سيار الجميل: العالم العربى يسير عكس الزمن منذ عام 1979.. لكن مازال لدىّ أمل

- قوة الأمم تُقاس بمنتجات نخبها المثقفة وحركة نقدية شجاعة هى الطريق لتعرية الآفات وتصحيح المسار
- رسالتى إلى الأجيال الجديدة أن تختار المعرفة بديلًا عن الأيديولوجيا
- الجيل الجديد أكثر مهارة تقنيًا لكنه أضعف لغويًا وأشد افتتانًا بـ«عقدة الخواجة»
- أحلم بمستقبل عربى يلتفت إليه العالم ولكنى أؤمن بانطلاقة جديدة رغم الكوارث
يواصل المؤرخ العراقى سيّار الجميل مشروعه النقدى لتفكيك السرديات الذهنيات العربية، واضعًا خطوات منهج للمستقبل يقوم على النقد والتفكيك، واتساع الرؤية، والانفتاح على معارف العالم الحديث.
فقد صدر مؤخرًا للمؤرخ العراقى عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» ببيروت كتابان جديدان، يقدّم فيهما مقاربة نقدية للمفاهيم التاريخية العربية. جاء الكتاب الأول بعنوان «على المشرحة 1: إشكالية التفكير التاريخى العربى- نقد المسردات وتفكيك المفاهيم»، وفيه يعالج إشكاليات التفكير التاريخى العربى المعاصر، كما يشيد بأعمال مؤرخين ومفكرين عرب كبار ارتبط كل منهم بظاهرة فكرية محددة، مثل محمد شفيق غربال، وقسطنطين زريق، وعبدالله العروى، وهشام جعيط، وسمير أمين، وغيرهم.
أما الكتاب الثانى فجاء بعنوان «على المشرحة 2: النقد الرؤيوى للمفاهيم العربية- تفكيك الذهنيات المركبة ونقد الاستلابات»، وفيه يراجع مفاهيم وأطروحات عدد من المفكرين والكتّاب، مثل خير الدين حسيب، ومحمد حسنين هيكل، وجلال أمين، وجابر عصفور، وحسن حنفى، وفؤاد زكريا، وغيرهم. ويحاول من خلاله تفكيك الذهنيات المركبة التى لا تزال سائدة حتى اليوم، ومعالجة الاستلابات العربية فى ظل تحولات القرن الحادى والعشرين وما يشهده من ثورة معرفية وتكنولوجية.
وسيّار الجميل مؤرخ وأكاديمى عراقى بارز، حصل على دكتوراه فلسفة التاريخ الحديث من جامعة سانت أندروز البريطانية، وعمل أستاذًا ومحاضرًا فى جامعات عربية وأوروبية وأمريكية لأكثر من أربعة عقود، كما نشر أكثر من 50 كتابًا و150 دراسة علمية تُرجم بعضها إلى لغات عدة، ونال جوائز دولية مرموقة.
«حرف» حاورت المؤرخ العراقى لاستبيان دوافعه وراء إصدار كتابيه الجديدين، والكشف عن الأسئلة التى أراد أن يثيرها حول التفكير التاريخى العربى، والغايات التى يتوخّاها من مشروعه النقدى للمفاهيم والذهنيات السائدة، فضلًا عن تقصى رأيه فى قضايا معاصرة تتصل بمستقبل الثقافة والتحولات التى يشهدها العالم العربى اليوم.

■ تُركّز فى الكتابين الأحدث لك على «تشريح» المسردات والذهنيات والمفاهيم، ما الفرق عندك بين العناصر الثلاثة؟ وما الأُسس المنهجية التى تنطلق منها فى الكتابين؟
- تقاس قوة الحياة الثقافية والفكرية لدى الأمم قاطبة بما تنتجه النخب المثقفة فى المجتمع «أى: Intellectual elites» من مدونات «أى: مسردات رائعة»، وتتمتع الفئات الاجتماعية أو ما يُطلق عليها القوى الفاعلة بالذهنيات المتفتحة أى «open-minded mentality»، وما يسود من مفاهيم فكرية فاعلة أى «Effective intellectual concepts إن تكاملت هذه العناصر فى مجتمعات مستقرة ومتعلمة ومنتجة برغم تباين أساليب الحياة عندها، فإن المجتمع سيكون بالضرورة ناجحًا فى إبداعاته ومنتجاته، سيغدو أفضل من غيره، ومتى عانى المجتمع من التراخى والضعف فى هذه العناصر، فسوف يعانى كثيرًا وطويلًا من تناقضات وتأخر واستلابات وتقلبات ومؤدلجات وأكاذيب وسرقات وإنشائيات وركاكة لغة.. إلخ.
هنا، ينبغى أن تنطلق حركة نقدية قوية لتوضح المسار الصحيح بكشف كل المنتج وتعرية كل الآفات من خلال مناهج نقدية متنوعة، يستلزم من يمارسها امتلاكه الشجاعة الكافية والمعرفة الواسعة والدقة.
أما عن الأسس المنهجية التى انطلقت منها منذ زمن طويل، فقد أفادنى عبدالقاهر الجرجانى فى كتابه «الوساطة»، واستفدت كثيرًا منذ شبابى فى دراسة علم الجرح والتعديل والنقد الباطنى السلبى والإيجابى، فضلًا عن منهج التفكيك الذى استخدمته قبل أكثر من ٢٥ عامًا فى كتابى «تفكيك هيكل» وكتابى «بقايا هيكل»، ناهيك عن الآليات التى مهرت بها، والتى ضمنها ريتشاردز فى كتابه الممتاز «النقد الأدبى».

■ فى الكتاب الأول «على المشرحة ١: إشكالية التفكير التاريخى العربى: نقد المسردات وتفكيك المفاهيم»، تكرم أسماء مفكرين عرب وتربط كل منهم بـ«ظاهرة» محددة. فلم وقع اختيارك على هذه الأسماء تحديدًا؟
- هناك بطبيعة الحال عدد كبير من المفكرين العرب ممن ارتبطت أسماؤهم بظواهر متنوعة أخرى على امتداد القرن العشرين، ولكن هؤلاء هم الذين عرفتهم معرفة شخصية وقد حاورتهم، وأغلبهم من أصدقائى، وبعضهم ممن التقيت بهم فى مؤتمرات وزاملتهم فى جامعات ومراكز بحوث.. وهناك من انتقدتهم نقدًا ساخنًا مثل الشاعر أدونيس، ولكن هذا لا يمنع أن يلتصق اسمه بما بعد الحداثة.
وأود أن أخبرك بأننى لن أكتفى بكل من عرفته وكانت لى تجربة فكرية، ففى الطريق كتابان آتيان «على المشرحة ٣»، و«على المشرحة ٤»، سأعالج فيهما أعمال مؤلفين ومفكرين آخرين؛ إذ سيختص «المشرحة ٣» بالشأن العراقى، أى ما كتب عن العراق فى الذاكرة العربية، ويختص «المشرحة ٤» بالنقد الأدبى لشعراء وأدباء وروائيين ونقاد.

■ فى المقابل، تُمارس نقدًا جذريًا فى الكتاب الثانى «على المشرحة ٢: النقد الرؤيوى للمفاهيم العربية: تفكيك الذهنيات المركبة ونقد الاستلابات» تجاه مفكرين آخرين مثل جلال أمين وحسن حنفى وهيكل وفؤاد زكريا وجابر عصفور. فما المعيار الذى اتّبعته لاختيار هؤلاء؟
- مارست نقدًا جذريًا فى الكتابين، فأسلوبى واحد ومنهجى واحد، ولكن كنت صريحًا فى إطلاق الأحكام، وكل من عالجت كتاباته نقديًا له مكانته الكبيرة عندى، فأنا لا أتعرض لشخصه إلا إن أساء لى وحاربنى مثل محمد حسنين هيكل، مثلًا، ولكن أعتز بصداقة جابر عصفور وخير الدين حسيب وفؤاد زكريا وحسن حنفى والسيد ياسين وغيرهم.

■ فى كتابيك، تطرح مفهومى «الاستلابات» و«الذهنيات المركبة» بوصفهما من أعطاب الوعى العربى الحديث. كيف تُعرّف هذين المفهومين ضمن السياق العربى؟
- أقصد بالاستلابات معنى ثقافيًا، بحيث زادت السرقات والتطفلات والنقولات التى أوجزها العلامة ابن الأثير فى كتابه «المثل السائر..» بثلاثة أفعال: النسخ والمسخ والسلخ، وقد غدت المنشورات والإعلاميات والأفكار والنصوص مباحة لهذا وذاك لتنشر بأسمائهم بفعل الإنترنت، من دون أن يوقف أحد مثل هذا الانهيار. وإذا كان الجيل الجديد أكثر مهارة على الإنترنت والأجهزة الدقيقة أكثر بكثير من الأجيال السابقة، فإن مشكلته تكمن فى ضعف لغته العربية وركاكة ألفاظه وانكماش ذوقه، وغلبة الميديا على الثقافة الرصينة، مع انتشار مبدعين شباب فى أكثر من بلد عربى.
أما «الذهنيات المركبة»، فقد أوضحت ذلك فى أكثر من كتاب ومقال منذ زمن طويل، وأعنى بها ركود العقلية وازدواجية المعايير وعمق التناقضات. فهو يعيش فى هذا العصر ويتعامل مع منتجاته كلها، ولكن ذهنه يعيش فى الماضى الذى لا يغادره أبدًا، أى يعيش حالات تناقض، فذهنه منشطر ومركّب بين زمنين، ما يجعله معقدًا ويعوق حركة التقدم. أو تجدينه يتبادل عناوين أعمال وأسماء مفكرين وكتاب غربيين ويستل فقرات ما يقولونه عن ثقافتهم وبيئاتهم، وهى لا تستقيم مع مجتمعاتنا أبدًا، ويستنكف من أسماء مفكرين عرب، أى بمعنى تمكّن «عقدة الخواجة» فيه!

■ تصف العملين بأنهما «قرع الأجراس» للأجيال القادمة، وتطرح من خلالها خطوات منهجية لتفكير مستقبلى قائم على التفكيك والنقد والانفتاح على العالم. فما الرسالة الأساسية التى توجهها إلى المفكرين والباحثين الشباب؟ وكيف يمكن ترجمة هذه الرؤية الفكرية إلى واقع فعلى فى ميادين السياسة والتعليم والثقافة العامة؟
- منذ زمن طويل، أى منذ قرابة ثلاثين عامًا، عندما كتبت «نظرية الأجيال» ونشرتها باسم «المجايلة التاريخية»، أكدت التحولات وبناء المستقبل من قبل ثلاثة أجيال فى القرن الحادى والعشرين، أى حتى العام ٢٠٩٩: جيل آباء، وجيل أبناء، وجيل أحفاد.. ربما سيبكون أو يسخرون من أجيال القرن العشرين الثلاثة.
نعم، إنها رسالتى إلى الأجيال الجديدة أن تتعلم خطوات منهجية جديدة، وأساليب تفكير جديدة، وتكون متصارحة مع نفسها والآخر، وأن تتفاعل مع المعرفة بديلًا عن الأيديولوجيات، وأن تمتلك رؤية واسعة بعيدة الأفق إلى المستقبل، وأن تمارس المصداقية والشجاعة فى السياسة، وتعيد ذائقتها الفنية، وتطور أساليب التعليم، خصوصًا وأن الحياة الحديثة قد وفرت لها كل وسائل المعرفة.. عليها أن تبتعد عن الإنشائيات وتختزل الكلمات وتبتعد عن الإطناب، وأن توازن بين الأمور بلا أى تطرف أو تزمت، وتخرج من شرانق الأزمنة العقيمة.. وأنا لى اعتقاد مشوب بالحذر بأن هذا هو الذى سيحصل، إذ أحلم بمستقبل عربى يلتفت إليه العالم.

■ تقف عند «اليسار الإسلامى» لحسن حنفى و«الأيديولوجيا» عند محمد عابد الجابرى. فما المشترك فى نقدك لهما؟
- حسن حنفى زاوج بين اليسار التقدمى والإسلام بعد أن كان يساريًا، ولكن مع تبلور موجات الإسلام السياسى راح يزاوج بين الاثنين، ولكن انتقدته على موقفه من ظاهرة العولمة.. أما محمد عابد الجابرى، فتلك قصة أخرى. صحيح أننى واجهته فى مؤتمر بخطاب نقدى مرير على ما ألقاه فى المؤتمر ولم يستطع أن يرد، وقد أعدت نشر المواجهة فى كتابى «على المشرحة»، ولكن هذه ليست أول مواجهة نقدية معه، إذ كنت قد نشرت كتابًا بعنوان «الرؤية المختلفة» انتقدت فيه تحليلاته للخطاب العربى المعاصر وأيضًا الفكر القومى العربى المعاصر. كما انتقدته على تسميته كتبه بـ«العقل العربى» وقلت له: العقل لا يمكن أن يُقسَّم شوفينيًا بين الشعوب يا سى عابد! وقلت له: المفكر والكاتب الحر، كما أعتقد وأزعم، لا يمكنه أن يتخندق سياسيًا وأيديولوجيًا مع أى حزب سياسى من الأحزاب! كما انتقدته نقدًا قويًا فى كتابته فصلًا كاملًا يمدح فيه ميشيل عفلق بتمويل عراقى لقاء قسط من المال وعضوية شرف فى المجمع العلمى العراقى أيام التسعينيات!

■ فى عصر الذكاء الاصطناعى، والتحولات الاجتماعية والسياسية السريعة، ما الدور الذى يمكن أن يلعبه المثقف العربى اليوم؟ وهل نحن بصدد مرحلة انتقال صناعة المعنى من المفكرين والكتّاب إلى مؤثرى وسائل التواصل الاجتماعى؟
- الدنيا تغيرت فى السنوات العشر الأخيرة تغيرًا مدهشًا.. للأسف الشديد، مجتمعاتنا ودولنا لم تلتفت إلى علوم المستقبليات، وقد دعوت منذ العام ١٩٨٨ و١٩٨٩ إلى تأسيس مراكز بحوث مستقبلية أسوة بما فعلته مجتمعات أخرى بعد سقوط المنظومة الاشتراكية. كان عالمنا العربى يسير منذ العام ١٩٧٩ فى اتجاه معاكس للزمن.. اليوم، بعد ثلاثين سنة، صحيح، كان هناك حراك شبابى وتغير أنظمة سياسية، ولكن استلاب الثورات الشبابية العربية، وحلول كوارث أعاقت التفكير بالمصير الذى سيحيق بكل مجتمعاتنا التى ستعانى كثيرًا، ولكن أعتقد أنها ستنطلق من جديد.. فالوسائل الحديثة بقدر ما فيها من مضار، فإن فيها فوائد، وأتمنى أن يحكم العمل فيها جملة واسعة من النخب.. وسيتم الانتقال أو التحول مهما كانت التحديات، فالتاريخ يعلمنا أن مجتمعاتنا قابلة للاستجابة إلى كل التحديات المقبلة.

■ فى ظل التحولات الإقليمية والعالمية المتسارعة، والتوترات المتصاعدة فى الشرق الأوسط، كيف تقرأ المشهد الراهن؟ هل ترى أننا نعيش لحظة تاريخية فارقة ستعيد تشكيل خريطة المنطقة من جديد؟
- أعتقد أن اللحظة التاريخية الفارقة لا تمتلكها شعوب الشرق الأوسط، بل تصنعها الإرادات الدولية طبقًا لمصالحها.. ربما تتقاطع هذه المصالح من خلال صفقات سياسية قادمة، وربما سيبقى الوضع على ما هو عليه.. ربما تتغير أنظمة سياسية ولا تتغير خرائط تاريخية، فليس من السهل أبدًا حدوث ذلك، وإن حدث، لا سمح الله، فهو جزئى لا كلى كما أتصور ذلك. وعليه، أتمنى أن يتم توحيد الإرادة وارتقاء الثقافة ونمو الوعى مع الإدراك المتبادل لمواجهة عصر جديد، وإلغاء كل ما تم تشكيله فى القرن العشرين، ومن ذلك إلغاء جامعة الدول العربية والبرلمان العربى وكل المنظمات التى غدت هزيلة ورخوة ولا تستجيب لتحديات القرن الحادى والعشرين.. ثم القيام بتأسيس بدائل يمكنها خدمة دولنا ومجتمعاتنا ومواجهة الأجيال الجديدة للتحديات القادمة.

■ ما الذى تغيّر فى قراءتك للتاريخ على مدار الأعوام؟ وهل ثمة فرضيات كنت تؤمن بها فى عقود ماضية وتراجعت عنها اليوم؟
- نعم، تغيّرت الأساليب والمناهج والرؤية وحتى المعرفة.. فما درسناه فى سبعينيات القرن العشرين فى بريطانيا لم يعد يصلح اليوم فى محاضراتى التى ألقيها فى أكثر من جامعة فى أمريكا وكندا.. كنت أسيطر على ما يصدر من كتب وبحوث فى تخصصى نفسه، لأن الإنتاج أقل والزمن أوسع.. اليوم لا يمكن أبدًا لمتخصص فى حقل معين أن يسيطر على كل ما يصدر فيه من بحوث وكتب، فالإنتاج المعرفى توسّع بشكل هائل والزمن اختُزل كثيرًا كما أشعر.. غاب كل أساتذتنا القدماء من عرب ومستشرقين ورحلوا بعد أن علمونا الكثير ضمن الوسائل المتاحة.. اليوم، الطلبة مجالهم أوسع وأسرع ولكن أخطاءهم أكثر.. سابقًا تربّينا وتعلّمنا ضمن مسار محدد واحد تساعدنا علوم أخرى، ويجد أصحاب المواهب والابتكارات طريقهم.. اليوم تعددت المسارات، وضاع أصحاب المواهب فى مواجهة الذكاء الصناعى أو الإبحار فى بحر من المواقع الإلكترونية.. إلخ.

■ما المشروعات التى تعمل عليها فى الوقت الراهن؟
- أشارك فى تحرير موسوعة مهمة جدًا ستصدر بعد اكتمال مجلداتها، كما أقدّم عدة استشارات علمية وتاريخية لبعض الأعمال الفنية الدولية، وأحرّر التقرير السنوى لهيئة علماء المستقبل التى تأسست عام 2002. وإلى جانب ذلك، أشغل منصب المدير التنفيذى لبرنامج دولى للثقافات المقارنة فى العالم، وأعمل فى الوقت نفسه على نشر كتبى التالية بالعربية والإنجليزية، والتى أزعم أن بعضها مهم جدًّا.
