الكندية مارجريت أتوود: مررنا بأزمنة مضطربة من قبل لكننا اليوم أكثر العصور رعبًا
- كل ما كتبته فى رواياتى جاء من مراقبة العالم حولى
- أمريكا ليست نظامًا شموليًا بعد لكنها تسير نحو تركيزٍ خطير للسلطة
منذ عام 1961، كانت مارجريت أتوود تنشر فى المتوسط كتابًا واحدًا كل عام، من بينها روايات معروفة ومحبوبة مثل «عين القطة»، و«العروس السارقة»، و«ألياس جريس»، و«القاتل الأعمى»، وثلاثية «ماد آدام»، إضافة إلى روايتها الأشهر «حكاية الجارية»، وتكملتها «الوصايا».
خاضت «أتوود» تجربة الكتابة فى كل الأجناس الأدبية تقريبًا؛ الشعر، المقال، الرواية المصوّرة، لكنها لم تكتب السيرة الذاتية، التى كانت تصرّ دائمًا على أنها لا تثير اهتمامها ولا ترغب فى الكتابة بها. لكنها فى النهاية رضخت لفكرة كتابة كتابها الجديد، وهو مذكّرات تحمل عنوان «كتاب الحيوات» Book of Lives.
حول هذا الكتاب وما ورد به عن الروائية الكندية الأشهر يدور الحوار الذى أجرته صحيفة «الجارديان»، والذى تُترجم «حرف» أجزاء منه.

تتسوق مارجريت أتوود فى المتجر المحلى فى تورونتو، لكن العملية تستغرق وقتًا أطول من المعتاد. وليس السبب أن مؤلفة «حكاية الجارية» ستبلغ السادسة والثمانين هذا الشهر، بل لأنها تتحقق من مصدر كل سلعة قبل أن تضعها فى عربة التسوق؛ برتقال ساتسوما القادم من كاليفورنيا مرفوض، بينما البطاطس الكندية مقبولة. «أتوود» ناشطة بيئية متحمسة، لكنها فى الوقت الحالى أكثر انشغالًا بمقاطعة أى منتج يأتى من الولايات المتحدة، أكثر من قلقها بشأن الانبعاثات الناتجة عن نقل البضائع جوًا. تقول بحزم، وهى تتخذ وضعية قتالية فى ممر الفاكهة والخضروات: ارفعوا سواعدكم، استعدوا للمواجهة.
فى مطبخها، تُرينى «أتوود» مقطعًا ساخرًا على «يوتيوب» يجمع بين رئيس الوزراء الكندى مارك كارنى والكوميدى مايك مايرز، وهما يرتديان زى الهوكى الوطنى، لتشرح لى معنى عبارة «ارفعوا سواعدكم» التى أصبحت إشارة متزايدة الرواج للمقاومة الكندية. تقول عن ردود الفعل الغاضبة على خطط الرئيس ترامب المقترحة لجعل كندا الولاية الأمريكية الحادية والخمسين: «إنهم غاضبون وحانقون»، ثم تتابع بابتسامة ساخرة: ليس لدينا جيش كبير. لو أرادوا غزونا، لتمكنوا من ذلك. لكنى لا أظنهم سيفعلون. هل يدركون ما الذى يعنيه أن يحاولوا احتلال كندا؟ لن تكون مزحة. أما ترامب، فسيكون عليه أولًا أن يتعامل مع مارجريت أتوود نفسها.

كتاب الحيوات
تقول «أتوود»، بابتسامة تجمع بين الدعابة والواقعية، عن ناشريها: أظن أنهم قلقون من أن أموت قبل أن يصدر الكتاب. تقصد مذكراتها الجديدة بعنوان «كتاب الحيوات» Book of Lives، وهو عمل كبير فى ٦٢٤ صفحة.
منذ عام ١٩٦١، كانت «أتوود» تنشر فى المتوسط كتابًا واحدًا كل عام، خاضت «أتوود» تجربة الكتابة فى كل الأجناس الأدبية تقريبًا؛ الشعر، المقال، الرواية المصوّرة، لكنها لم ترغب فى كتابة السيرة الذاتية إلى أن رضخت لفكرة كتابة كتابها الجديد وهو «مذكّرات بشكل ما»، كما جاء فى العنوان الفرعى للكتاب. توضح «أتوود» قائلة: «المذكرات هى ببساطة ما يمكنك أن تتذكره، وما نتذكره فى الغالب هو الكوارث والأشياء الغبية».
تقول أتوود: «أنا روائية على الطراز القديم. كل ما كتبته فى رواياتى جاء من مراقبة العالم من حولى». ثم تضيف بنبرة هادئة مميزة: لا أظن أن لدىّ عالمًا نفسيًا معقدًا.

تضحك قائلة: كنت أشعر بأنى غريبة الأطوار فى زمن الانهيار العصبى، حين كان يُفترض بالجميع أن يذهبوا إلى الطبيب النفسى. جربت ذلك مرة واحدة فقط، لكن الطبيب شعر بالملل منى، فلم يكن لدىّ ما أقوله مما يثير الاهتمام.
كُتب الكتاب بأسلوبها المعتاد فى مقالاتها: مباشر، مرح، لا يعرف الالتفاف أو المجاملات. يسير السرد عبر العقود كمسيرة حية فى التاريخ؛ الكساد الكبير، الحرب العالمية الثانية، المكارثية، اغتيال كينيدى، أحداث ١١ سبتمبر، حرب العراق، الترامبية، وجائحة كورونا، جميعها تحضر فى الصفحات. لكن هذا ليس استعراضًا لرؤيتها فى الشئون العالمية، ولا حديثًا عن القضايا التى تشغلها أكثر من غيرها؛ حقوق المرأة، البيئة، حرية التعبير، الأدب، إذ كانت قد تناولت تلك القضايا بالفعل فى مجموعتها المقالية الضخمة الصادرة عام ٢٠٢٢ بعنوان «الأسئلة المُلحة» Burning Questions ليأتى «كتاب الحيوات» Book of Lives بمثابة النظير الشخصى لتلك المجموعة.
هنا، تتحدث «أتوود» عن قصص نشأة رواياتها، وتصفّى حساباتها الماضية؛ مع طلاب الجامعة الذين دسّوا شيئًا فى شرابها، ومع الكاتب الذى حوّلها فى إحدى قصصه إلى أخطبوط قاتل للرجال، ومع صحفى جريدة «ذا جلوب» الذى وصف مطبخها بالكئيب، وغيرهم.
وحين أسألها إن كانت استمتعت بكتابة الكتاب بقدر ما يُستمتع بقراءته، تجيب: «كان ممتعًا فى بعض أجزائه.. لكن الأجزاء التى يموت فيها الناس لم تكن ممتعة على الإطلاق».
تبدأ المذكرات وتنتهى بمشهدين متقابلين؛ طفولتها فى البرية الكندية، ووفاة شريك حياتها لعقود، الكاتب جرايم جيبسون، عام ٢٠١٩، وهو ما يمنح الكتاب بناءً أقرب إلى الرواية منه إلى السيرة. كان جيبسون قد رحل بينما كانت أتوود فى جولة ترويجية فى المملكة المتحدة لروايتها «الوصايا»، ومع ذلك واصلت الجولة حتى النهاية.
علاقة أتوود بجيبسون هى قصة الحب الكبرى فى الكتاب، وموته هو الكارثة العظمى فيه.
قصصها القصيرة الأخيرة، وقصائدها، خاصة الفصول المتأخرة من المذكرات، مؤثرة إلى حدّ الوجع فى تصويرها للفقد، لكنها تقول إنها لا تمارس الحزن فى العلن.

الأكثر شهرة
بعد أن عاشت «أتوود» الحقبة التى هيمن فيها على عالم النشر الروائيون الأمريكيون الرجال بعد الحرب؛ فيليب روث، جون أبدايك، سول بيلو، ثم البريطانيون؛ مارتن آميس، إيان ماكيوان، سلمان رشدى، لا تخفى شيئًا من الرضا المكتوم إزاء أن تكون كاتبة من تورونتو، تلك المدينة التى كانت بالكاد تُذكر على الخريطة الأدبية حين بدأت مسيرتها، قد أصبحت الأكثر بقاءً وتأثيرًا بين كل هؤلاء.
تقول بنبرة جافة تحمل سخرية معتادة: «أتوقّع أن هذا يُزعج كثيرين».
لكنها تزيح عن نفسها بسهولة صفة الشهرة العالمية التى تحيط بها. تقول: «أنا ما زلت على قيد الحياة، وهذا يجعلنى أكبر من تبقّى من جيلى. ثانيًا، الكنديون لا يؤمنون بفكرة (الأكثر شهرة)».
تقول «أتوود» فى مذكّراتها إنها «مشهورة إلى حدٍّ صاخب»، ثم تفسّر ذلك الآن بابتسامة تجمع بين التواضع والوعى بالتاريخ قائلة: «إنها مصادفة تاريخية لا أكثر. حدث هذا بسبب تزامن عرض المسلسل التليفزيونى (حكاية الجارية) مع الأحداث السياسية الفعلية».

حكاية الجارية
المسلسل المقتبس عام ٢٠١٧ عن روايتها الصادرة عام ١٩٨٥ «حكاية الجارية» هو الذى قذف بها إلى واجهة المشهد العالمى. بدأ تصوير المسلسل فى صيف ٢٠١٦، وكان العمل لا يزال جاريًا فى نوفمبر من العام نفسه، حين جرت الانتخابات الأمريكية. ثم حدثت المفاجأة. فاز ترامب، تقول «أتوود»: استيقظ كل من شارك فى العمل فى اليوم التالى وهو يشعر بأننا صرنا فى عرضٍ مختلف! ليس لأن المسلسل تغيّر، لم يتغيّر شىء فى السيناريوهات، بل لأن الإطار تغيّر. بعد أن كان الناس ينظرون إلى العمل قائلين: «يا له من خيال جميل»، صاروا يقولون: «يا إلهى... إنه يحدث فعلًا».
فى زمنٍ أصبحت فيه عمليات الإجهاض جريمة فى بعض الولايات الأمريكية، وبدأت السُلطات تفتش هواتف القادمين إلى الولايات المتحدة بحثًا عن آراء معادية لترامب، بدت رؤية «مارجريت أتوود» لأمريكا المستقبلية فى روايتها «حكاية الجارية» أكثر واقعية من أى وقت مضى. فقد تصوّرت الرواية دولةً تتحول فيها أمريكا إلى نظام دينى شمولى، يحكمه رجال الدين، ويُلغى فيه حق النساء فى حرية الجسد والاختيار. ومع تصاعد الأحداث السياسية فى الواقع، تحولت نبوءة «أتوود» إلى كابوسٍ معاصر.
أصبحت أثواب الجاريات الحمراء رمزًا عالميًا للاحتجاج النسوى، وظهرت عبارات من الرواية على اللافتات والقمصان خلال المظاهرات، فيما رفع كثيرون شعار «أعيدوا مارجريت أتوود إلى عالم الخيال»، فى إشارة إلى أن ما كتبته لم يعد خيالًا بل واقعًا يُعاش.

واليوم، بعد ما يقرب من عقد على انطلاق المسلسل المقتبس من الرواية، انتهى التصوير مؤخرًا فى تورنتو للموسم الأول من مسلسل «الوصايا»، وهو العمل المأخوذ عن روايتها اللاحقة التى تحمل الاسم نفسه، وتظهر فيه «أتوود» مجددًا بدورٍ رمزى صغير.
كانت قد شاركت فى المسلسل الأول بظهور خاطف، تجسّد فيه إحدى «العمّات» وهى تصفع بطلة العمل إليزابيث موس. أما الآن، فهى ممنوعة من كشف أى تفاصيل عن العمل الجديد، وكل ما يمكن قوله إن الممثلة آن دود تعود لأداء دور العمة ليديا.
تقول «أتوود» فى حديثها: الولايات المتحدة ليست نظامًا شموليًا بعد، لكنها تسير نحو تركيزٍ خطير للسلطة. ولو كانت بالفعل دولةً شمولية، لما كنا نصور «الوصايا» أصلًا، بل كنا فى السجن أو المنفى أو ربما فى عداد الموتى.
وتعود «أتوود» إلى لحظة صدور «حكاية الجارية» عام ١٩٨٥ لتقول: فى ذلك الوقت لم يكن أحد يتخيل أن نشهد يومًا مثل اقتحام مبنى الكابيتول. كان جدار برلين لا يزال قائمًا، والحرب الباردة فى أوجها، وكانت أمريكا تُقدّم بوصفها منارةً للحرية والديمقراطية. ثم تضيف بابتسامة مريرة: «لكن الجدار انهار عام ١٩٨٩، وظن الناس أن الصراعات انتهت، وأن العالم مقبل على سلامٍ دائم وازدهارٍ استهلاكى. قالوا: الرأسمالية انتصرت، وكل شىء سيكون على ما يرام. لكن حين تُزعزع استقرار نظام عالمى كامل، فإن الفراغ الذى يخلّفه لا يبقى فارغًا أبدًا، لا بدّ أن يأتى من يملأه.
تضيف: نابليون بونابرت قال: أنا الثورة. ستالين، الشىء نفسه. ترامب: أمريكا، هى أنا! تشعر بالحزن على الولايات المتحدة فى الوقت الحالى. تقول: إنهم يفقدون مكانتهم كقوة عالمية، والصين ستتولى القيادة إذا استمروا على هذا النحو.

التنبؤ بالمستقبل
تتحفّظ «أتوود» دائمًا على أى يقين أيديولوجى مطلق. فى كل قضية تسأل: هل هذا صحيح؟ هل هو عادل؟ ولمن الفائدة؟ فهذه، بالنسبة لها، هى الأسئلة الجوهرية. وبوصفها روائية، ترى أن مهمتها طرح الأسئلة، لا تقديم الإجابات. كما تحب أن تذكّر دائمًا بأنها لا يمكن أن تُفصل بسبب إجاباتها.
هل تخاف يومًا من أن تُحسب على «الجانب الخاطئ من التاريخ»؟ تضحك قائلة: «لقد هاجمنى الناس منذ عام ١٩٧٢. مررت بذلك من قبل، وفى قضايا مختلفة». ثم تضيف مصحّحة: «التاريخ ليس طريقًا يؤدى حتمًا إلى مكان ما، كما كان يعتقد الماركسيون ومن تأثروا بقراءات دينية للتاريخ. الاتجاهات تأتى وتذهب، ولا أحد يستطيع التنبؤ بالمستقبل بيقين مطلق».
تُعرف «أتوود» بوصفها «نبيّة المستقبل»، ما جعل كثيرون يسألونها عن مصير العالم. وقد استبدل سؤال «لماذا تكرهين الرجال؟» بسؤال «هل هناك أمل؟»، وهى، رغم اهتمامها العميق بفترات الظلام فى التاريخ الإنسانى، عادة ما تتجنب النغمة الكارثية. لكنها هذه المرة تعترف: «الوضع مضطرب فعلًا الآن. موازين القوى تتغير، واليقينيات القديمة لم تعد موجودة. نعم، مررنا بأزمنة مضطربة من قبل، لكننا ننسى. هذا أكثر العصور إثارة للرعب».
سؤال الموت
كثيرًا ما يُسأل سؤال تعتبره «غبيًا إلى حد ما»: هل أنتِ اليوم الشخص نفسه الذى كنتِ عليه فى شبابك؟
فترد بحدة ساخرة: «لو كنت كذلك فعلًا لكنا فى مأزق كبير. نظرتك تتغير مع الزمن، ولِمَ لا؟ فالوقت لا يتوقف أبدًا».
وحين يتوفى شخص مسنّ، تقول: «ليست مأساة، بل اكتمال لحياته»، وتشير إلى صديقة مسنّة قررت أن تموت الشهر المقبل، إذ إن الموت بمساعدة طبية أصبح قانونيًا فى كندا منذ عام ٢٠١٦.
تتذكر أيضًا جرايم جيبسون، زوجها الراحل، الذى شُخِّص بالخرف فى العام التالى. وفى النهاية، لم يعد يتذكر أسماء الطيور التى كان يحبها، فتقول بأسى: «بالتأكيد كان جرايم سيفعل ذلك أيضًا، لولا إصابته بنزيف دماغى حاد».







