الخميس 04 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

الوهج المفقود.. متى تعود قناة النيل الثقافية؟ (ملف)

حرف

تاريخ يمتد إلى ما يربو عن ربع قرن تحمله قناة النيل الثقافية، ففى عام 1998 انطلقت القناة ضمن شبكة قنوات النيل لتكون أول قناة عربية متخصصة فى الثقافة والفكر والفنون، وتحت إشراف الشاعر والإعلامى جمال الشاعر، الذى آمن منذ اللحظة الأولى أن الثقافة لا ينبغى أن تبقى حبيسة الصالونات المغلقة ولا حكرًا على النخب وحدها، بل يجب أن تتحول إلى خبز يومى يتغذى عليه وجدان الناس ويضىء حياتهم.

منذ انطلاقتها حملت القناة مشروعًا طموحًا؛ أن تكون جسرًا بين المفكرين والجمهور، وأن تعيد الاعتبار للمثقف العربى، بعدما همشته عقود من التغيرات الاجتماعية والسياسية، وأن تضعه فى مواجهة المجتمع لا فى برجه العاجى. كانت الرؤية أن تتجسد الثقافة فى صورة حيّة نابضة، تحاور الناس وتقترب من قضاياهم، فانطلقت القناة بخطة لتقديم بانوراما للحياة الفكرية والإبداعية فى مصر والعالم العربى، تستعيد رموز الماضى وتحتفى بأصوات الحاضر وتفتح نوافذ على المستقبل.

مع مرور السنوات تحولت شاشة النيل الثقافية إلى أرشيف حى، مكتبة سمعية وبصرية ثمينة، تضم لقاءات نادرة مع كبار الكُتّاب والمفكرين والفنانين من مصر والعالم العربى والعالم، حتى غدت هذه المواد كنزًا ثمينًا يمثل شهادات على زمن ثقافى كامل، وأصوات لأجيال متعددة، ومرآة عكست لحظات الفكر والإبداع فى أوجها ومخاضاتها.

كانت القناة بيتًا جامعًا للمثقفين والمفكرين على اختلاف توجهاتهم، فى زمن اتسم بالحراك والجدل والبحث عن هوية، فجمعت بين الفنون الرفيعة والفكر الجاد، ووضعت المشاهد فى قلب النقاشات المحتدمة، سواء حول قضايا الهوية والحداثة، أو أسئلة الحرية والعدالة، أو معارك التجديد فى الأدب والفنون. ومن جهة أخرى لم تغفل القناة الواقع الاجتماعى والإنسانى، فمزجت بين الاهتمام بالتراث والذاكرة، والاقتراب من هموم الناس، محاولة أن تجعل الثقافة قوة تغيير إيجابى. 

وعلى مدار سنوات، أصبحت قناة النيل الثقافية ساحة للنقاش الحر، ومختبرًا للأفكار، ومنبرًا يعكس التنوع الفكرى والإبداعى. سعت القناة لتكوين وعى جديد، وشاركت فى صياغة خريطة ذهنية لأجيال متعاقبة من المشاهدين، حتى بات ما قدمته جزءًا من الذاكرة الثقافية الجماعية، وأرشيفًا يشهد على مسيرة الثقافة العربية فى العقود الأخيرة.

لكن الصورة لم تبقَ مزدهرة على الدوام، فما حملته قناة النيل الثقافية من أهداف طموحة لم يتحقق على طول الخط. مع مرور السنوات، أخذت ملامح التراجع تتسرب إلى الشاشة، إذ خلق تعدد القنوات الفضائية بشكل متسارع حالة من التشبع الإعلامى، ومعها تراجع الاهتمام بتطوير القناة أو ضخ موارد كافية فى محتواها. وبما أن الثقافة تحتاج دائمًا جهدًا مضاعفًا لتقديمها فى صورة جاذبة للجمهور العريض لا للمثقفين وحدهم، فقد جعل غياب هذا الجهد القناة تنكفئ فى أوقات كثيرة على نفسها، لتدور داخل دائرة مغلقة: مثقف يستضيف مثقفًا آخر، فيشاهده المثقف ودوائر محدودة من المهتمين، دون قدرة على اختراق المجال العام الواسع.

وجاء صعود المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعى ليزيد الفجوة. فبينما تحولت هذه المنصات إلى المساحة الأوسع للتأثير وجذب الانتباه، ظلّت القناة متمسكة بأسلوبها التقليدى، دون أن تواكب إيقاع العصر أو تبتكر لغة جديدة تناسب المشاهد الرقمى. كانت هناك محاولات فردية للخروج من القالب القديم، لكنها افتقرت إلى الدعم المؤسسى أو الرؤية الواضحة، فلم تُحدث أثرًا يُذكر فى مكانة القناة أو فى ترسيخ دورها داخل مشهد إعلامى يشهد منافسة حادة على كل دقيقة من انتباه المتلقى.

وفى السنوات الأخيرة، ازدادت التحديات عمقًا واتساعًا. تراجع الكتاب بوصفه المصدر المركزى للثقافة لدى الأجيال الجديدة، وفقد التليفزيون كثيرًا من حضوره كنافذة أولى للمشاهد، بعدما باتت متابعة المحتوى مرتبطة أساسًا بمدى الترويج له عبر المنصات الاجتماعية. إلى جانب ذلك، فرضت ثقافة «الريلز» والاستهلاك السريع للمعلومة فى ثوانٍ معدودة إيقاعًا جديدًا للتلقى، بدا معه المحتوى الثقافى المقدم بالطريقة التقليدية أقل جاذبية وأبعد عن اهتمامات الجمهور العريض. وهكذا وجدت القناة نفسها أكثر فأكثر داخل دائرتها الضيقة، منغلقة على ذاتها، غير قادرة على كسر الجدار الذى يفصلها عن جمهور جديد واسع يحتاج إلى لغة مختلفة وأدوات مبتكرة.

ومع كل هذه التحولات، جاء لقاء الكاتب أحمد المسلمانى، رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، بأسرة قناة النيل الثقافية مطلع العام الجارى، ليقف عند واقع القناة وما يواجهها من تحديات، فى ظل تراجع الإمكانات المادية والتقنية من ناحية، وتصاعد حجم المنافسات الإعلامية من ناحية أخرى. بدا واضحًا أن هناك رغبة فى إعادة التفكير من جديد، وفى إحياء الدور الذى يمكن أن تنهض به منصة إعلامية حكومية، إذا ما أُتيح لها أن تؤدى وظيفتها الثقافية، لا سيما مع بدء البث منذ أغسطس الماضى تحت إشراف الإدارة المركزية للإعداد والتنفيذ المركزى بقطاع قنوات النيل المتخصصة، فى إطار خطة تطوير شامل للقنوات التابعة للقطاع.

يدرك القائمون على القناة والمسئولون عنها أن الثقافة العامة تتراجع على نحو مؤلم، فى وقت يزداد فيه حضور الأفكار الظلامية التى تجد طريقها بسهولة إلى الناس عبر وسائل متعددة، أو تسود بينهم حالة من التردى واللامبالاة التى تُفقدهم القدرة على تذوق الجميل وفهم مراميه، أو بناء أسس فكرية متينة يمكن الاتكاء عليها لمواجهة تعقيدات العصر، فنحن أمام جيل جديد يدخل الحياة بلا بوصلة واضحة، وتحيط به أزمات متعددة؛ أزمة قيم، وأزمة ذائقة، وأزمة معنى. وهنا ينبغى على منصة ثقافية عربية أن تتدارس: كيف يمكن استعادة الثقافة باعتبارها قوة فاعلة فى المجال العام؟ وما هى مكامن الخلل التى تحول دون تحقيق ذلك؟

من هذا السؤال انطلقنا، أردنا أن نعود إلى البداية، لنفهم كيف وُلدت القناة، وما الأهداف التى وُضعت لها، وكيف انحرفت تدريجيًا عن مسارها الأول، ولماذا لم تتمكن من أن تحافظ على مكانتها التى حلم بها مؤسسوها. أردنا أيضًا أن نعرف ما الذى يمكن أن يعيد الجمهور العريض إلى الثقافة، وأن يمنح القناة فرصة جديدة لتكون نافذة حقيقية على الفكر والإبداع.

من هنا، كان لقاؤنا مع جمال الشاعر، مؤسس القناة، الذى وضع أهدافها الأولى ورسم ملامح مشروعها. ثم مع المخرج أشرف الغزالى الذى تولى رئاستها فى فترة صعبة عقب ثورة يناير، وحاول أن يقدم إنجازات ويصنع فارقًا، لكنه اصطدم بعراقيل بيروقراطية ومؤسسية حدّت من قدرته على الاستمرار فى مسار التطوير. كما تحدثنا مع نائب رئيس القناة الحالى؛ عبدالناصر وصفى، الذى يمتلك رؤية تنطلق من دراسة أكاديمية معمقة حول القناة وجمهورها، تسمح له بقراءة الواقع ورسم تصورات مستقبلية. وأخيرًا كان حديثنا مع مدير الإعداد الحالى؛ إيهاب حفنى، الذى يقف على تفاصيل العمل اليومى داخل القناة، ويكشف لنا عن حجم الجهد المبذول خلف الكواليس، ولماذا لا ينعكس هذا الجهد على الشاشة كما ينبغى، وما الذى يمكن فعله لتعزيز الحضور الإعلامى للقناة وإعادتها إلى دائرة التأثير الواسعة؟

اقرأ فى الملف:

المؤسس.. جمال الشاعر: تقديم الأرشيف فى صورة عصرية أول خطوة للإنقاذ

الرئيس السابق.. أشرف الغزالى: التطوير يحتاج إلى ذهنية جديدة تعى متغيرات الإعلام

نائب رئيس القناة.. عبدالناصر وصفى: أزمتنا فى الدعم والإمكانات

مدير البرامج.. إيهاب حفنى: الإعلام الثقافى لن يؤثر ما لم يتكيف مع التغير السريع

حمدى الجزار: قدّمت مقترحًا بإنشاء وحدة متخصصة لـ«السوشيال ميديا» داخل القناة

حاتم رضوان: معظم البرامج متشابه ويفتقر إلى الحركة والتفاعل

ماهر زهدى: الجمود فى الشكل والمضمون سبب التراجع

رامى رأفت: المحتوى «دون المستوى» ويستلزم ثورة فى الفكر والتنفيذ

عزة رشاد: نحتاج إلى سُبل جديدة للدعاية وجذب الجمهور

محمد طرابية: التحجج بضعف الإمكانيات ليس مقنعًا