سر الأسرار.. دان براون: التكنولوجيا تتجاوزنا.. ولا نمتلك الأدوات الأخلاقية والنفسية للتعامل معها

- لا يمكنك أن تضع الكثير من الأسئلة فى ذهن القارئ دفعة واحدة
- الجنس البشرى لم يبتكر يومًا أداة أو تكنولوجيا إلا وقام بتحويلها إلى سلاح
بعد غياب دام ثمانى سنوات عن الساحة الأدبية، عاد الكاتب الأمريكى الشهير دان براون، أحد أكثر الروائيين إثارة للجدل والنجاح فى مطلع القرن الحادى والعشرين، بروايته الجديدة «سر الأسرار»، والتى تمثل الجزء السادس من سلسلة مغامرات البروفيسور روبرت لانجدون، وفيها يطرح براون أسئلة تمس جوهر الوعى الإنسانى وحدود العلم، لتفتح الباب أمام جدل فلسفى لا يقل إثارة عن الألغاز التاريخية التى رسّخت شهرته.
منذ النجاح الكاسح لروايته الأشهر «شفرة دافنشى»، عرف براون كيف يصنع مغامرات تمزج بين حقائق تاريخية وأسرار دينية وأساطير فنية، جذبت ملايين القراء حول العالم، وتحولت لاحقًا إلى أفلام سينمائية. غير أن روايته الأحدث «سر الأسرار» لا يكتفى بتكرار الوصفة، بل يختار أن ينقل القارئ من ألغاز الكنائس والمتاحف إلى قلب النقاش العلمى والفلسفى حول طبيعة العقل البشرى.
تبدأ الأحداث فى براغ، العاصمة الأوروبية المرتبطة منذ قرون بالتصوف والخيمياء. هناك يحضر لانجدون محاضرة لصديقته القديمة الدكتورة كاثرين، العالمة المتخصصة فى «علم الإدراك الحسى» الذى يبحث فى الوعى وقدرة الفكر على التأثير فى المادة. لكن المحاضرة سرعان ما تنقلب إلى فوضى دامية تنتهى بجريمة قتل، ثم باختفاء كاثرين ومعها مخطوطتها التى تحمل نتائج بحث قد تغيّر تصوراتنا عن ماهية الإنسان. يجد لانجدون منذ تلك اللحظة نفسه فى سباق محموم لحماية صديقته من قوى سياسية ودينية ترى فى الاكتشاف تهديدًا مباشرًا لنفوذها.

لا يقدّم براون إجابات نهائية، بل يوظف الغموض ليترك القارئ معلقًا بين الشك واليقين، إذ يمزج فى الرواية بين عناصر التشويق المعتادة من رموز وألغاز ومطاردات، وبين بعد جديد يلامس أسئلة كبرى عن حدود العقل، وطبيعة الوعى، ومستقبل الإنسان فى ضوء الاكتشافات العلمية.
يبدو براون فى هذه الرواية متبنيًا بعض الأفكار المثيرة للجدل، التى طالما استحضرها فى نصوصه بوصفها مادة للتشويق، ما يضفى على الرواية طابعًا مختلفًا. وقد أعلنت منصة نتفليكس عن نيتها تحويل رواية «سر الأسرار» إلى عمل درامى ضخم.
وفى حواره مع صحيفة لوموند الفرنسية، تحدث براون عن علاقته المستمرة بشخصية لانجدون، وعن رهانه على المزج بين العلم والفن والدين فى روايته الجديدة، كما تطرق إلى موقع الذكاء الاصطناعى فى عالم اليوم ورأيه فى أثره على الإبداع والكتابة.

■ أنت تقدّم كاثرين، البطلة النسائية فى الرواية، باعتبارها أكاديمية متخصّصة فى علم الإدراك الحسى، غير أنّ هذا التخصّص غير معترف به أكاديميًا. ماذا يمثّل بالنسبة لك؟
- علم الإدراك الحسى «النوطيقا» يأتى من الكلمة اليونانية noetikos التى تعنى «الإدراك»، وهو علم يدرس وعى الإنسان وإدراكنا للعالم من حولنا، إضافة إلى ذلك، فهو يدرس قدرة العقل البشرى على التأثير فى العالم المادى. ومن أمثلته: قوة الدعاء. هل يمكن أن تتغير طبيعة خلايا شخص ما إذا فكّر فيه عدد كافٍ من الناس؟ هذه هى النوعية من الأمور التى يدرسها هذا العلم.
■ هل يقتصر اهتمامك على هذا العلم فقط، أم أنك مهتم بشكل أوسع بالظواهر الخارقة عمومًا، من الأشباح إلى الأطباق الطائرة؟
- أعتقد أنّ كل هذه الأمور مرتبطة ببعضها. بما أن الوعى البشرى هو العدسة التى نرى من خلالها العالم، فأنا أعتقد أنّ ظاهرة مثل الأجسام الطائرة المجهولة يمكن تفسيرها عبر الوعى البشرى. هذا الموضوع يثير فضولى أيضًا، مع أننى متشكك جدًا، ومع ذلك لا أستطيع إنكار وجود كم هائل من الأدلة التى توحى بأن هناك شيئًا ما يزور كوكبنا ولا نفهمه بعد.

■ تجرى أحداث هذه المغامرة السادسة لروبرت لانجدون فى براغ. ما الذى دفعك لاختيار جمهورية التشيك خلفية لروايتك؟
- لقد كنت أحتفظ ببراغ من أجل هذا الكتاب. هذا كتاب رغبت فى كتابته منذ زمن طويل جدًا، براغ هى المركز الصوفى لأوروبا، رودولف الثانى «الإمبراطور الرومانى المقدس وملك بوهيميا، ١٥٥٢–١٦١٢» عندما كان فى السلطة، جلب إلى براغ جميع الوسطاء والسحرة الكيميائيين. أنا أعشق باريس، وكتبت عنها كثيرًا، وسكانها يعرفون جيدًا كيف يخططون لمدينتهم، لكن براغ لها طابع صوفى؛ أزقّتها المظلمة المتعرجة، شوارعها، هناك شىء غامض يحيط بها.

■ إحدى شخصياتك، المحرر الخيالى جوناس فوكمان، المكلّف باستعادة مخطوطة كاثرين، يقول إن «بدء القصة من بدايتها هو أسوأ طريقة لسردها». كيف تتجنب الوقوع فى هذا الفخ؟
- إذا كان هناك حدث ما، عليك أن تدخل إليه متأخرًا قدر الإمكان، وأن تغادره مبكرًا قدر الإمكان. الطريقة التى تجعل القصة مشوّقة هى أن تسأل نفسك: «ما سلسلة الأحداث التى يمكن أن تكون قد حدثت وجعلت لانجدون يرى امرأة حلمت بها كاثرين الليلة السابقة؟» هذا مستحيل، لكن وظيفة الروائى أن يأخذ خطًا زمنيًا ويقطّعه ويعيد ترتيبه ويسرده خارج التسلسل المعتاد بأكثر طريقة ممكنة إثارة للاهتمام. لا يمكنك أن تضع الكثير من الأسئلة فى ذهن القارئ دفعة واحدة. كلما حُلّ لغز يجب أن يظهر لغز آخر. وأنا لا أكتب بشكل جيد من المرة الأولى. ربما كتبت مليون كلمة فى النهاية لأحتفظ بـ٢٠٠ ألف فقط بعد أن ضغطت كثيرًا على زر الحذف. لقد استخدمت العديد من لوحات المفاتيح وأنا أكتب هذه الرواية.

■ «سر الأسرار» هو كتابك وكتاب كاثرين أيضًا. أنت تشيّد كتابًا داخل الكتاب، ومخطوطتها تُكشف تدريجيًا من خلال ذكريات الماضى والخواطر، على الرغم من أننا لا نقرأ سطرًا واحدًا منه. ما مدى أهمية أن تصوغ شكلًا سرديًا يشكك فى شخصية المؤلف نفسها؟
- لقد استمتعت صراحة بهذا. الأمر معقّد جدًا وله مستويات متعددة. ألغاز داخل ألغاز، وأبواب داخل أبواب. أردت أن أُظهر قليلًا من الكواليس فى صناعة النشر. وكان أحد أكبر التحديات: كيف يمكن أن تأخذ مفهومًا مجردًا مثل الوعى وتحوّله إلى رواية إثارة سريعة الإيقاع؟ جرّبت الكثير من الطرق المختلفة، ثم يختفى الكتاب، وهناك من لا يريد لها أن تنشره.

■ كاثرين تؤمن بواقعية الظواهر الخارقة، بينما يظل لانجدون متشككًا فى معظم أجزاء الرواية. هذا الثنائى يذكّرنا بمالدر وسكالى فى مسلسل «ملفات إكس». هل كان ذلك وسيلة لاستكشاف كلا المنظورين باستمرار؟
- هذا بالضبط ما قصدته. يلعب لانجدون دور القارئ المتشكك، وعندما تقول كاثرين شيئًا يبدو جنونيًا بعض الشىء، يكون لانجدون حاضرًا هناك. القراء أشخاص أذكياء ولا يحبون أن يُخبروا بما هو حقيقى.

■ هل يعنى هذا أنك، مثل لانجدون، انتقلت من التشكيك إلى الإيمان؟
- القارئ يتابع تحوّله على مدار الرواية. وهذا يعكس تحولى أنا أيضًا على مدى سنوات طويلة. ما يحدث له فى يوم واحد، استغرق منى سنوات. لكن لانجدون أذكى منى قليلًا. دائمًا ما أقول إنه الرجل الذى أتمنى أن أكونه. إنه يعيش حياة أكثر إثارة، وأكثر جرأة. قال لى أحدهم مرة: لا أفهم كيف تقول إن لانجدون أذكى منك، لأن كل ما يفكر فيه كان عليك أن تكتبه وتفكر فيه، لكن ما يقوله لانجدون بعفوية ومن دون تفكير طويل، أكون أنا قد احتجت للبحث عنه وأخذ أسبوعًا كاملًا حتى أكتبه له.
■ لانجدون لا يحب الأسلحة ويعتمد على عقله لا العنف فى حل الألغاز. إنه ليس جيمس بوند ولا جيسون بورن، بل أقرب إلى «العالم النبيل»، على خطى شارلوك هولمز. هل هذه هى سر استمرارية شخصيته؟
- هذا أمر مهم جدًا بالنسبة لى، فعندما جرى تحويل شفرة دافنشى إلى فيلم، والآن ونحن نصنع مسلسلًا مع نتفليكس، ضمنتُ أن يُكتب ذلك فى العقد؛ لا يمكنه أن يصبح فجأة خبيرًا فى الأسلحة، أو يبدأ بتعاطى المخدرات، أو يُصاب بمشكلة بسبب شرب الكحول، السبب الذى جعلنى أكتب هذا النوع من الأبطال هو أننى نشأت فى حرم أكاديمية فيليبس إكستر، وهى مدرسة هنا فى نيو هامبشر. كان جميع البالغين فى حياتى معلمين. لذلك نشأتُ فى عالم كان أبطالى فيه «المهووسون» بالعلم، أساتذة وطلاب وأكاديميون، يحلون المشكلات بعقولهم. وهناك طرق عديدة لحل المشكلات.

■ رواياتك تعتمد على بحث واسع.. هل غيّر الذكاء الاصطناعى شيئًا فى هذه العملية؟
- نعم، هذا سؤال جيد جدًا. سأبدأ بالقول إن الجنس البشرى لم يبتكر يومًا أداة أو تكنولوجيا إلا وقام بتحويلها إلى سلاح، سواء كان العجلة أو النار أو الحواسيب. الذكاء الاصطناعى أداة هائلة للغاية، لكنه عمره لا يزال قصيرًا، ولا أثق به ليقدّم لى معلومات دقيقة. من الطريف أننى كتبت عن الذكاء الاصطناعى فى رواية «الأصل». لقد صدر ذلك الكتاب قبل ثمانى سنوات، وكان الجميع يقول: «شخصية الذكاء الاصطناعى فى «الأصل» مبالغ فيها، ولو صدر الأصل اليوم، لقالوا: «يا له من ذكاء اصطناعى بائس».
المشكلة مع التكنولوجيا أنها تخلق «قاعة مرايا»، إذ إن كل تكنولوجيا جديدة تصبح أداة لصنع تكنولوجيا أخرى جديدة. فنحصل على نمو متسارع بشكل هائل. والتحدى الآن أن التكنولوجيا باتت تتجاوز فلسفتنا، نحن كالأطفال نلعب بالقنابل اليدوية، لا نمتلك الأدوات الأخلاقية والنفسية اللازمة للتعامل مع ما نصنعه.
