المفكر العراقى عبدالحسين شعبان: النُخب العربية تعجز عن إنتاج فكر جديد لانغماسها فى الخرافة
- لولا تدخّل الجيش وحسمه الأمور فى مصر لاتّجهت الدولة نحو «الأخونة»
- النُخب العربية انقسمت بين الماضوية والاغترابية لذلك فهى مستهلِكة أكثر مما هى منتجِة
- نحتاج إلى نظام عالمى جديد أكثر عدلًا لتصحيح العلاقة بين القوى الكبرى والدول المستضعفة.. ولعلّ ملامح نظام دولى جديد بدأت تظهر
- نحيا فى عصر الذكاء الاصطناعى.. ومن يتمكّن من امتلاك مقدّراته والاحتفاظ بأسراره ستكون له اليد الطولى دوليًا
- الذكاء الاصطناعى يحمل أفضل ما فى الاكتشافات العلمية وأسوأها
- نحتاج إلى مشروع نهضوى عربى جامع يقوم على أساس استنهاض القوى الكامنة فى مجتمعاتنا
- المحتل الإسرائيلى يسعى لفرض حكم الأمر الواقع سواء فى غزة أو لبنان أو سوريا دون اكتراث بالمجتمع الدولى
يأتى هذا الحوار مع المفكّر العراقى عبدالحسين شعبان بوصفه أحد أكثر العقول العربية اشتباكًا مع أسئلة الفكر والإنسان والدولة، فهو صاحب رحلة طويلة تمتد لأكثر من ستة عقود فى الدفاع عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، كما أنه ظل شاهدًا حيًا على أفول المشاريع الكبرى وصعود الهويات الجزئية، فترك أثرًا واسعًا على مستوى الفكر العربى عبر الكثير من المؤلفات.
ظلّ عبدالحسين شعبان على امتداد مسيرته صوتًا نقديًا يراجع المسلّمات، ويعيد طرح الأسئلة المؤجلة حول الديمقراطية، وإشكاليات الدولة الوطنية، وأزمة النخب، ومأزق الحركات السياسية، وحدود الهوية، ومصائر المنطقة فى زمن الانقسامات الكبرى.
فى هذا الحوار، ننطلق من أحدث مؤلفاته، لنناقش معه أزمة النخب العربية ولماذا ظلّت عاجزة عن إنتاج فكر جديد، ومأزق الطائفية وصعود الخرافة، والعلاقة بين الماضوية والاغترابية فى تكوين الوعى العربى، ونطرح عليه أسئلة حول شروط إنتاج مشروع فكرى معاصر، ورؤيته لسُبل التغيير فى المنطقة.

■ صدر لك مؤخرًا كتاب بعنوان «هسهسات الضوء - فى أنطولوجيا الثقافة العراقية»، وفيه تختار أربعين شخصية عراقية بارزة من مجالات معرفية وفكرية متنوعة، وتقيّم أعمالهم. فما المعايير التى اعتمدت عليها فى تحديد هذه النخب؟ وإلى أى مدى تكشف مقاربتك لهم عن تحولات الواقع الثقافى العراقى؟
- الشخصيات التى توقّفت عندها كانت لها بصمة واضحة ومشاركة فعّالة وملموسة فى مجالات اختصاصاتها من جهة، فضلًا عن مساهماتها فى رفد الحركة الفكرية والثقافية والحقوقية والأكاديمية والاجتماعية فى العراق من جهة أخرى. وكان الإبداع والتميّز هما أول المعايير التى اعتمدتها، وهى تعكس إلى حدود كبيرة الخريطة الاجتماعية العراقية، وتشكّل الفسيفساء الثقافية العراقية بموزائيكها المتنوّع.
وثمة معيار آخر، وهو علاقتى الشخصية بالغالبية الساحقة من هذه الشخصيات أو معرفتى بها ومتابعتى لأدوارها، ولهذا جاءت كتاباتى عنها عن قرب، وحتى من لم أكن قد تعرّفت عليه مباشرة بسبب فارق المرحلة التاريخية، إلّا أن علاقتى به كانت غير مباشرة من خلال قراءتى له والاطلاع على منجزه الإبداعى، فضلًا عن تنقيبى عمّا يخصّه فى المراحل التاريخية التى لم أعشها.
والمعيار الثالث أن الاختيار وقع عليها كل على انفراد، أى أننى لم أخطط للكتابة عن كلّ واحد منها أو أبحث عن أسماء مبدعة لضمّها فى كتاب أو أسعى لسبر أغوار سيرتها، بقدر ما كنت أبحث عن المعانى المشتركة والعميقة فى الثقافة العراقية، وشاءت الظروف أن تكون ثمة مناسبات مختلفة للكتابة عنها، الأمر الذى جعلنى أمام مسئولية التفكير بجمع ما كتبته عن هذه الشخصيات المتميزة فى كتاب مرجعى، يؤرّخ للثقافة العراقية ويعرض منجزها من خلالها، وذلك بضم بعضها إلى بعض بخلطة أقرب إلى التفاعلات الكيميائية، خصوصًا بمزج السيسيولوجيا بالأنثروبولوجيا فى دوارق مختبرية تجمع الفكر بالقانون والأدب بالسياسة والفن بالاجتماع لتنتج هذه الأنطولوجيا الثقافية العراقية بمدارسها وتياراتها واتجاهاتها المتعدّدة والمتنوّعة، المختلفة والمؤتلفة، الخاصة والعامة.
هكذا يجتمع عالِم الاجتماع إلى جانب الشاعر الكلاسيكى والشاعر الشعبى باللغة المحكية وشاعر الحداثة والروائى والسينمائى والصحفى وعالِم الاقتصاد وعالِم القانون وعالِم السياسة والطبيب والقاص والكاتب والمعماريّة والمسرحيّة وفقهاء الدين والصعاليك، كما لم يجتمعوا من قبل، فى سرديات تمثّل حقبًا زمنية من تاريخ العراق المعاصر، شملت شخصيات يسارية وأخرى يمينية، مثلما كان بعضها مدنيًا والآخر دينيًا، وبعضها عربيًا والآخر كرديًا، وبعضها مسلمًا والآخر مسيحيًا، ولكلّ واحد منظوره الفلسفى الخاص ورؤيته للحياة والتطور، وكانت معالجاتى تعتمد على معايير الجمال والحقيقة والعدالة.

■ بالمقارنة بين كتابك السابق «الزمن والنُخب - فى أنطولوجيا الثقافة العربية» وكتابك الجديد «هسهسات الضوء- فى أنطولوجيا الثقافة العراقية»، ما الإضافة التى يقدمها الكتاب الجديد فى فهم الثقافة العراقية مقارنة بالرؤية العربية الشاملة للكتاب السابق؟
- تناول الكتاب الأول «الزمن والنخب – فى أنطولوجيا الثقافة العربية» ٤٨ شخصية من ١٦ دولة عربية، ولكن من وجهة نظر عراقية، أى أن الرؤية العراقية كانت حاضرة من خلال المؤلف الذى كان يبحث فى المنجز الإبداعى والجمالى للشخصيات الفكرية والثقافية العربية، بما هو مشترك وجامع وموحِّد، دون إهمال الفوارق، مع التأكيد على احترامها.

أمّا المعايير التى اعتمدتها فهى ذاتها التى سرتُ عليها فى كتابى الجديد. الكتاب الأول ألقى ضوءًا على المشتركات الإنسانية فى الثقافة العربية بعامة، وخصائصها المتنوعة ومناهجها المتعددة وألوانها المختلفة فى إطار عقلانية نقدية تعدديّة بخاصة. أما الكتاب الثانى فقد سلّط الضوء على الثقافة العراقية بمدارسها المختلفة وتياراتها المتعددة ومنابعها المتنوعة، باحثًا فى الوقت نفسه عمّا هو مشترك وجمالى وإبداعى عبر التاريخ الأنثروبولوجى والسيسيولوجى المعاصر، دون إهمال علاقة الأصالة بالحداثة والماضى بالحاضر والتراث العربى - الإسلامى بما هو كونى وعالمى.
الكتابان غُصنان فى شجرة الثقافة العربية والعراقية، وهما متّصلان بالثقافة الكونية، ولعلّ عددًا من الذين تناولتهم فى الكتابين ينتمون إلى ما يمكن أن نطلق عليه «المثقف الكونى»، الذى بحثت فى مواصفاته وحيثياته بإسهاب عند كتابتى عن إدوارد سعيد ومحمد السيد سعيد وهادى العلوى ومحمد عابد الجابرى وسعدى يوسف وشيركو بيكه سى وناهدة الرماح وقيس الزبيدى وعدد آخر غيرهم ينطبق عليه هذا الوصف.

■ صدرت لك عدة كتب عن الشاعر محمد مهدى الجواهرى، كان آخرها «جواهر الجواهرى». بما أنك أشرت إلى علاقتك الشخصية به، ما السمات المشتركة التى وجدتها بينكما، وما الجديد أو التركيز الخاص الذى يقدمه كتابك الأخير عنه؟
- فى محاضرتى فى مكتبة الإسكندرية الموسومة «إبحار فى أرخبيلات الجواهرى» (٢٨ أكتوبر ٢٠٢٥)، والتى نُظّمت احتفالًا بصدور كتابى «جواهر الجواهرى» عن دار سعاد الصباح فى الكويت العام ٢٠٢٤، قلت ردًا على سؤال بالمعنى الذى تفضّلت به: إن الكثير من المشتركات جمعتنى بالجواهرى الكبير بمحض الصدفة.
تمتدّ علاقتى بالجواهرى إلى نحو ثلاثة عقود من الزمن، فكلانا ينحدر من مدينة النجف الأشرف، حيث مرقد الإمام على، وينتمى إلى بيئة دينية وعلمية وأدبية واحدة، فالجواهرى ينتسب إلى كتاب ألّفه جدّه الأقدم محمد حسن النجفى، والذى عنوانه «جواهر الكلام فى شرح شرائع الإسلام»، والذى يضمّ ٤٤ جزءًا، ويُعتبر أحد أهم المراجع الأساسية المعتمدة فى الحوزة العلمية النجفية.
أمّا عائلتى فقد احتلّت مركز السدانة فى الحضرة العلوية بموجب ثلاثة فرمانات سلطانية عثمانية منذ أكثر من ٥٠٠ عام. كما أننى سليل أسرة دينية أدبية، وجدى الأقدم هو الشيخ حبيب شعبان الذى جاء على ذكره على الخاقانى فى كتابه «شعراء الغرى» الصادر فى النجف فى العام ١٩٥٤ باعتباره أحد النوابغ من آل شعبان إحدى الأسر النجفية الحميرية القحطانية العريقة، لكن الزمان طارده وأقصاه، كما حاربه الدهر وشنّ عليه غارات الفقر والفاقة، فترك الحوزة العلمية والحضرة العلوية والشعر ورحل إلى الهند وعاش كهولته هناك، وكان يكتب الرسائل من رامبور، وله مطارحات ومكاتبات مع أدباء عصره. ولا يزال قبره فى مومباى قائمًا ويُعدّ مزارًا باعتباره أحد الفقهاء الكبار الذين عاشوا فى الهند «١٢٩٠هـ – ١٣٣٦هـ».
وعزّز هذه العلاقة عيشنا فى منافٍ واحدة فى براغ ودمشق، وتأثّرنا بتيار فكرى واحد، وقد أثمرت هذه العلاقة الطويلة عن ثلاثة كتب وعدد من المخطوطات والكاسيتات المسجّلة بصوت الجواهرى، أولها - كتاب «الجواهرى فى العيون من أشعاره» الذى صدر عن دار طلاس فى دمشق العام ١٩٨٦ وبالتعاون مع الجواهرى الكبير، وهو بمثابة مختارات من شعر الجواهرى، مثّلت ذائقتى الشعرية وشملت منجز الجواهرى الذى قارب نحو ٢٥ ألف بيت شعر، بل هو عمارة شعرية كاملة، منذ عشرينيات القرن الماضى، حتى أواسط الثمانينيات. وثانيها، كتاب «الجواهرى - جدل الشعر والحياة»، الذى صدر فى مطلع العام ١٩٩٧ فى بيروت واحتوى إضافة إلى المختارات على حوارات أجريتها معه، وتميّزت بانفتاح وأريحية وبوح شديد. وثالثها، كتاب «جواهر الجواهرى»، الذى صدر عن دار سعاد الصباح العام ٢٠٢٤.

ولعلّ ما ميّز كتاب «جواهر الجواهرى» عنوانه الذى اتّسم بموسيقية اللفظ ودقّة التعبير ودلالة المعنى، والجديد فيه هو ضبط أواخر الكلم فى كلّ قصيدة، واستخراج بحور جميع القصائد وتثبيت عدد أبيات كلّ قصيدة فى الأصل، كما أضفتُ إليه شروحات وتعليقات وتفسيرات أخرى لاعتقادى أنها يمكن أن تسهم فى تسهيل فهم قصائد الجواهرى للقارئ العادى وللطلبة الدارسين، كما قمت بتحديث سيرة الجواهرى حتى وفاته، وأضفت القصائد التى كتبها الجواهرى بعد موسوعة «العيون»، وهى تسع قصائد ما عدا قصيدة «أمين لا تغضب»، المنشورة فى الستينيات.

■ فى كتابك عن كيسنجر وبريجنسكى، تناولت كيف أسهمت أفكارهما فى تحويل التفكير الاستراتيجى الأمريكى من الواقعية الباردة إلى بناء النظام العالمى الجديد. إلى أى مدى ترى أن هذا النهج ما زال يؤثر على سياسات الولايات المتحدة اليوم، خصوصًا فى ملفات مثل أوكرانيا أو الشرق الأوسط؟
- شهد العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية حربًا باردةً بين المعسكرين الرأسمالى والاشتراكى، خصوصًا بعد انفضاض التحالف المُعادى للنازية والفاشية والعسكرتارية اليابانية، منذ أن أطلق ونستون تشرشل صيحته الشهيرة عام ١٩٤٦ فى فولتون بولاية ميزورى الأمريكية، داعيًا لتشكيل تحالف أنجلو أمريكى لمحاربة الشيوعية العالمية. ومنذ ذلك الحين أخذ الصراع الأيديولوجى الدولى اتجاهًا جديدًا، خصوصًا بعد السباق النووى فى الخمسينيات.
وفى الستينيات، خاصة فى عهد الرئيس جون كينيدى وبعد أزمة البحر الكاريبى، ازداد الاهتمام بوسائل الدعاية والإعلام فى الحرب الباردة، متخذًا من القوة الناعمة والحرب النفسية والتغلغل البطىء والطويل الأمد أساليب للتأثير على العدو ومن داخله، بضعضعة أركانه الفكرية والثقافية عبر السينما والفن والأدب وطرائق الحياة.
مثّل كيسنجر وبريجنسكى «العقل السياسى الاستراتيجى الأمريكى»، بتحالف المجمّع العسكرى الحربى مع المجمّع الصناعى التكنولوجى، وكانا مؤثرين فى ترست الأدمغة إلى جانب الرؤساء وأصحاب القرار، إضافة إلى الأجهزة الأمنية المختلفة، ولمعرفتهما بالمطبخ السياسى وتأثيراته.

وعلى الرغم من رحيل بريجنسكى فى ٢٦ مايو ٢٠١٧ وكيسنجر فى ٢٠ نوفمبر ٢٠٢٣، ظلّت تأثيراتهما فى السياسة الخارجية مستمرة، سواء قبل انهيار الكتلة الاشتراكية أو بعدها. وكنت قد قرأت آراءهما منذ أكثر من أربعة عقود وانشغلت بتحليلها فى كتابى «الصراع الأيديولوجى فى العلاقات الدولية وانعكاساته على العالم العربى»، (١٩٨٥).
توقفت فى السنوات الأخيرة عند آرائهما وأفكارهما التاريخية والفلسفية والسياسية الراهنة، ولذلك حين أقول إنهما أسهما فى رسم السياسة الأمريكية، فهذا يعكس الواقع الذى أظهر شأنهما الكبير فى الصراع الأيديولوجى ضدّ الكتلة الاشتراكية.

ولكى أربط الماضى بالحاضر، بعد الإطاحة بالنظام الاشتراكى فى أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتى، بحثت فى أهم النظريات التى سادت فى الحرب الأيديولوجية وكيف تم توظيفها: نظرية بناء الجسور، ونظرية المجتمع الصناعى، ونظرية التقارب، ونظرية المجتمع المزدهر، ونظرية البيان اللاشيوعى، ونظرية التفريغ الأيديولوجى، ونظرية التكامل والتدرّج. وكلها وسائل فى الحرب النفسية الناعمة التى أثمرت فى نهاية الثمانينيات بإسقاط الاتحاد السوفيتى بعد التغلغل الناعم والضغوط السياسية والنفسية على «العدو»، الذى كان وضعه الداخلى هشًا ومتخلخلًا بسبب شح الحريات والبيروقراطية والاختناقات الاقتصادية، خصوصًا فيما سمى بـ «حرب النجوم ١٩٨٣».
وعلى الرغم من غيابهما عن المواقع الرسمية، ظلّا مؤثرين فى السياسة الأمريكية، كما أوردت فى مقال «أوكرانيا والبطن الرخو»، حيث رأى كيسنجر أن أوكرانيا القوية ستكون ثقلًا موازيًا وحاسمًا لروسيا، بينما حذّر بريجنسكى من أن سيطرة موسكو عليها تعنى إعادة بناء إمبراطوريتها، الأمر الذى يستوجب دعم كييف.
وأدرك بوتين ذلك، فاستعاد شبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤، محذرًا من استخدام أوكرانيا للضغط على روسيا، خصوصًا مع تحالفها مع الصين وتدخلها فى سوريا منذ ٢٠١٥. وأكد بريجنسكى على ضرورة عدم إذلال روسيا بعد انتهاء الحرب الباردة. كما أن مصير أوكرانيا مرتبط بالجغرافيا، فى حين يحاول الناتو وواشنطن استغلالها كوسيلة تهديد، معتبرة نشر أسلحة على الحدود «خطًا أحمر»، ومحاولة انضمامها للناتو ستقابل برد قوى، بينما تحاول واشنطن وحلفاؤها عدم تمكين موسكو من استعادة قوتها.

أما الشرق الأوسط، فالأمر أعقد فى ظل اختلال توازنات القوى منذ انهيار الكتلة الاشتراكية، وتفكك الوضع العربى، وانحسار التضامن العربى بعد غزو الكويت ١٩٩٠، وحروب الخليج، واتفاقيات أوسلو، وغزو العراق ٢٠٠٣، والتمدد الإسرائيلى والاستيطان والحصار على غزة والعدوان المتكرر، وآخرها عملية طوفان الأقصى ٢٠٢٣ وما تلاها، بالإضافة إلى استمرار العدوان على سوريا ولبنان بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد.

■ هل ترى أن النخب العربية ما زالت تستهلك الفكر الاستراتيجى الغربى دون أن تنتج عقلها السياسى الخاص؟ وكيف يمكن استعادة المبادرة الفكرية عربيًا؟
- للأسف الشديد أن النخب العربية لا تزال مستهلِكة أكثر مما هى منتجة، وذلك بسبب شح الحريّات، ولا سيّما حريّة التعبير، والنقص الفادح فى مجال الحريّات الأكاديمية وضعف الموارد المخصّصة للبحث العلمى، وإذا ما قارنا ذلك مع بلدان أخرى سنرى الهوّة الشاسعة بيننا وبينها، والمقصود ليس الدول المتقدمة، بل دول تنتمى إلى العالم الثالث.
ولعلّ أول أسس الدولة العصرية، التى نفتقر إليها، هو حكم القانون الذى ينبغى أن يسير بخط متوازٍ مع الشرعية السياسية، لأن المشروعية القانونية لوحدها ستكون عرجاء دون شرعية سياسية، وهذه الأخيرة تتأتى من رضا الناس وتحقيق منجزات ومكاسب لها، بحيث تشعر بانتمائها إليها.
لقد ظلّت علاقة المواطن العربى بالدولة فى الغالب عدائية أو غير تصالحية، ويعود ذلك إلى النهج الذى ساد فى دول ما أطلقنا عليه «التحرر الوطنى»، فتحت عناوين تحرير فلسطين تمّت مقايضة التنمية وتأجلت الإصلاحات وقُوّضت الخطوات الأولى الجنينية للديمقراطية، بزعم أن العدو يدق على الأبواب وعلينا شدّ الأحزمة على البطون، وتوجيه كلّ شىء إلى «الجبهة»، وهكذا تمّ تقليص هوامش الحريّات.

وبعد ثلاثة أرباع القرن لم نستعد الأرض، بل إن إسرائيل تمادت باحتلال المزيد منها، ولم تتحقّق التنمية ولا الإصلاحات الضرورية، الأمر الذى أصبحت فيه الدول التى سارت على هذا الطريق دولًا فاشلةً، وحتى بعد تجارب ما أطلق عليه «الربيع العربى»، لم تستطع السلطات الجديدة، باستثناءات محدودة، من انتهاج طريق التنمية المستدامة وتوسيع خيارات الناس فى حكم يقبله الشعب، ولولا تدخّل الجيش ومساهمته فى حسم الأمور فى مصر لاتّجهت الدولة نحو «الأخونة» و«الإسلاموية» بعيدًا عن أهداف الانتفاضة الشعبية، والأمر كذلك فى تونس، ولولا خطايا الإسلامويين لكان حزب النهضة الإسلامى مهيمنًا على مقاليد الأمور، واستمرّت الاحترابات الداخلية فى ليبيا والسودان واليمن، إضافة إلى الصومال، التى شهدت حروبًا أهلية ألحقت أضرارًا كبيرة مادية ومعنوية وبالدرجة الأساسية بالسكان المدنيين العزّل، فضلًا عن تعطّل التنمية.

لم تستطع النخب العربية إنتاج فكر جديد لأنها بحاجة إلى وعى جديد ينبذ الخرافة والطائفية والتعصّب ووليده التطرّف، ويتّجه حثيثًا نحو التربية والتعليم والعلم والمعرفة، خصوصًا بانتهاج طريق يفضى إلى العقلانية والمدنية والتطوّر ومواكبة روح العصر.
النخب العربية انقسمت بين نخب ماضوية تريد إعادة الماضى بدلًا من الاستفادة منه لصالح الحاضر والمستقبل، لا سيّما إيجابياته، ونخب اغترابية تريد نبذ التراث وتعتبر أى حديث عن التاريخ والاستفادة من دروسه إنما يتعارض مع الحداثة وينتمى إلى القدامة، التى لا يمكن بأية حال من الأحوال إحداث تنمية حقيقية دون القطيعة الأبستملوجية معها. أما النخب العقلانية التساؤلية النقدية، فلا تزال ضعيفةً وغير مؤثرةً، خصوصًا فى ظل هيمنة العادات والتقاليد البالية، بما فيها من عصبوية وعشائرية ومذهبية تكبّل المجتمع وتعوقه عن السير فى طريق التقدم.

■ أشرتَ فى كتابك «كيسنجر وبريجنسكى: ترست الأدمغة والاستراتيجية الأمريكية» إلى التحالف الخفى بين الفكر والسياسة. فى زمن الانقسام الدولى الجديد وصعود قوى آسيوية وروسية، هل يمكن أن نشهد بداية تعددية فكرية عالمية؟ أم أن الهيمنة الفكرية للغرب ما زالت تمارس نفوذها عبر أدوات ناعمة مثل الإعلام والتكنولوجيا؟
- يبقى الفكر مؤثرًا فى السياسة، مثلما توظّف السياسة الفكر لصالحها عبر الصراع أو الاتفاق، وأحيانًا بسباق محموم بين الاثنين. وإذا كانت السياسة تستخدم الأدوات المختلفة لصالح الناس فهى تعمل لتحقيق «الخير العميم» حسب أرسطو، وهو ما يذهب إليه ابن خلدون أيضًا، فالمُلك بالعدل، وفقًا للخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز الذى وجّه أحد ولاته بقوله «سوّر مدينتك بالعدل».
والسياسة دائمًا ومنذ فجر التاريخ وحتى نهايته، إن كانت له نهاية، هى صراع بين قوى اجتماعية واتفاق مصالح، مع التشديد على عنوان كتاب فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، فإذا كانت الحرب الباردة قد قامت على الصراع الأيديولوجى بين المعسكرين الشرقى والغربى، فإن انهيار الكتلة الاشتراكية بعد الإطاحة بجدار برلين ١٩٨٩، جعلت الصراع يتّجه اتّجاهًا آخر بعد هيمنة الولايات المتحدة، التى عملت على اختراع عدو جديد اسمه «الإسلام»، بل عملت على الترويج للإسلاموفوبيا «الرهاب من الإسلام»، واعتبرته الخطر الداهم بعد انهيار الشيوعية.
وبالمقابل فثمة ردود أفعال انطلقت من تيار متعصّب ومتطرّف فى مجتمعاتنا يعتبر أن كل ما يصدر عن الغرب إنما هو عنصرى واستعلائى، وبالتالى واجهت الإسلاموفوبيا بالويستفوبيا «الغربفوبيا، أى الرهاب من الغرب»، وكلتاهما استخدمت الأيديولوجيا وسيلة فى الصراع ضدّ خصمه أو عدوّه.
صحيح أن الغرب عنصرى واستعلائى، لكن هذا هو الغرب السياسى، وثمة غرب آخر هو الغرب الثقافى، الذى وقف مع قضايانا العادلة، ومنها القضية الفلسطينية.
ويبقى الغرب المستودع الكبير لخير ما أنجبته البشرية، خصوصًا فى ظلّ الثورة العلمية - التقنية واقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعى، الأمر الذى يحتاج إلى نظام عالمى جديد أكثر عدلًا وتوازنًا من سابقه لتصحيح العلاقة بين القوى الكبرى المتنفّذة والدول المستضعفة الصغيرة. ولعلّ ملامح نظام دولى جديد قيد التشكّل بدأت تظهر، لا سيّما بصعود الصين وتقدّمها العلمى والتكنولوجى وتحالفها مع روسيا ودول بريكس، الأمر الذى سيقود إلى تعددية قطبية، بدلًا من أحادية قطبية، حيث انفردت الولايات المتحدة بالقرار الدولى بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وتحلّل الكتلة الاشتراكية.
وأستطيع القول، دون خشية من الوقوع فى الخطأ، إن عصرنا هو عصر الذكاء الاصطناعى، ومن يتمكّن من امتلاك مقدّراته والاحتفاظ بأسراره واستخدام تقنياته سيكون له اليد الطولى فى العلاقات الدولية. وإذا قيل خلال الحرب العالمية الأولى: إن من يمتلك النفط يسيطر على العالم، وهو قول صحيح، لأن النفط يشكّل المادة الأساسية للطاقة ووقود المحرّكات وبنزين الغواصات والطائرات، فإن الصحيح أيضًا أن من يتحكّم بالذكاء الاصطناعى يستطيع أن يتحكّم بمجريات العلاقات الدولية. ومن هذه المعطيات نتفهم مخاوف كلّ من الولايات المتحدة والصين وخشيتهما بشأن مآلات الصراع.

■ هل يمكن القول إن الذكاء الاصطناعى اليوم هو «المستشرق الجديد»؟ لا سيما أن البيانات التى يُدرب عليها وتحيزات مبرمجيه تجعله أداة لنشر رؤية غربية للعالم، حتى عندما لا نطلب ذلك منه صراحة؟
- كان الحديث عن الذكاء الاصطناعى فى مطلع تسعينيات القرن المنصرم أقرب إلى سينما هوليود ذات الخيال العلمى الخارق، وأصبح فى نهاية الربع الأول من القرن الحادى والعشرين حقيقة قائمة ومجالًا واسعًا للتطوّر، ولديه قدرة فائقة على إحداث تغيير غير مسبوق فى حياة البشر ومستقبلهم، سلبًا أو إيجابًا، فى العمل والصحة والتعليم والمناخ ومكافحة الجريمة والحروب والعلوم وغيرها.
باختصار إنه ثورة تكنولوجية تفوق القدرات البشرية، وبالطبع فإن تغيير شكل التكنولوجيا سيؤدى إلى تغيير فى منظومة القواعد القانونية وتطبيقاتها، ناهيك عن تغيير منظومة الأخلاق والقيم الإنسانية المعروفة. وهكذا يصبح القرن الحادى والعشرون هو قرن الذكاء الاصطناعى بامتياز، وهو الذى سيُغيّر العالم على نحو غير مسبوق، ولا مثيل له منذ ظهور الإنسان قبل ملايين السنين. فهل سنعيش مع البشر الآليين؟
والسؤال الكبير اليوم الذى يشغل العالم وتدور حوله المنافسات والصراعات الدولية، خصوصًا بصعود الصين: كيف يمكن أنسنة الذكاء الاصطناعى؟ بحيث تتم السيطرة عليه، ووضع الضوابط القانونية المتفق عليها دوليًا لعدم استخدامه بما يؤدى إلى إلحاق الضرر بالبشرية، فهو كان وما زال أحد أكبر التحديات التى تواجه البشرية اليوم.
بهذا المعنى، فالذكاء الاصطناعى ربما سيكون الشكل الجديد للحضارة الإنسانية، ولا تزال المعرفة بالتقنيات الخاصة به محدودة، والدراسات القانونية شحيحة، فضلًا عن القواعد الناظمة لحركته غير متفق عليها بين القوى المتنفّذة على النطاق الدولى، وهو الأمر الذى يزداد تعقيدًا فى ظلّ السباق المحموم الأمريكى - الصينى.
تثير التطورات السريعة والعاصفة التى حصلت فى مجال الذكاء الاصطناعى العلماء وعامة الناس على حدّ سواء، لأن الجزء المعروف منه حتى الآن شحيح جدًا، ناهيك عن كونه ما فوق بشرى، والخشية أن يوظّف الذكاء الاصطناعى للشرّ والحروب وضدّ البشرية ورخائها، ولا سيّما فى الصراع الدولى أو النزاعات الداخلية، ناهيك عن استخدامه فى نشر الكراهية والتعصّب ووليده التطرّف والعنف ونتاجهما الإرهاب، فضلًا عن أنه يمكن أن يستخدم لتصفية الحسابات فى تزوير الحقائق وتشويه القيم وبث الافتراءات وهتك الأعراض والافتئات على الناس، وبيع المعلومات الشخصية والعامة، بما فيها ما يتعلّق بالأمن القومى والتلاعب بالأسرار الخاصة.
باختصار إن الذكاء الاصطناعى إن لم تتمّ أنسنته فقد يوظّف لأغراض شريرة، ولهذه الأسباب ثمة سعى لوضع مبادئ قانونية وإدراج القيم الأخلاقية فى القوانين الوطنية، إضافة إلى مساعٍ دولية لوضع مدوّنات يتمّ الاتفاق عليها بما يضمن الحقوق الإنسانية، وأساسها الحفاظ على حق الحياة وتأكيد المساواة بين البشر واحترام الكرامة الإنسانية، وعدم التمييز والحق فى الخصوصية وحق الوصول إلى المعلومات واحترام حقوق الأشخاص ذوى الإعاقة وغيرها.
ويدعو الفريق الذى يريد «أنسنة» الذكاء الاصطناعى إلى ضرورة أن تكون نظمه منسجمة مع القيم الإنسانية والأخلاقية، مثل: قيم السلام واللّاعنف والتسامح والحرية والمساواة والعدالة والشراكة، إضافة إلى احترام التنوّع والهويّات الفرعية والخصوصيات الوطنية والمحليّة للمجموعات الثقافية.
وثمة حقيقة لا ينبغى تجاهلها، سواء نظرنا إلى الذكاء الاصطناعى بوجهه السلبى أم الإيجابى، فإنه أصبح قدر البشرية ولا مردّ له، وهو يحمل أفضل ما فى الاكتشافات العلمية وأسوأها فى الآن.

■ بعد كل هذه السنوات من الإنتاج الفكرى، كيف ترى مسيرتك الفكرية اليوم؟ ما أهم الإنجازات التى شعرت بالرضا عنها، وما الذى تمنيت تحقيقه ولم يتحقق؟
- أشعر أننى متصالح مع نفسى على الصعيد الإنسانى، وفيما يخصّ مسيرة عبدالحسين شعبان الإبداعية والثقافية، دائمًا ما أراجعها، وأنتقد بعض الجوانب السلبية فيها، ولعلّ الرضا عن النفس يفقد المثقّف طموحه، لأننى أبقى أجرّب بحثًا عن الأفضل، ويبقى مثل هذا الطموح قائمًا طالما بقى فىّ عرق ينبض، وذلك بعيدًا عن الرضا عن النفس فيما تحقق من منجزات وما نلته من أوسمة وجوائز.
ودائمًا ما كنتُ أقول إننى أعتزّ حتى بأخطائى، لأنها جزء منى، وقد اجتهدت فأخطأت، أو أننى بنيت رأيى ووجهة نظرى على معطيات لم تعد صحيحة اليوم، أو أن معطيات جديدة توافرت ولم تكن موجودة حينها، الأمر الذى يتطلّب إعادة النظر بالاستنتاجات السابقة واستبدال الرأى أو تغييره، وكان فيكتور هوجو يقول «إنه لثناء باطل أن يقال عن رجل إن اعتقاده السياسى لم يتغيّر منذ أربعين عامًا، فهذا يعنى أن حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكرى فى الأحداث. إنه كمثل الثناء على الماء لركوده وعلى الشجرة لموتها».
إن الذين لا يتغيرون لا يفعلون شيئًا. إنهم يتحولون الى أصنام ولا يتأثرون أو يؤثرون فى الحياة المتحرّكة، والإنسان الذى لا تغيّره التجارب ولا تترك الأحداث تأثيراتها عليه يُصاب بالصدأ ويتآكل، والسياسة تجارب، وقد تخطئ وقد تصيب، ولكن عليك أن تجرّب باستمرار، لا سيّما إذا كانت بوصلتك دقيقة وحساسيتك الإنسانية عالية، ولا يهم إن غيّرت رأيك وأعدت النظر فى الكثير من مواقفك وتراجعت عنها وانتقدت نفسك، فالحياة فيها الكثير من المنعرجات والتضاريس وهى لا تسير بخط مستقيم، وتحتاج إلى التواصل والاستمرارية، وعكسها يكون الجمود والتحجّر.
يقول نيتشه على المرء أن يغيّر أفكاره مثلما تنزع الحيّة جلدها. أما التشبث بالمواقف أو ادعاء امتلاك الحقيقة، فهذا رأى من لا يريد التفاعل مع الحياة، وهو دليل عجز وتقهقر.

■ بعد رحلة طويلة من المراقبة والتحليل للشأن العربى، من حقبة المد القومى والتحررى، وحتى اليوم. ما هى السيناريوهات الكبرى التى تراها محتملة للمستقبل العربى فى العقد المقبل؟
- فى الدراسات المستقبلية دائمًا ما نضع ثلاثة سيناريوهات؛ الأول: المتشائم والذى يمكن أن تتدهور حالة الوطن العربى ويزداد مستقبله عتمة، خصوصًا فى ظلّ سيادة المرحلة الإسرائيلية، لا سيّما بعد حرب الإبادة التى شهدتها غزّة، والتى استمرّت عامين، وحتى بعد وقف القتال، فإن إسرائيل لا تزال مستمرة فى عدوانها، فضلًا عن التوسّع فى المستوطنات فى الضفة الغربية، حيث زاد عدد المستوطنين منذ اتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣ ولحد الآن حوالى مليون مستوطن، ولا تزال خطة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب غامضة وتثير شكوكًا مشروعة بشأن الوصاية الجديدة والإدارة الدولية غير المحددة بزمن، وهكذا يصبح موضوع الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام ١٩٦٧ مجرد سراب، فى ظلّ التراجع العربى واللهاث وراء أوهام لا تُغنى ولا تُسمن من جوع، علمًا بأن المحتل الإسرائيلى يسعى لفرض حكم الأمر الواقع، سواء فى غزة أو لبنان أو سوريا، حيث ما برح منذ وقف إطلاق النار من ممارسة تمدّده دون إكتراث بالمجتمع الدولى طالما أن اختلالًا حصل فى موازين القوى، فوجدها فرصة لبسط نفوذه مدعومًا من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والرئيس ترامب تحديدًا.
السيناريو الثانى: المتشائل، أن يبقى الحال على ما هو عليه، فلسطين مقسمة والقطاع معزول عن الضفة ونقاط التفتيش الإسرائيلية قائمة، والوضع العربى يتعامل بردود أفعال باردة إزاء ما حصل، فضلًا عمّا يخطط له من تطبيع العلاقات، بحيث يصبح الأمر الواقع واقعًا، وقد تستمرّ هذه المرحلة لفترة غير قصيرة إلى أن يحصل تبدّل فى موازين القوى، إمّا بالمزيد من الاختلال أو الاعتدال.
أما السيناريو الثالث: المتفائل، فهو أن تجرى تغييرات على المستوى الدولى، وهذه يمكن أن تنعكس عربيًا، وذلك بصعود الصين وتحالفها مع روسيا والدور المنتظر لدول «بريكس» التى تضمّ إضافة إلى الدولتين الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وينتقل النظام الدولى من الأحادية الهشة والمهزوزة التى انتهى إليها بعد اضطرار الولايات المتحدة الانسحاب من العراق العام ٢٠١١ إثر غزوها عام ٢٠٠٣، إلى تعددية قطبية فى طور التكوين، خصوصًا أن المعركة على من يمتلك أسرار الذكاء الاصطناعى وتقنياته وتطبيقاته لا تزال غير محسومة.
ويمكن أن يترافق ذلك مع نهوض عربى بحيث تستطيع الدول العربية تدريجيًا الخروج من الهيمنة الأمريكية الكاملة إلى التعامل المتوازن مع الأقطاب الأخرى، الاتحاد الأوروبى والصين وروسيا ودول «بريكس»، على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
والأمر يحتاج إلى مشروع نهضوى عربى جامع بحدّه الأدنى، يقوم على أساس استنهاض القوى الكامنة فى مجتمعاتنا، وبلورة أهدافها الواقعية والمبدئية بالاستقلال السياسى وتحقيق التنمية المستدامة وتوسيع خيارات الناس باختيار الحكّام واستبدالهم، واعتماد مبادئ المواطنة المتساوية، وتحقيق العدالة الاجتماعية والانبعاث الحضارى وتوفير فرص مناسبة للتنسيق والتعاون العربى، وصولًا إلى مرحلة أرقى من الاتحاد.
ولعلّ ذلك يمكن أن يحقّق توازنًا إقليميًا بين المشاريع القائمة فى المنطقة، والذى يُعتبر أخطرها المشروع الصهيونى الاستعمارى الإحلالى الإجلائى الاستيطانى، والمشروع القومى الأيديولوجى الفارسى ذو التوجهات المذهبية، وكذلك المشروع القومى الأيديولوجى التركى ذو الميل المذهبى، ولذلك فإن قيام مشروع عربى تحرّرى يمكن أن يشكّل معادلًا مكافئًا لهذه المشاريع الإقليمية الثلاثة، فضلًا عن أنه يمكن أن يقود تقليل النفوذ الأجنبى الدولى فى بلداننا العربية.







