نادية هناوى: الذكاء الاصطناعى لن يهزم الإبداع البشرى أبدًا
فى ظل النقاشات الجارية حول الإبداع والمعرفة والتقنية، يأتى كتاب «الذكاء الاصطناعى: التأهيل والتهويل» للناقدة العراقية نادية هناوى ليطرح أسئلة حول حدود إبداع الذكاء الاصطناعى، ومدى تهديده للإبداع البشرى، سواء على مستوى الكتابة الأدبية أو النقدية. يأتى الكتاب الصادر حديثًا عن دار أبجد فى سياق المشروع النقدى الممتد للناقدة العراقية، والذى اشتبكت من خلاله مع مفاهيم نقدية مثل الاختلافية، وعبر الأجناس، والسرد التاريخى، والرواية التسجيلية، لتواصل من خلال هذا العمل تفكيك البنى السردية والفكرية للكتابة المعاصرة، فى مواجهة الذكاء الاصطناعى بوصفه كاتبًا ومنافسًا للإنسان.
فى هذا الحوار، نناقش مع نادية هناوى حدود الذكاء الاصطناعى وإمكاناته داخل الفضاء الأدبى والسياق النقدى، كما نتوقف عند ما يثيره من تحولات فى الكتابة، ودوره فى إعادة تشكيل الذائقة الأدبية فى وقت تتجاور فيه المخيلة الإنسانية والبرمجة الآلية على نحوٍ غير مسبوق.

■ صدر لكِ مؤخرًا كتاب «الذكاء الاصطناعى: التأهيل والتهويل»، فكيف استعددتِ لهذا المشروع؟ وما الدافع الذى قادك إلى طرحه فى هذا التوقيت تحديدًا؟
- يحذر الكتاب من التهويل الإعلامى الذى يمضى قويًا، ويصنع من تقنية الذكاء الاصطناعى «عصا سحرية»، فهدفى هو فتح حوار علمى مع من يرى فى الآلات الذكية غاية بحد ذاتها، تولِّد سرديات إبداعية جاهزة، تفوق الإبداع البشرى.
أما الدوافع التى حملتنى على تأليف هذا الكتاب فكثيرة، فأهمها هو ما أخذت الساحة الأدبية العربية تشهده خلال الأعوام الثلاثة الماضية من ظهور نوع من السرد يسمى بالسرد الحاسوبى هو حصيلة عمل النماذج اللغوية الكبيرة للذكاء الاصطناعى. وعلى الرغم من أن هذا السرد طارئ، فإن له آثارًا راهنة ومستقبلية، سببها الانبهار المذهل بالتكنولوجيا الرقمية من جهة والدعاية الإعلامية المكثفة من جهة أخرى، إذ لا تنفك الأخبار الثقافية والمتابعات الصحفية تنقل إلينا آخر مستحدثات الشركات المصنعة لنماذج هذا الذكاء، وما تتوصل إليه من نتائج، تَحسم أمر صناعة الأدب لصالح الروبوتات.
■ على أى أسس منهجية ومعرفية بنيتِ المنظور النقدى للكتاب؟
- تستند الأسس المنهجية لتأليف كتابى على الإجابة عن الأسئلة الاتية: كيف يؤثر المؤلف الاصطناعى فى إنتاج فنون السرد وأساليبه؟ وهل يلغى وجوده دور السارد البشرى، أو بالعكس يسهم فى تعزيز دوره وتطوير سرده؟ هل يمكن لدمج النظرية السردية بتقنيات الآلات الذكية أن تُنتج ناقدًا اصطناعيًا؟ وهل يمكننا أن نسهم فى تطوير السرديات العربية من خلال الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعى؟ ما الذى يمتلكه السرد الحاسوبى من سمات فنية أو فعاليات جمالية تجعلنا نفيد منه فى تطوير السرد الإنسانى؟
■ ترين أن هناك تهويلًا فى تقدير قدرات الذكاء الاصطناعى، خصوصًا فى مجالى الكتابة الأدبية والنقدية. فهل يستند هذا الموقف إلى معاينتك لما هو متاح من نماذج راهنة فقط، أم أنك تتبعتِ أيضًا مسار التطوير الجارى فى هذه التقنيات وما يمكن أن تبلغه مستقبلًا؟
- لا شك فى أن جدلية الذكاء الاصطناعى والإبداع الأدبى ستبقى قائمة مع كل تطور تقنى آتٍ، ولكن الأوهام ستظل كما هى بإزاء قدرة البرامج التوليدية على إنتاج النصوص السردية والشعرية. لذلك قمت باختبارات عدة للنماذج اللغوية الحالية وهى 3 chatgpt4O chatgpt وGemini وClaude وGork وغيرها. وشكلت تلك الاختبارات الباب الأول من كتابى «الذكاء الاصطناعى: التأهيل والتهويل»، فى حين شكلت الباب الثانى سرديات الذكاء الاصطناعى المعرفية. وفيها انصرفت باتجاه تناول الخلفيات الفكرية والفلسفية التى تحيط بالذكاء الاصطناعى، مع طرح إشكالات تتعلق بالوعى، والهوية، والملكية، والحرية، والصدق.
أرى أنه مهما تطورت الوسائط الافتراضية وتعقدت الشبكات العصبية، فإن ذلك لن يجعل المبدع البشرى يعانى من نضوب الخيال، بل بالعكس سيسهم تطور التكنولوجيا فى زيادة تحليق المبدع فى آفاق الخيال، فالسرد منذ القدم نمط من أنماط الحياة، والظواهر الخارقة والأسرار الغامضة هى التى حملت الإنسان على ممارسة السرد، متخيلًا محيطه وسابرًا أرجاء الكون بوعيه.
ومن ثم، فمهما اختلفت تقنيات الذكاء الاصطناعى، فإن هناك مناطق عقلية تتعلق بالإبداع فى بعديه العاطفى والفنى لا يستطيع الذكاء الاصطناعى الوصول إلى آليات عملها. فالذكاء الاصطناعى آلة مدربة على التجميع والتصنيف والتنظيم والتحليل والترجمة والتمييز لملايين البيانات وليس قادرًا على الشعور الذاتى أو الإدراك العقلى لنفسه.
صحيح أن الذكاء البشرى لا يستطيع إنجاز ما ينجزه الذكاء الاصطناعى بسرعة، ولكن لا اختلاف فى أن التأنى فى التفكير عامل مهم من عوامل وقوع المبدع على متخيلات مبتكرة وأصيلة، كما أن الدماغ البشرى مدرب على تأدية مهام، لا سبيل للحواسيب لأن تضاهيها. علاوة على ذلك فالذكاء البشرى ليس مجرد قدرات حسابية، بل هو أيضًا قدرات نفسية عاطفية وعلاقات اجتماعية.
ولأن لا ضابط يحدد قدرات البشر العاطفية والاجتماعية، يغدو مُحالًا على الآلة الذكية أن تتفهم فاعلية الذكاء البشرى فى بُعده الإنسانى. ولا خلاف فى أن الأدب من أكثر مجالات الحياة مساسًا بإنسانية الإنسان، ولهذا تقف قدرات الذكاء الاصطناعى عاجزة عن اجتراح الجديد أو الابتكار فيه.
■ تذهبين إلى أن الذكاء الاصطناعى يُحاكى ولا يُبدع، لكن أليست المحاكاة ذاتها أحد أصول الفن منذ أرسطو؟ أين يتوقف التقليد ويبدأ الإبداع فى رأيك؟
- لو كنا نتحدث عن إبداع إنسانى أيًا كان فنيًا أو عمليًا، فإن المحاكاة ستنطبق عليه بمفهومها الفلسفى الذى وضعه أفلاطون وأرسطو، لكننا فى مجال الذكاء الاصطناعى نتحدث عن فعل آلى جامد لا حياة فيه. ومن ثم لا مقارنة بينه وبين الإبداع البشرى الذى هو عملية ذاتية معقدة، شعورية حينًا ولا شعورية حينًا آخر، حسب سياقات اجتماعية وسيكولوجية معينة. وهو ما لا يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعى أن تتعلمه أو تتدرب على آلية عمله، فضلًا عن أن تحيط به، إذ يقوم عمل تطبيقات الذكاء الاصطناعى على محاكاة البنية العصبية للدماغ البشرى بطريقة تعلم الآلة، ووظيفتها تعلم أنماط البيانات عبر شبكات عصبية اصطناعية، وهو يأتى عادة متبوعًا بالتزييف العميق، ووظيفته توليد محتوى نصى بصرى، لا يتعدى عمله حدود القراءة الآلية التى على وفقها يتم تجميع البيانات والتعرف إليها صوتًا وصورة وتنظيمها وتحليلها وتشخصيها ومعالجة النصوص وفهمها وإجراء المحادثات والتوليف اللغوى والترجمة الآلية على وفق أنظمة تعمل بشكل يحاول أن يتشبه ببعض قدرات الإنسان العقلية وليست مضاهاتها كلها.
ولقد أكد صانعو الذكاء الاصطناعى أنفسهم حقيقة تفوق البشر فى المجال الإبداعى، وأقروا بالخصوصية والمسئولية عن الأخطاء فى التمييز الآلى عند استعمال أى تطبيق من تطبيقات هذا الذكاء فى كتابة الأدب.
■ يذهب بعض المنظّرين إلى أن التكنولوجيا تغيّر الذائقة.. فهل يمكن أن نقرأ الذكاء الاصطناعى بوصفه عاملًا يعيد تشكيل معايير القيمة الأدبية؟
- نتذكر ما قيل حول الرواية الرقمية والقصيدة الرقمية، وكيف حظى الأدب الرقمى العربى باهتمام إعلامى وثقافى منذ تسعينيات القرن العشرين، لكن أين هم كتّابه؟ إنهم قلة ولا يزالون قلة، بينما نقاد الأدب الرقمى من الكثرة ما يصعب معه إحصاء أسمائهم. وهذه المفارقة بين قلة عدد منتجى الأدب الرقمى وكثرة نقاده، هى وحدها مؤشر مهم يعطينا صورة لحالة الانبهار بأمر الآلات الرقمية مما نشهده حاليًا مع استعمال النماذج اللغوية الكبيرة للذكاء الاصطناعى.
ولا ننسى ادعاءات الرقميين من أن الآلات تشكل تحديًا يواجه الأديب فى ظل عصر معرفى، وأن النص المسمى «المترابط» سيحل محل النص الورقى. ودعا بعضهم إلى كتابة عربية رقمية. وذهب آخرون إلى عدِّ السرد الرقمى موجة جديدة غير عابرة ستحسر مجال القصة والرواية الورقيتين، وأن أدباء الإنترنت هم أدباء المستقبل، وأن العلم التقنى سيقضى على الخيال الأدبى. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن كُتاب الأدب الرقمى لا يتعدون أصابع اليد الواحدة ولم يحققوا انتشارًا بين أوساط القراء والمتلقين، ومن ثم انحسر أمر القصيدة الرقمية والرواية الرقمية.
ولا يختلف الوضع كثيرًا مع السرد الحاسوبى، الذى هو حصيلة ما يطلبه المستخدم من أغراض يقوم الروبوت بتحقيقها استنادًا إلى ما هو متراكم فى شبكة الإنترنت من نصوص أدبية، مودعة فى شكل بيانات ضخمة. والمحتوى السردى المتحقق ليس نتاج تفكير الروبوت، بل هو نتاج محاكاته البيانات الضخمة فى الشبكة العنكبوتية، ثم معالجتها خوارزميًا بطريقة التزييف العميق واعتمادًا على مجموعة من الوسائط المتعددة.
■ حين تتحدثين عن التجارب التى أجريتها باستخدام «شات جى بى تى» فى التحليل النقدى ووصفتِ نتائجها بأنها سطحية، هل فكرتِ أن محدودية المخرجات قد ترتبط بطريقة التوجيه أو طبيعة الأوامر أكثر مما ترتبط بقدرات الذكاء الاصطناعى نفسه؟
- لا فرق فى التطبيق العملى على نماذج الذكاء الاصطناعى، لأنها جميعًا شبكات تعلم آلى بوساطة خوارزميات عصبية تفتقر ذاتيًا إلى الإحساسات العاطفية، ومن ثم هى غير مؤهلة لابتكار نصوص أصيلة. وكل ما تقوم به هو أنها تعمل على تحوير وتدوير ما تدربت عليه، وهو تجميع البيانات الضخمة المخزونة فى شبكة الإنترنت ثم معالجتها وفق برامج خوارزمية تحاكى ما تنتقيه من تلك البيانات محاكاة حاسوبية باستعمال تقنية التزييف العميق من دون أى وعى ذاتى أو تعاطف نفسى مع المحتوى النصى المنتَج.
وإذا قيل إن الذكاء الاصطناعى رأس مال يغنى الأميين الرقميين ويحول دون تفشى الأميَّة الثقافية والرقمية فإنه مجرد تطلع مبالغ فيه، لأن الذكاء الاصطناعى لا يصنع لوحده باحثين ونقادًا بارعين، فهو ليس سحريًا، بل تعلم الآلة لما هو مستودع من بيانات فى الذاكرة الحاسوبية. وفى مجال النقد الأدبى، لن يكون الذكاء الاصطناعى موضوعيًا ولا قادرًا على أن يكون ذا بعد عاطفى، لأنه ببساطة تجميع للبيانات ومحاكاة لها لا غير. وقد تكون فى هذا التحصيل، خيبة أمل لمن يتصورون أنّ الذكاء الاصطناعى سيغنيهم عن الموهبة، ومن ثم لا حاجة إلى وجود مبدعين بيننا. وأغلب هؤلاء هم من ناقصى الموهبة ومن حسّاد أهل الإبداع.
■ قارنتِ بين الدول الغربية التى تضع تشريعات لضبط الذكاء الاصطناعى، والدول النامية التى تستهلك التقنية بلا تنظيم. فى ضوء هذا، كيف يمكن للثقافة العربية برأيك أن تبنى وعيًا نقديًا بالتكنولوجيا؟
- للدول المتقدمة قوانينها وظروفها، فضلًا عما فيها من حركات ومنظمات تجعل مسألة التعامل مع الذكاء الاصطناعى غير محصورة فى البعد الأخلاقى، بل تتجاوزه إلى البُعد القانونى والحقوقى من قبيل المطالبة بقوانين تحفظ للذكاء الاصطناعى حقوقه من إساءة معاملة البشر له، وما قد يلحقونه به من ضرر. وهناك من يناقش أفضلية الآلات الذكية على الإنسان فى اتخاذ القرارات الأخلاقية، على أساس أنها أكثر عقلانية، ولا تنجرف وراء عواطفها.
ومهما يكن الأمر، فإن من المهم التوعية بحقيقة ما فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى من حسنات ومساوئ، تتجلى على مختلف مستويات الحياة. ولا ننكر أنه من غير المنطقى مطالبة الآلات بأن تكون أخلاقية تحترم ملكيات المؤلفين السابقين وتتحلى بالنزاهة الأدبية. وحتى لو قيل إن بالإمكان تغذية الآلة الذكية بالقواعد الأخلاقية، فإن ذلك غير ممكن، لأن الأخلاق نفسها ذات طبيعة متغيرة، وليست لها قواعد ثابتة. إنما المسئول عن ذلك هو المستخدم الذى ينظر إلى الأدب المنتج بالآلة الذكية على أنه إبداع أصيل، يمكن نسبته إلى نفسه، وإشهاره على أنه من نتاجه الخاص.
إن هذه المؤاخذات على توظيف الذكاء الاصطناعى فى عملية إنتاج النصوص الإبداعية الأدبية والفنية، تعد تحديات أخلاقية حالية ومستقبلية، تستوجب التوعية الفكرية بضرورة احترام الملكيات الأدبية، وعدم انتهاكها أثناء جمع البيانات ومعالجتها ومشاركتها.
■ ما الذى ترين أن النقد الأدبى يحتاجه اليوم ليواكب أسئلة العصر؟
- ينبغى على نقدنا المعاصر التحرر من قيود النظر التجزيئى إلى النص الأدبى عبر الشعور بأهمية العلم النظرى، وإتقان كيفية تلقى المفاهيم وتطبيقها، ومواكبة المستجدات العالمية من جانب آخر. ولا شك فى أن راهنية ما يجرى على الساحة العالمية من كشوفات ومستجدات نقدية، تفرض على الباحثين والنقاد العرب أن يبتكروا نظريًا وإجرائيًا ما يسد نقصًا مفاهيميًّا هنا، أو يعالج قصورًا اصطلاحيًا هناك، أو يقوّم عثرات أصابت بعض مساراته، أو تعقيدات أشكلت على دارسيه. وبذلك فقط يمكننا أن نظفر بفرصة الإمساك بنظرية، بها تتأكد أصالة النقد العربى، وتتضح أهمية ما فيه من أنظمة واشتغالات.







