلاها حتى لو كتب عن الجنود أو الممرضات أو أى طبقة من البشر.
أما الروائى فهو متحرّر من هذه المسألة. حين يكتب الروائى عن التاريخ من أسفل، هو ليس مؤرخًا بل روائيًا، لذلك له حرية أكبر. يمكنه إدخال عناصر درامية، وتصوير صراعات، وشخصيات مركبة، لإضفاء الطابع الأدبى على العمل. الطبيعة الأدبية للرواية تختلف عن الطبيعة العلمية للتاريخ، لذلك الروائى حر فى تشكيل الأحداث وإعادة تركيبها بما يخدم الفكرة الأدبية.
على سبيل المثال، بعض أعمال يوسف إدريس مثل «قاع المدينة» أو «الحرام» تصوّر الناس العاديين فى حياتهم اليومية، وكل ذلك يُعد جزءًا من «تاريخ الناس من أسفل»، أما المؤرخ فملزم بالرجوع إلى وثائق ومصادر محددة لضمان الموضوعية والموثوقية.

■ أوليت جانبًا من مؤلفاتك للحديث عن تاريخ الفكر العربى. فإذا نظرنا إلى تاريخ الفكر العربى من منظور ما بعد الاستعمار، هل يمكن القول إن معظم الأزمات التى مر بها العالم العربى وما زال يواجهها سببها الاستعمار الممتد عبر التاريخ؟
- البعض يميل إلى هذا التفسير، لكننى لا أتفق معه. صحيح أن الاستعمار كان واحدًا من الأسباب الرئيسية للأزمات، لكنه ليس السبب الوحيد. لدينا أيضًا أخطاء كبيرة ارتكبها حكامنا المحليون، وأخطاء فى إدارة قضايا الصراع الاجتماعى والسياسى، التى كان من المفترض معالجتها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
الصراع الحالى فى السودان، على سبيل المثال، هو صراع محلى فى الأساس، رغم أن هناك عناصر خارجية تسلّح كل طرف. لذلك لا يمكن القول إن الاستعمار وحده هو سبب مشكلتهم. هناك أيضًا مسئولية محلية واضحة عن الأخطاء والكوارث التى أدت إلى صراعات دموية دمرت الشعوب.
إذن، الأزمة مركبة، تشمل الاستعمار كعامل، لكنها أيضًا نتيجة لإهمال العدالة الاجتماعية، والصراع على السلطة، والضعف المؤسسى، وكلها عوامل محلية لا يمكن تجاهلها.

■ هيمنت ثنائية الحداثة والتراث على الفكر العربى لعقود طويلة. هل ما زالت هذه الثنائية حاضرة؟ وهل أنتج الفكر العربى بعد ٢٠١١ أسئلة مختلفة فى هذا السياق؟
- سؤال الحداثة لا ينتهى ولا يتوقف. كل يوم هناك تجديد وتغيير وتحديث، وهذا ينطبق على العالم كله. فى الغرب، تجاوزوا مرحلة الحداثة، وبدأوا ينتقدونها وينتقدون توقعاتها، أى أنهم وصلوا إلى مرحلة ما بعد الحداثة، وحتى بعد ما بعد الحداثة، حيث تتغير طبيعة التفكير الاجتماعى والثقافى بشكل مستمر.
بالنسبة لنا فى العالم العربى، لا يمكننا الاكتفاء بما تعلمناه أو ما نشأنا عليه فقط. لا بد من متابعة التطورات العالمية وتعليم الأجيال الجديدة كيفية استيعاب الحداثة، مع تجاوز التقليدية، والانطلاق نحو آفاق جديدة.
أما التراث، فهو مكون أساسى من مكوناتنا الحضارية، لكنه لا ينبغى أن يكون عبئًا علينا. علينا أن نتعامل معه من خلال الدراسات العلمية الأكاديمية، أن نحتفظ بما يفيدنا فى زمننا وفى مستقبلنا، ونتجاوز ما لا يفيد أو يضر. التراث ملىء بأشياء لا يجوز لنا أن نرددها بلا دراسة، أو أن نطبقها حرفيًا فى حياتنا المعاصرة.
إذن، تظل إشكالية الحداثة والتراث قائمة ما دامت لدينا هوية خاصة، لها تراثها وتقاليدها ومصادرها، بينما العالم من حولنا يتقدم ويتطور. المطلوب هو متابعة هذا التطور مع الاحتفاظ بالعناصر القابلة للتجدد من التراث، ونقلها إلى الأجيال القادمة.

■ هل يمكن اعتبار صدام جيل من المفكرين أو الباحثين العرب مع مجتمعاتهم بسبب رغبتهم فى التخلى عن التراث نوعًا من الاستلاب الثقافى؟
- يُنظر إلى هذا النقد القاسى للتراث أحيانًا بوصفه نوعًا من الاستلاب الثقافى، بمعنى الانقياد التام للحضارة الغربية، والانجراف وراء أساليبها ومنجزاتها، دون الانتباه إلى تراثنا وهويتنا الثقافية. لكن فى الوقت نفسه يجب التمييز بين الاستلاب الحقيقى، أى سلب الهوية الثقافية، وبين الإعجاب بالغرب لأسباب علمية أو تقنية أو صناعية، مع الاحتفاظ بالهوية العربية والدين والتقاليد.
المشكلة تظهر حين تتحول هذه الانبهارات إلى تخلى كامل عن عناصر أساسية من التراث: اللغة العربية، الثقافة المحلية، العادات، وحتى الدين.
■ هل يمكن القول إن بعض المفكرين العرب الذين حاولوا نبذ التراث أو التخلى عنه تمامًا، دفعوا الطبقات الدنيا أو الشعوب إلى التمسك بالتراث والهويّة الإسلامية كرد فعل معاكس؟
- نعم، بالتأكيد، هذا حصل كرد فعل معاكس. حين حاول بعض المفكرين الانفصال عن التراث أو نبذه بالكامل، وجدت الطبقات الدنيا أو فئات واسعة من الشعب نفسها مضطرة للتمسك بالتراث والهويّة الثقافية والدينية كنوع من الصمود أو رد الفعل.
نحتاج إلى التوازن، لا يمكن للحداثة أن تُلغينا أو تسرق هويتنا، وفى الوقت نفسه، يجب ألا يتحول التراث إلى عبء يعوق التقدم. المطلوب هو الأخذ من الحداثة ما يدفعنا نحو التقدم، مع الحفاظ على عناصر التراث الأساسية التى تشكل هويتنا الوطنية والثقافية.

■ فى ظل ما يعيشه العالم اليوم من سيولة فى المعلومات يواجه المؤرخ تحديات كبرى فى عصر بات يوصف بما بعد الحقيقة. فكيف يمكن له التعاطى مع هذا الواقع؟
- هذا يجعل مهمة المؤرخ أصعب، لكنه مطلوب منه الالتزام بقيم البحث العلمى الثابتة، والتى لا تتغير مهما تغيرت وسائل الإعلام أو طبيعة المعلومات. تشمل هذه القيم الأمانة العلمية والتوثيق، إذ لا يمكن للمؤرخ أن يكتفى بما يسمعه أو يقرأه على الشبكات، بل يجب الاعتماد على المصادر الموثقة. وكذلك النقد والتفكير النقدى، فأى معلومة لا تُراجع أو يُتحقق من صحتها لا تُقبل. على المؤرخ تفكيك المعلومات، تقييمها، واستبعاد ما لا يمكن التأكد منه، والتحرر من الانحياز الشخصى فحتى فى عصر السيولة المعلوماتية، يجب أن يسعى المؤرخ لأقصى قدر من الموضوعية، مع الإقرار بأن الموضوعية المطلقة غير موجودة، لكن يمكن الوصول إلى درجة عالية منها من خلال الاجتهاد النقدى والمراجعة الدقيقة.
إذا التزم المؤرخ بهذه القيم، يصبح قادرًا على إنتاج تاريخ علمى موثوق، رغم التحديات الحالية، ويحافظ على المصداقية فى زمن يكثر فيه التضليل.
■ هل يمكن أن يتحوّل الذكاء الاصطناعى، مع تنامى الاهتمام العربى به والاعتماد المتزايد على نماذجه، إلى أداة جديدة لإنتاج تمثّلات استشراقية عن العالم العربى؟
- لا أستطيع تصور شكل العالم فى ظل هذه التقنية، وهل ستكون مفيدة للبشرية أم ستقلب كل شىء رأسًا على عقب، فلا يمكننى تقديم تصور نهائى. لكن بشكل عام أعتقد أنه ينبغى علينا متابعة ما يحدث، ومعرفة ما يقوم به الآخرون، ومحاولة الوصول إلى النتائج التى توصلوا إليها، والاستمرار فى المتابعة بعناية. لا يجوز أن نتصرف بجمود أو نرفض الاطلاع والترجمة والمشاهدة والتجربة، فهذا يُعد عمى.

■ فى الوقت الحالى، ما هى الدروس التاريخية التى فشلنا فى مصر حتى الآن فى تلقيها أو معرفتها بشكل جيد؟
- هذا سؤال صعب. أعتقد أن الدرس الأساسى هو ضرورة تحسين تعليم أبنائنا، فنحن لا نحسن تعليمهم إطلاقًا. الطلاب، حتى على مستوى الماجستير والدكتوراه، يسجلون فى الدراسات العليا ولا يعرفون اللغة العربية بشكل سليم، وهذا مؤسف جدًا. تحسين التعليم وتحسين التربية هو جوهر العملية التعليمية.
جوهر الحضارة الحديثة يكمن فى التعليم والعلم والمعرفة، ولكى نكون عصريين، يجب أن يكون تعلمنا قائمًا على العلم والمعرفة، ومتابعة كل جديد فيه. الكارثة الأساسية التى نعانيها الآن هى التعليم نفسه، إذ لم نتمكن حتى الآن من إصلاحه وإعادة تأسيسه على أسس صحيحة.

■ هل ترى أن هناك أحداثًا تاريخية أو مفاهيم تاريخية بحاجة لإعادة قراءتها فى الوقت الحالى لفهم واقعنا بشكل أفضل؟
- نعم، هناك كتب أساسية لمؤرخين كبار وموضوعيين من القرنين التاسع عشر والعشرين، لا بد من إعادة طبعها وقراءتها للأجيال الجديدة. أنا الآن رئيس تحرير سلسلة فى قصور الثقافة اسمها «ذاكرة الكتاب»، ونعيد من خلالها طبع الكتب التى أثرت فى أجيال سابقة.
على سبيل المثال، كتاب «تاريخ التعليم فى مصر فى عصر محمد على» للدكتور أحمد عزت عبدالكريم يوضح كيف أنشأ محمد على مدارس مختلفة، مثل مدارس الطب والهندسة والتوليد، وقدم تعليمًا متقدمًا فى وقته، ومن ثم فإعادة طبع هذه الكتب وتعليمها للأجيال الجديدة يسمحان ببناء فهم أفضل للماضى واستلهام الدروس منه.
تشمل السلسلة أيضًا كتبًا للجبرتى الموجهة للشباب. وقد صدرت سابقًا سلسلة باسم «تراث النهضة» عن الهيئة المصرية للكتاب، وقدمنا فيها بعض الكتب، لكن تم إيقافها، بينما استمر إصدار سلسلة «ذاكرة الكتاب» بشكل منتظم.
نحرص على طبع هذه الكتب بأسلوب بسيط وغير مكلف، بأسعار قريبة من التكلفة الفعلية، لتكون متاحة للجمهور. إعادة هذه الكتب وطبعها وتدريسها للأجيال الجديدة مهمة أساسية لفهم التاريخ بموضوعية، وربط الماضى بالحاضر، والاستفادة من تجارب الأجيال السابقة فى التعليم والمعرفة.

■ هل تعتقد أن الفكر الاستشراقى لا يزال يؤثر على نظرة العالم إلى العالم العربى فى الفترة الراهنة؟
- نعم، ما زال تأثير الفكر الاستشراقى حاضرًا إلى حد ما، وإن كان اختلف شكله وطبيعته عن الماضى. فى الفترة السابقة، كان الفكر الاستشراقى أحيانًا يمهد لعمليات إمبريالية، ويفتح الطريق أمام الاستعمار المباشر أو غير المباشر، لكنه اليوم أصبح أكثر تعقيدًا. بدأت الشعوب تدرك هذا التأثير، ولكن الدراسات التى تُكتب عن العالم العربى من الخارج لا تزال تحمل إمكانية التأثير على وعينا وثقافتنا، من خلال تشكيل فهمنا أو توجيه أفكارنا بما يخدم مصالح الآخرين. لذلك، من المهم جدًا ألا نتعامل مع هذه الدراسات بشكل سلبى أو هجومى بحت، ولكن بوعى نقدى وتحليل دقيق: نقرأ ما يُكتب، نترجمه، ندرس محتواه، ونناقشه، ونرد عليه بحجة وببرهان علمى. هذا النهج يسمح لنا بفهم التأثيرات الخارجية على تصورنا للعالم العربى، ويتيح لنا الدفاع عن هويتنا وثقافتنا دون الانغلاق أو رفض كل ما هو غربى، وفى الوقت نفسه الاستفادة من ما يمكن أن يفيدنا معرفيًا أو ثقافيًا.







