الإثنين 15 سبتمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

تاريخ موجز للغباء.. ستيوارت جيفريز: نحيا فى العصر الذهبى للحماقة

حرف

- دونالد ترامب وإيلون ماسك وفلاديمير بوتين ونايجل فاراج وبوريس جونسون هم سادة تضليل العقول فى زمن ما بعد الحقيقة

- الكتاب خرج من رحم جائحة كوفيد.. وما شهدناه من عدم احترام العلم وهو نوع من الغباء آخذ فى التنامى

ما الذى يعنيه الغباء؟ وكيف تغيّر حضوره بين الماضى والراهن؟ وإلى أى مدى يمكن قياس الغباء والتحقق منه؟ وهل الغباء يُرادف الجهل أم أن ثمة فارقًا بينهما؟ من هذه الأسئلة ينطلق الكتاب الصادر حديثًا للكاتب والصحفى ستيورات جيفريز بعنوان «تاريخ موجز للغباء». 

جاء فى تقديم الكتاب: يُقال كثيرًا إننا نعيش فى عصر ذهبى للغباء، إذ يختار الناخبون السياسيين الحمقى والمخادعين، رغم أن غياب وعيهم يجعلهم لا يدركون أن نرجسيين هم من يديرون مصالحهم. فيما يفسد المؤثرون التافهون على وسائل التواصل الاجتماعى متابعيهم، غير الأذكياء بدورهم، بنظريات مؤامرة لا أساس لها، وبمحاولات هدم غبية للنقد العلمى. 

فى هذا الكتاب، يحلّل المؤلف ستيوارت جيفريز الكيفية التى وصلنا بها إلى هذه الحالة المزرية، ويتساءل: هل الأغبياء، مثل الفقراء، موجودون دائمًا بيننا؟ ينظر جيفريز فيما قالته بعض أعظم العقول؛ سقراط، بوذا، فولتير، حنّة أرندت، وآخرون، عن الطبيعة المراوغة للغباء. وبسرد يأخذنا من اليونان القديمة إلى الذكاء الاصطناعى، وبرفقة أبطال الغباء مثل الثنائى الشهير عند فلوبير «بوفار وبيكوشيه»، يلقى جيفريز نظرة متشككة على محاولات القضاء على الغباء عبر وسائل مثل اختبارات الذكاء، وعلم تحسين النسل، وتحرير الجينات، والسياسات التعليمية العنصرية، ليجد أن كل محاولة منها كانت أكثر غباءً من الغباء الذى وُضعت أصلًا لاستئصاله. فإذا كنا نعيش اليوم فى فردوس الأغبياء، فهل صار جنسنا البشرى غبيًا إلى حد يعجز معه عن أن يتعلم شيئًا من تاريخه الثرى بالحماقات؟

لكى يضع هذا الغباء الراهن فى سياقه، جاء كتاب «تاريخ موجز للغباء»، والذى يضم بين صفحاته كل شىء من سقراط إلى جيد جودى، ومن فولتير إلى ترامب، ومن هتلر إلى الذكاء الاصطناعى. يغوص جيفريز على نحو شيّق وكاشف فى عوالم الغباء القديم، والغباء الحديث، والغباء البنيوى، والغباء الجماعى، والغباء الرقمى.

حول هذا الكتاب، جاء حوار موقع Irish examiner مع ستيوارت جيفريز انطلاقًا من سؤال رئيسى: هل نعيش فى العصر الذهبى للغباء؟

العصر الذهبى للغباء

عندما رأى ستيوارت جيفريز الناس يديرون ظهورهم للعلم خلال الجائحة، وشاهد ترامب يُضفى شرعية على ازدراء الخبرة، خطرت له فكرة كتابه عن التاريخ الموجز للغباء، وردًا على السؤال الأول فى الحوار: هل نعيش فى العصر الذهبى للغباء؟ قال: كل المؤشرات تقول نعم.

يوضح جيفريز رأيه بقوله: على امتداد التجربة الإنسانية، من انهيار المناخ؛ الذى تسبّبنا فيه، إلى الديكتاتوريين غير الأكفاء؛ الذين انتخبناهم، إلى حركة معاداة العلم؛ التى صنعناها، يبدو أننا ننغمس فى حالة مطوّلة من الغباء العميق. ومهما بلغنا من تطوّر، فإن غباءنا يتطور معنا فى الوقت ذاته، ساعيًا لمواكبة ذلك. 

ويقول: خرج هذا الكتاب من رحم جائحة كوفيد، من أولئك الذين لم يحترموا العلم، ولم يحترموا الذين أمضوا حياتهم فى البحث عن اللقاحات لإنقاذ الأرواح. إنه نوع من الغباء يبدو وكأنه آخذ فى التنامى. لقد جعل ترامب ازدراء الخبرة أمرًا مشروعًا، وفى الوقت نفسه مجّد أشخاصًا لا يعرفون الكثير. 

ستيوارت جيفريز

الفرسان الخمسة للغباء

يعتبر جيفريز أن الفرسان الخمسة للغباء المُهلك، هم: دونالد ترامب، إيلون ماسك، فلاديمير بوتين، نايجل فاراج، وبوريس جونسون، والذين وصفهم بأنهم «سادة تضليل العقول فى زمن ما بعد الحقيقة»، وأنهم يُخربون الديمقراطية من خلال تحويل الناخبين إلى أدوات تُستخدم ضدهم.

ويتابع جيفريز فى حواره: قبل ما يقارب المائة عام، كتب الكاتب النمساوى كارل كراوس عن هتلر: «سرّ الديماغوجى أن يبدو غبيًا مثل جمهوره، بحيث يمكن لهؤلاء أن يصدقوا أنهم أذكياء مثله». ولو كتب هذه العبارة هذا الصباح، لكانت صالحة بالقدر نفسه.

ويستطرد: المشكلة هى أنه لا أحد يحب أن يفكر فى نفسه على أنه غبى. لكى يدرك المرء غباءه، لا بد أن يكون ذكيًا. أما إذا كنت غبيًا، فغالبًا لن تدرك ذلك أصلًا. 

هل سيكون الغباء حاضرًا بيننا دائمًا مثل الفقر؟ يقول: «إذا عرّفنا الفقر بصورة نسبية، فسيظل هناك دائمًا من هم أفقر نسبيًا، وإذا عرّفنا الذكاء بصورة نسبية، فسيظل هناك دائمًا من هم أغبى نسبيًا. لكن كثيرًا ما استُخدم الغباء كسلاح للسيطرة على الناس ولإخضاعهم لعمليات تنتهى فى النهاية بإقصائهم.

الجهل والغباء

يختلف الجهل كثيرًا عن الغباء، فكثير من الجهلة أذكياء، تمامًا كما أن كثيرًا من المتعلمين أغبياء. وهنا يُعلق المؤلف بقوله: «جيد جودى» لم تكن تعرف كيف تُنطق كلمة East Anglia، وضحك الناس عليها عندما ظهرت فى برنامج Big Brother. لكنها حوّلت جهلها إلى مصدر للربح، فأصبحت مليونيرة قبل وفاتها. لقد كانت بالغة الذكاء.

ويضيف: لا يستطيع العلم قياس الغباء، لأنه حكم تقييمى وليس حقيقة قابلة للقياس، ولا علاقة له باختبارات الذكاء. الغباء يتطور ويتحوّر، وبذلك يفلت من الانقراض. ثم يستطرد قائلًا: إن الغباء أيضًا تجارة كبيرة مربحة. يكفى أن ننظر إلى حجم الغباء الذى حوّله الأوليجارشيون إلى أرباح أمثال مارك زوكربيرج، الذى وصف المستخدمين الأوائل لمنصته للتواصل الاجتماعى بأنهم أغبياء تافهون. 

الغباء والشر

فى فصله عن «التحسين الغبى للنسل»، يذكر جيفريز أن نساء أمريكيات خضعن لعمليات استئصال للرحم قسرًا فى ستينيات القرن الماضى، لأنهن اعتُبرن «غبيات جدًا» بحيث لا يصلحن للإنجاب. وقد جرى تعقيم ما يصل إلى ١٠٠ ألف أمريكى فى القرن العشرين، فى ما وُصف بأنه حرب خاسرة ضد الغباء.

وقد ساوت الفيلسوفة الألمانية اليهودية حنة أرندت، التى صاغت مصطلح «تفاهة الشر» عن أدولف أيخمان فى محاكمات نورمبرغ، بين الغباء وانعدام التعاطف، فقالت فى وصفها لأيخمان: إن غباءه الشديد هو ما كان شنيعًا جدًا، والذى تمثل فى مقاومته لتخيّل ما يمر به شخص آخر.

يعلق جيفريز: هناك صلة بين الغباء والشر، فغياب الذكاء العاطفى يسمح للناس بارتكاب أفعال شنيعة.

ويتحدث عن «الغباء الأعلى» باعتباره فشلًا فى استخدام الذكاء، وليس نقصًا فيه، موضحًا: أدولف هتلر ودونالد ترامب هما أبرز أمثلة على هذا الغباء الأعلى. أى أن الغباء هو عمى أخلاقى.

ويضيف: الغباء الماهر ليس تناقضًا لفظيًا. فالذكاء والغباء ليسا نقيضين متقابلين، بل يتعايشان على نحو متوتر فى كل مجتمع، وفى كل فرد. إذن، هل يمكن القول إن أنصار ترامب أغبياء بطبيعتهم؟ أم أنهم، مثل أتباع الحركات المناهضة للعلم، يختارون شكلًا متقدمًا من الغباء بتجاهلهم للحقائق الواضحة؟ فترامب نفسه، عندما يصف نفسه بـ«عبقرى شديد الاتزان» يُعتبر مثالًا حيًا على تأثير «دانينغ-كروجر، وهو ميل نفسى يجعل الشخص يبالغ بشكل كبير فى تقدير ذكائه وقدراته.

الغباء وسيطرة ترامب

يتساءل جيفريز بدهشة: لماذا يُعجب الأمريكيون بشخص مثل ترامب؟ من الغريب أن نرى ذلك فى أمريكا، حيث الحلم هو أن أى شخص يستطيع تحقيق المستحيل، وأن ينهض من العدم. ترامب لم يفعل ذلك. لماذا وثقوا به؟ من الواضح أنه لا يحقق لهم أى فائدة. هل هم أغبياء إلى هذا الحد ليضعوا ثقتهم فى رجلٍ شرير يتظاهر بأنه منقذهم، فى حين أنه فى الواقع يدفعهم نحو المزيد من الفقر والإهانة؟

ويضيف: يمكن القول إن ترامب يسلّح نوعًا من الغباء والشعبوية والجهل. ومن هذه الناحية، فهو لا يختلف كثيرًا عن جيد جودى، فكلاهما فكّر فى كيفية استغلال الجهل لتحقيق مكاسب شخصية. الفرق الأساسى هو أن جودى استغلت جهلها الخاص لكسب بعض المال من خلال برامج تليفزيون الواقع، بينما استغل ترامب الجهل الجماعى لقاعدته الجماهيرية التى تتابع هذه البرامج ليمتلك قوة هائلة.

ويستطرد: أعتقد أنه شرير بالمعنى الذى قصدته الفيلسوفة حنة أرندت عن «تفاهة الشر»، لكن ترامب مجرد عَرَض أو نتيجة وليس السبب. ربما نحن نعيش فى ذروة الغباء. لكننى أعتقد أننا لم نصل إلا إلى ذروة فقط، وليس الذروة القصوى.

إذن، ما هى الذروة القصوى للغباء؟ يقول المؤلف: القمة الواضحة للغباء البشرى ستكون عندما نسمح لأنفسنا بالانقراض لمجرد أن البقاء لم يعد مجديًا اقتصاديًا، لا يوجد أى كائن حى آخر، ولا حتى الأميبا، يمكن أن يكون غبيًا إلى هذا الحد. الأمر مثير للإعجاب بطريقة ما، ذكاؤنا نفسه هو دليل على غبائنا، الطريقة التى استخدمنا بها ذكاءنا لتدمير أنفسنا وكوكبنا هى غباء فائق.

الغباء والذكاء الاصطناعى

ردًا على سؤال أخير: هل سينقذنا الذكاء الاصطناعى؟ يجيب جيفريز: نحن نظن أننا صنعنا أدوات تكنولوجية من أجلنا، لكن فى الواقع، كل ما نفعله؛ كيف نتفاعل ونتواصل، تشكّل بالكامل بواسطة هذه التكنولوجيا. من المرجح أن نكون نحن من يخضع للآلات، وليس العكس.

ويتابع: الواقع هو أننا نعمل بجهد أكبر ولساعات أطول مقابل عقود أسوأ بكثير. ويعرب عن قلقه من أن الحكومات عمياء تجاه مخاطر الذكاء الاصطناعى بقوله: الحكومة البريطانية تؤيد الذكاء الاصطناعى كوسيلة لحل المشاكل الاقتصادية، وتتعامل معه ببلاهة دون النظر فى أى سلبيات. هل هذه هى ذروة الغباء؟ نحن نتعرض للاختراق طوال الوقت. ربما التكنولوجيا تجعل موجة الغباء ترتفع بشكل أسرع.

وينهى جيفريز بقوله: أى شخص يجادل فى وجود مستقبل جيد هو أحمق؛ لا أرى الأمور إلا وهى تسوء أكثر.